البصيرة والاستقامة
مقدمة الناشر
يتوجّه الخطاب القرآنيّ إلى ذوي العقول ويدعوهم إلى التفكّر وإعمال العقل من أجل بناء نفس بشريّة متوازنة توازنًا إيمانيًّا واعيًا فيعبدون الله عن معرفة وتلك أكمل العبادات، لذلك تكثر الآيات القرآنيّة الداعية لذلك ﴿أفلا تتفكّرون﴾[1] ﴿أفلا تبصرون﴾[2] ﴿أفلا تسمعون﴾[3] ﴿أفلا تعقلون﴾[4]، وكلّها تحثّ الفرد والجماعة على التفكير، فالنجاح الأعظم بالنسبة لأيّ فرد أو جماعة يتمثّل في نجاحه بتجسيد هذا الإيمان بصدق في عمله وسلوكه.
فالإيمان يستلزم جملة من الالتزامات الشخصيّة على صعيد عبادة الفرد وعلاقته بالله وبنفسه ومن حوله، وجملة من الالتزامات الجمعيّة التي تهدف إلى إقامة مجتمع توحيديّ تتحقّق في ظلّه الأحكام الإلهيّة، وعليه، يجب أن يكون هذا الإيمان على قدرٍ وافٍ من الوعي لإدراك المسؤوليّات والتكاليف، وهذا لا يمكن أن يتمّ إلّا لمن امتلك البصيرة القادرة على تحديد الهدف والتزام الاستقامة والثبات في تنفيذ التكليف.
يقول الإمام علي (ع): “إنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثمّ سلك جددًا واضحًا يتجنّب فيه الصرعة في المهاوي”[5]. فالبصيرة ضروريّة لمعرفة الصحيح من القول والفعل الذي على أساسه يمكن تحديد الهدف والمراد من التكليف الإلهيّ، فيسعى بعد ذلك لإقامته ويتحمّل لأجله الأعباء دون أن يتردّد فيه.
ولأنّ البصيرة والاستقامة مفردتان تختصران مسيرة إنسانٍ يبدأ بالملاحظة والتفكّر وإعمال العقل، يحدّد الهدف ويسعى إليه عن وعي وصلابة تحت ظلّ الأحكام الإلهيّة والتكاليف الشرعيّة، وجد دار المعارف الحكميّة بدًّا من ترجمة هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن خطب لسماحة الإمام الخامنئي (حفظه الله) في موضوعي “البصيرة والاستقامة”، ونشرها باللغة العربيّة، بعد توزيعها على فصلين وملحق.
يحمل الفصل الأوّل عنوان “البصيرة” التي يعرّفها الإمام الخامنئي (حفظه الله) بأنّها الوعي والتنبّه والتيقّظ ورسم الاتجاه الصحيح. فحين يمتزج الحقّ بالباطل يتطلّب الميدان اقتدارًا معنويًّا فيتبصّر القلب من أجل أن يعيد الارتباط الحقيقيّ بالباري فلا تزلّ الأقدام وتدرك القلوب حقائق الإيمان.
وفي هذا العرض، قدم الإمام الخامنئي (حفظه الله) المائز بين عهد حكومة الإمام علي (ع) وأيّام رسول الله (ص)، ففي الثاني، كانت الخنادق متمايزة عن بعضها ومفصولة تمامًا؛ خندق الإيمان وخندق الكفر. أمّا في عهد أمير المؤمنين (ع) فالمشكلة كانت في تداخل الصفوف والخنادق، ومن يصمد ويحارب مع علي (ع) كان عليه أن يكون على قدر من البصيرة “فلا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر والصبر”[6].
ثم ينتقل حفظه الله إلى عهد الإمام الحسن (ع) حين اشتدّت الظروف والمرارة كان بقاؤه حيًّا عين البصيرة والاستقامة لإماطة اللثام عن وجه معاوية الطاغية، وتكليفه كان إعداد الأرضيّة لمواجهة طويلة الأمد مع الطواغيت وهو ما حصل مع الإمام الحسين (ع).
وتطرّق أيضًا في الفصل نفسه للثورة الإسلاميّة الإيرانيّة وإيمان الشعب الإيرانيّ ومقاومته وبصيرته التي أوصلته إلى النصر. فالبصيرة مهمّة وضروريّة من أجل تبيان الحقائق من دون تعصّب ومن دون أن تسيطر الانتماءات الفئويّة على القلب لتحديد التكليف.
يحمل الفصل الثاني عنوان ” الاستقامة”، فهي من النقاط المهمّة التي ذكرها القرآن الكريم فيما يتعلّق ببناء المجتمع الإسلاميّ وتحقيق القيم الإلهيّة فهي تعني الثبات على الصراط المستقيم. فحين يتحقّق الاتصال الحقيقيّ بالملكوت الأعلى لا يمكن أن يتسلّل الخوف إلى النفوس في المضيّ والمحافظة على المجتمع الإلهيّ التوحيديّ الذي أراده الله.
ليست الاستقامة بمعنى تحمّل المشاكل في أيّ موضع كان لأنّ تحمّل المصاعب بالنسبة للإنسان العظيم أيسر من تحمّل المسائل التي تبدو في المقاييس الشرعيّة والعرفيّة العقليّة خلافًا للمصلحة. فالاستقامة الحسينيّة مثلًا ليس المقصود منها تلقّي السيوف والجراح فحسب، فإنّ كلّ جنديّ باستطاعته ذلك، إنّما في تحديد الهدف وتشخيصه وقيمة الصمود من أجله في سبيل الله.
وأضيف إلى الكتاب ملحق بعنوان “الفتنة” الذي يعتبرها الإمام الخامنئي (حفظه الله) الغبار الذي يتحرّك الناس في فضائه بعيون مغلّفة فتفرض مجتمعًا أناسه لا يتعرّفون إلى وجوه بعض فيرفع الأصدقاء والأخوة سيوفهم. فالفتنة تحضر عندما يفقد الإنسان البصيرة ليحدث الانحراف والضياع عندما تطاع الأهواء النفسانيّة.
نأمل أن يساهم هذا الكتاب في الوعي العامّ ويعين القارئ لتحديد الجهة الصحيحة التي عليه أن يتحرّك في فضائها فلا يضيع عمّا أمره الله ولا يزلّ في إقامته للتكاليف التي أرادها منه الباري ليرتقي نحو الملكوت الأعلى عن وعي ودراية لا عن سوقٍ لا إراديّ. فالعروج عن معرفة أفضل العبادات، جعلنا الله والقرّاء ممّن يسمعون القول فيتّبعون أحسنه.
والله من وراء المقصد
سكينة أبو حمدان
[1] سورة الأنعام، الآية 50.
[2] سورة القصص، الآية 72.
[3] سورة القصص، الآية 71.
[4] سورة البقرة، الآية 44.
[5] محمّد الريشهري، ميزان الحكمة (دار الحديث، الطبعة1، 1416ه)، الجزء 1، الصفحة 266.
[6] خطب الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده (قم: دار الذخائر، الطبعة1، 1412ه/ 1370ه.ش)، الجزء 2، الصفحة 87.
بسم الله الرحمان الرحيم
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم
بشكل التركيز على العدو والمؤامرة والحرب الناعمة وما شاكل من آثار الضلال، ونسيان نقاط الضعف والضلال في النفس التي هي أعدى عدو المرء بعض بل أخطر شواهد اختلال وضعف البصيرة .
فالذين يصرفون الإنتباه عن العيوب الذاتية، إنما يوهمون ضعفاء الأمة أن مشاكلهم وأزماتهم من العدو وليست من ضعفهم وضلالهم وجهلهم، وبذلك يمنعون تحقق الإصلاح في الأمة ويعينون العدو من حيث لا يدرون، بل هم أضر منه عليهم(أي ضعفاء الأمة)، والفقهاء هم الأسوء.
فالذي لا يملك البصيرة المطلوبة لكشف ومعرفة عيوبه فإنه مهيأ للإستسلام ولن يستطيع كشف التضليل والفتنة من جهة الذي يثق به ويقدسه ويقبل كلامه ،بفعل الإستسلام، على أنه حق.
الذي جعل الإنتصار على عدوه وتمريغ أنفه أكبر همه بل هدفه الأوحد، من فلن يصل، لذا باب أولى أن يهتم ويركز على نقاط ضعفه (التي تنخر في كيانه) وموانع القوة الحقيقية، فيكون قد انتصر على العدو بتفويت الفرصة عليه لاستهدافه وسد كل ما يشجعه ويغريه ويطمعه على التعدي وتجاوز الحدود وانتهاك الحرمات والإستضعاف.
بسم الله الرحمان الرحيم
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم
يشكل التركيز على العدو والمؤامرة والحرب الناعمة وما شاكل بعض آثار الضلال، ونسيان نقاط الضعف والضلال في النفس التي هي أعدى عدو المرء بعض بل أخطر شواهد اختلال وضعف البصيرة .
فالذين يصرفون الإنتباه عن العيوب الذاتية، إنما يوهمون ضعفاء الأمة أن مشاكلهم وأزماتهم من العدو وليست من ضعفهم وضلالهم وجهلهم، وبذلك يمنعون تحقق الإصلاح في الأمة ويعينون العدو من حيث لا يدرون، بل هم أضر منه عليهم(أي ضعفاء الأمة)، والفقهاء هم الأسوء.
فالذي لا يملك البصيرة المطلوبة لكشف ومعرفة عيوبه فإنه مهيأ للإستسلام ولن يستطيع كشف التضليل والفتنة من جهة الذي يثق به ويقدسه ويقبل كلامه ،بفعل الإستسلام، على أنه حق.
الذي جعل الإنتصار على عدوه وتمريغ أنفه أكبر همه بل هدفه الأوحد، من فلن يصل، لذا باب أولى أن يهتم ويركز على نقاط ضعفه التي تنخر في كيانه وموانع القوة الحقيقية، فيكون قد انتصر على العدو بتفويت الفرصة عليه لاستهدافه وسد كل ما يشجعه ويغريه ويطمعه على التعدي وتجاوز الحدود وانتهاك الحرمات والإستضعاف.