ضدّ الفتنة الطائفيّة
تعيش المنطقة العربيّة والإسلاميّة توترًا طائفيًاّ ومذهبيًّا، لم تشهده من قبل. ويبدو أنّ الصمت إزاء هذا التوتر ومتوالياته المختلفة، سيفضي إلى المزيد من المآزق الداخليّة التي تعانيها هذه المنطقة وبالذات في هذه اللحظة التاريخيّة الحسّاسة والحاسمة في آن.
وكما هو معلوم أنّ قمّة مكّة المكّرمة التي دعا إلى عقدها الملك عبد الله بن عبد العزيز بين دول العالم الإسلاميّ تحت يافطة “التضامن الإسلاميّ”، كانت رسالتها الأساسيّة هي رفض الفتن الطائفيّة في هذا العالم، وضرورة العمل على معالجة الملفّات الهامّة على هذا الصعيد. وكلّنا أمل أن تُنجز توصيات هذه القمّة الإسلاميّة، وبالذات على صعيد تطوير العلاقة بين المسلمين جميعًا.
وانطلاقًا من ضرورة البحث عن حلول ومعالجات حقيقيّة لهذه المعضلة، من الضروري كخطوة أولى الاعتراف بهذه المعضلة ومخاطرها الكارثيّة على الجميع.
المطلوب من الجميع عدم الانسياق وراء هذا التوتر، وإنّما العمل على إدارته بشكل صحيح كمقدّمة ضروريّة من أجل معالجة جذوره وأسبابه المباشرة وغير المباشرة. ولو قرّر كلّ واحد منّا، أن لا يكون طرفًا في هذه المشكلة، وألّا يغذّيها بقول أو ممارسة، فإنّنا سنحصل على بيئة اجتماعيّة قادرة على خلق تأثير ايجابيّ ونوعيّ تجاه هذه المعضلة. وعلى كلّ حال، فإنّ هذا التوتّر يتطلّب معالجة عاجلة وحكيمة، حتّى لا تتحوّل إلى أزمات اجتماعيّة وسياسيّة تهدّد أمن المنطقة، وتدخلها في نفق المناطق التي تعيش أزمات مستعصية ومزمنة في آن. ومن الطبيعيّ القول إنّ أيّ مجتمع من المجتمعات لا يخلو من وجود مشاكل وأزمات، ولكنّ المجتمعات تختلف عن بعضها البعض في طريقة التعامل مع المشاكل والأزمات. .
فالمجتمعات المتقدّمة تتعامل مع مشكلاتها وأزماتها بعقليّة علميّة – موضوعيّة، بحيث تعمل على تحديد الأسباب الجوهريّة للمشكلة، وسبل معالجتها.. وفي ضوء هذا الفهم والتحديد، تبدأ مسيرة معالجة هذه الأزمة أو المشكلة..
فهي لا تنكر المشاكل، وإنّما تعترف بها.. ولا تكتفي بهذا الاعتراف، إنّما تبحث عن عواملها وأسبابها الحقيقيّة، والسبل والآليّات القادرة على معالجة هذه المشاكل والأزمات..
أمّا المجتمعات المتخلّفة، فهي تخضع لمشاكلها، وتنكرها في العلن، أو لا تعترف بها بصراحة وشفافيّة، ولا تبحث عن حلول علميّة لأزماتها.. فلذلك هي تستفحل وتتفاقم دون وجود إرادة صادقة للحلّ والمعالجة..
فالمجتمعات الإنسانيّة قاطبة، تصاب بالمشاكل والأزمات، ولكن طريقة التعامل مع هذه المشاكل والأزمات، هو الذي يحدّد نوعيّة المجتمع.. فإذا كان معترفًا بها وساعيًا لدراسة أسبابها ومعرفتها وعواملها المباشرة وغير المباشرة، وعاقدًا العزم على معالجة الأمر، فهو من المجتمعات المتقدّمة، لأنّه لا يهرب من مشاكله، ولا يخاف من مواجهة عثرات الطريق والمسيرة..
أمّا إذا كان المجتمع يهرب من أزماته، ويتحايل على مشكلاته، ولا يمتلك الإرادة الصادقة والصلبة لمعالجتها، فهو من المجتمعات المتخلّفة، حتّى لو امتلك سلع الحضارة الحديثة، وإمكانات ماليّة واقتصاديّة طائلة..
ولعلّ ممّا يؤخذ على مجتمعاتنا، أنّها لا تعترف لأسباب سيكولوجيّة وثقافيّة واجتماعيّة بمشكلاتها، ولا تعقد العزم الحقيقيّ لمعالجتها.. لهذا فإنّ المشاكل، مهما كانت طبيعتها، تستفحل في محيطنا الاجتماعيّ وتستوطن، دون تحريك ساكن، أو القيام بخطوات ملموسة وجادّة للحلّ والمعالجة..
فإذا أصيب المجتمع لأيّ سبب من الأسباب بمشكلة ماليّة، فهو لا يبحث في أسبابها الجوهريّة، وإنّما يكتفي بالتأفّف، وكأنّ التأفّف هو علاج لهذه المشكلة الماليّة.. وإذا كانت العلاقات البينيّة بين مكوّنات المجتمع الواحد وأطيافه باردة أو جامدة، أو يشوبها سوء الظن والفهم، فالمجتمع عبر قواه المختلفة، بدل أن يبادر لإنهاء هذه المشكلة بالوسائل المتاحة أمامه، فإنّه يبدأ بتناقل الأخبار والمعلومات حول هذه المسألة، دون أن يبادر أحد بعلاج هذه المشكلة أو حتّى محاولة العلاج..
وكأنّ المهمّة الأساسيّة الملقاة على عاتق أبناء المجتمع، هو الانشغال بالقيل والقال.. لهذا، فإنّ المشاكل التي تبرز في مجتمعنا، سواء لأسباب موضوعيّة أو ذاتيّة، لا تتوفّر الإرادة الصلبة لمعالجتها.. ومع الزمن تتعقّد هذه المشاكل، وتأخذ أبعادًا نفسيّة وشخصيّة ومجتمعيّة، وتصبح بعد فترة، وكأنّها من لوازم مجتمعنا..
من هنا فإنّنا نقول: إنّ التكتّم على المشاكل لا ينفع ولا يفيد، وإغفال الأزمات مهما كان حجمها يكلّفنا الكثير..
وإنّ الخيار الحقيقيّ الذي يجب أن نلتزم به، في كل ّمؤسّساتنا وأعمالنا، هو الاعتراف بالمشاكل، وعدم إغفالها أو نكرانها أو التكتّم عليها، والعمل على دراستها بدقّة وموضوعيّة ومن ثمّ عقد العزم على تفكيك المشكلة ومعالجتها..
وأودّ، في هذا السياق، أن أتحدّث عن العلاقات الإسلاميّة (السنيّة – الشيعيّة) في العالم الإسلاميّ؛ حيث لا يزال التغافل عن هذه المشكلة أو التكتّم عليها هو السائد.. بينما المصلحة تقتضي المكاشفة والمصارحة، لمعرفة الأمور على حقيقتها كمقدّمة ضروريّة للمعالجة أو التعامل بحكمة مع آثارها ومتوالياتها..
وإنّنا نعتقد أنّ هذه المشكلة من أعقد المشاكل التي تواجه العالم الإسلاميّ اليوم وأصعبها وأخطرها على الراهن والمستقبل.. وإنّ المصلحة العامّة تقتضي مقاربة هذه المسألة بجديّة علميّة وموضوعيّة، بعيدًا عن السجالات المذهبيّة والمماحكات الأيدلوجيّة، للوصول إلى حلول ومعالجات عمليّة، تُخرج العالم الإسلاميّ برمّته من أتون أزمة مركّبة وخطيرة وذات مفاعيل متداخلة.. وإنّ استمرار حال التلاؤم بين الأطراف الإسلاميّة، لا ينهي حال الاحتقان التي بدأت تأخذ أشكالًا وصورًا عديدة. كما أنّ تحميل أحد الأطراف مسؤوليّة ما يجري لا يوصلنا إلى معالجة حقيقيّة للأمر.. وكلّ طرف بدوره يبرّأ نفسه من مسؤوليّة وصول الأمور إلى هذه الحال التي يشهدها العالم الإسلاميّ اليوم.. فتتحوّل مادّة التلاؤم على المستوى الفعليّ ، إلى مادّة إضافيّة تعزّز الجفاء والاحتقان المتبادلين..
فالعلاقات الإسلاميّة – الإسلاميّة، تمرّ بأسوأ مراحلها، وغياب المبادرات الجادّة لإصلاحها، ينذر بانحدار جديد على مستوى هذه العلاقة وعلى مستوى جسور الثقة بين الأطياف المذهبيّة في الأمّة..
من هنا، فإنّنا ندعو حكماء الأمّة وعلماءها وفعاليّاتها الدينيّة والثقافيّة والسياسيّة، إلى الالتفات إلى هذه المسألة، والبحث عن حلول ناجعة، تُوقّف عمليّة الانحدار وتفكّك عناصر الاحتقان والتوتّر، وتدفع باتّجاه بناء العلاقة على قاعدة الاحترام المتبادل ومقتضيات الحريّة والعدالة وحقوق الإنسان..
وفي هذا الإطار، ندعو إلى الأفكار الآتية :
1- العلاقة جدّ عميقة بين التعصّب الدينيّ والمذهبيّ والعنف السياسيّ والاجتماعيّ.. لهذا فإنّ تفكيك عناصر التعصّب المذهبيّ، يساهم في بناء علاقات إسلاميّة – إسلاميّة معتدلة ومستقرّة وإيجابيّة.. ونحن هنا لا نتّهم طرفًا دون آخر، لأنّنا نعتقد أنّ حال التعصّب المذهبيّ تسرّبت إلى كلّ الأطراف والشرائح. وإنّ المهمّة الملقاة على عاتق العلماء والدعاة ومؤسّسات البحث ومعاهد التفكير والمؤسّسات الدينيّة والثقافيّة والإعلاميّة، هو نقد ظاهرة التعصّب الدينيّ والمذهبيّ، ورفع الغطاء الدينيّ والاجتماعيّ عن كلّ الممارسات التعصبيّة، وذلك لتهيئة المناخ النفسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ لنسج علاقات إيجابيّة بين مختلف أطراف الأمة وأطيافها.
2- تتعدّد صور التوتّر وموضوعاته بين الأطياف المذهبيّة بين موضوعات ذات طابع تاريخيّ، وبين موضوعات راهنة متعلّقة بهواجس العلاقة وعناصر القوّة الذاتيّة والمفترضة لدى كلّ طرف.. وأعتقد من الصعوبة بمكان إنهاء حال التنافس الراهن، ولكن ما ندعو إليه هو ممارسة هذا التنافس بوسائل سلميّة – حضاريّة، وبعيدًا عن نزعات العنف والفصل والاستئصال.
أمّا بالنسبة إلى الموضوعات ذات الطابع التاريخيّ، فإنّنا جميعًا لن نتمكّن من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما أنّه من الصعوبة أن تتطابق وجهات نظر الجميع حول أحداث التاريخ ورجاله.. لهذا، فإنّ المطلوب على هذا الصعيد من جميع الأطراف هو الاحترام المتبادل ورفض الإساءة لأي طرف من الأطراف وتجريمها.. فمقتضى الشراكة الإسلاميّة هو أن نحترم قناعات بعضنا البعض، ورفض أيّ شكل من أشكال الإساءة لأيّ طرف أو شخصيّة تاريخيّة أو معاصرة..
وبهذه الآليّات تتمكّن المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة، من تنفيس الاحتقانات، وضبط نزعات التطرّف والتعصّب، وبناء علاقات إيجابيّة بين جميع الأطراف على قاعدة احترام التعدّد والتنوّع دون التضحية بمقتضيات الوحدة ومتطلباتها..
وجماع القول: إنّ إطلاق العنان للعداء أو العداوات المذهبيّة في المنطقة العربيّة، ينذر بكوارث ومخاطر حقيقيّة على كلّ الصعد والمستويات..
وإنّ المطلوب من جميع الجهات العمل على وأد الفتن الطائفيّة، وتجسير العلاقة بين أطياف الأمّة على أسس الحوار والتسامح والعدالة وصيانة حقوق الإنسان..