الخلاص المسيحيّ
اتّجاهات أربعة في عالم تعدّديّ
جون هيك
كلارك ه. بينوك
أليستر إ. ماكغراث
ر. دوغلاس غايفيت
و. غاري فيليبس
كلمة الناشر
فرضت أمواج التنوير التي اجتاحت أوروبا في سنيّ القرن الثامن عشر على مجالات الفكر بمختلف امتداداته إرهاصات كبيرةً أطاحت بكبرى مقولات الفكر السائدة فيها آنذاك. وامتدّت آثار تلك الأمواج لتصل إلى عالم الغرب من جهة، والعالم العربيّ والإسلاميّ من جهة أخرى، ودول الشرق الأقصى من جهة ثالثة، فتبدّى واقع التنوير كواقع شامل اجتاح العالم بأسره، وأضحى المجتمع البشريّ العامّ أمام تحقّق لنبوءات عصر صار يعرف بعد ذلك بـ عصر التنوير، وظهرت إثر ذاك ترسّبات فكر تمخّض عنها ظهور بعض كبريات مدارس الفكر الدينيّ والفلسفيّ، بل والسياسيّ الاقتصاديّ أيضًا.
ومن بين أبرز الذين تأثّروا بذلك الحراك كانت مقولات اللاهوت المسيحيّ. فلم تعد المقولات الكنسيّة حول يسوع والكنيسة والنصّ والدين وغيرها من المفاهيم المتسالمة على حالها، بل قد أضحى كلّ واحد منها عرضةً لسؤال الفكر الممتدّ، الذي لا يحول عامل قداسة ما ورائيّ دون سطوته.
ومع فتح التنويريّين لباب السؤال المطلق، ومع تشديدهم على محوريّة العقل البشريّ وقداسته السامية على كلّ قداسة، اكتسبت بعض مقولات السياسة – كالحرّيّة والدولة والقانون – سمة القيميّة التي خوّلتها فرض حاكميّتها على نشاط المؤسّسات الدينيّة التابعة للكنيسة وحراكها الفكريّ، بعد أن كانت الكنيسة ذات يوم مصدر القانون والتشريع ومظهر الدولة الحقيقيّة.
وقد كان من بين مولودات ذلك العصر مقولات الليبراليّة والديمقراطيّة، التي تحيل للشعب بكونه مظهر الإنسانيّة الأتمّ زمام السلطة والحكم بناءً على معايير اختلف أصحاب تلك الرؤى في تحديدها فظهرت هناك مدارس متعدّدة. وما يعنينا من هذه المسألة هنا الإضاءة على ما أرسته تلك المقولات من مفاهيم طُرحت بنحو جديد كمفهوم المساواة بين أبناء المجتمع، بمعزل عن معتقداتهم ومبتنياتهم الدينيّة ومستوياتهم الاجتماعيّة بل بلحاظ إنسانيّتهم فقط، ما سلّط الضوء على مشكلات اجتماعيّة متجذّرة هي من مخلّفات ما قبل عصر التنوير أبرزها مشكلة الطبقيّة والتمييز العنصريّ أو الدينيّ بين أبناء المجتمع.
وبتسليط هذا الضوء، تبدّى واقع مسألة التعدّديّة الدينيّة التي أصبح مطلوبًا التعامل معها وفق قيم المساواة بين البشر. فعالم القرون المتأخّرة بات يعترف لأصحاب كلّ معتقد بحقّ اعتقادهم، بل وبشرعيّته وأحقّيّته في إزاء سواه من المعتقدات، كما وفتح للفكر الفلسفيّ – بعد السياسيّ – بابًا إشكاليًّا على ساحة الدين الرحبة، فظهرت مقولات جديدة عُرف الإطار النظريّ الحاضن لها بفلسفة الدين. أمّا واقع التعدّديّة الدينيّة، فقد تقبّله البعض من علماء اللاهوت المسيحيّ بقبول حسن في حين أنكره بعض آخر متطيّرًا بتداعياته الخطيرة على ساحة الفكر الدينيّ. وقد انبرى مذّاك كلّ من الفريقين إلى تثبيت وجهته وتدعيمها بالأدلّة بغية إرسائها وبلورتها.
وما زالت حتّى يومنا هذا تداعيات ذاك التناحر مستمرّةً. وقد شهدت هذه الفترة أفولًا وخفوتًا لنجوم فكر ولاهوت تغيّرت معها معالم الفكر الفلسفيّ والدينيّ مرارًا.
وبعد طول تناحر بين التيّارَين، شهد العالم في القرن العشرين ادّعاءات جديدة تؤكّد دخول العالم عصرًا وُسِم ب عصر ما بعد التنوير، أو ما بعد الليبراليّة، وهو العصر الذي يُفترض فيه للمقولات الدينيّة والغيبيّة استعادة مركزيّتها في صُعُد الفكر المختلفة، وقد بات لهذا الرأي أنصار ومنظّرون حملوا على عاتقهم مهمّة نصرة الدين، وإعادة دور الإله بعد أن أقصي دوره في مقولات التنوير.
ومن بين أبرز مسائل اللاهوت المسيحيّ الشائكة – في ما مرّ من خضمّ – كانت مسألة الخلاص.
فأيّ فهم يمكن إرساؤه للخلاص عند المسيحيّين في ظلّ واقع التعدّدية الدينيّة المتجذّر من جهة، وسطوة مقولات فلسفة الدين الجديدة من جهة أخرى؟ هل لا زال الخلاص يحمل معناه الأوّل الذي تبنّاه علماء اللاهوت الأوائل الذي مفاده انحصار خلاص الإنسان بإيمانه بيسوع الإنسان-الإله، واعتناقه تعاليم الكنيسة القديمة؟ وهل السؤال عن سرّ تلك الطبيعة الآبية عن الفهم يكون مشروعًا في دين قامت دعائمه على إيمان مختزل للسؤال؟ وفي تحرير أوسع للمبحث، هل يمكن السؤال عن إيمان خارج دائرة الإيمان المسيحيّ؟
تلك كلّها، وغيرها، أسئلة فرضت على واقع الفكر المسيحيّ نفسها، فأوعزت لمفكّري اللاهوت المسيحيّ مهمة الإجابة، فانقسموا في الإجابة عنها إلى اتّجاهات ثلاثة رئيسيّة هي التعدّديّة، والشموليّة، والخصوصيّة[1].
وقد قدّم كلّ واحد من تلك الاتّجاهات رأيه في خصوص مسألة الخلاص. فاعتبر أصحاب الاتّجاه الأوّل أنّ الخلاص متعدّد السبل بتعدّد المعتقدات رغم ما يتخلّلها من تناقضات واختلافات كبرى، في حين اعتبر أصحاب الاتّجاه الثاني الخلاص متعلّقًا بشخص يسوع لكن شاملًا لغير المؤمنين به لما للرحمة من غلبة في التعاليم اليسوعيّة مع تثبيت أنّ الأديان الأخرى لا بدّ وأن تؤدّي في النهاية إلى الإيمان بيسوع، أمّا أصحاب الاتّجاه الثالث، فهم يحدّون الخلاص بالإيمان بيسوع دون سواه، على أنّهم ينقسمون في ذلك إلى اتّجاهَين يفتح أحدهما سبيلًا لغير المؤمنين به ممّن حالت الظروف دون إيمانه ويغلق آخرهما الباب حتّى عن تلك الفئة ليحدّ الخلاص بحدود أضيق تشمل الإيمان المسيحيّ التقليديّ فقط. فنحن هنا، كما رأيت، أمام اتّجاهات أربعة.
والكتاب القائم بين يديك يشكّل مادّةً وافيةً للتعبير عن كل واحد من هذه الاتّجاهات. وقد وقع اختيارنا عليه لما نجده من فائدةٍ في استثارة هذه المسألة عائدةٍ على الساحة الفكريّة، ولما يوفّره الكتاب من معالجة علميّة منهجيّة قد تؤدّي غرضنا. فقد اختارت الجهة المُعِدّة للكتاب للتعبير عن كلّ واحد من الاتّجاهات المذكورة أعلاه اسمًا من أعلام ذاك الاتّجاه، فكان جون هيك – التعدّديّ المعروف – هو المختار للتعبير عن الاتّجاه الأوّل، واختير كلارك بينوك – أحد أبرز منظّري الشموليّة – للتعبير عن الرأي الثاني، وكان أليستر ماكغراث – المناصر للخصوصيّة بشكلها الأوّل – هو موقع الاختيار للتعبير عن الاتّجاه الثالث، أمّا الاتّجاه الرابع فاختير له كلّ من ر. دوغلاس غايفيت وو. غاري فيليبس – المتخصّصان في الشؤون اللاهوتيّة والناشطان في ساحة التبليغ الدينيّ – معًا.
والنقاش في الكتاب جرى بكيفيّة تتيح لكلّ اتّجاه مساحته العرضيّة وتتيح لغيره من الاتّجاهات مساحةً لنقده والردّ عليه كما سترى.
ونحن في دار المعارف الحكميّة، إذ ننشر الكتاب بترجمته العربيّة الأولى، فذاك لما نجد في استثارة مسألته والنقاش حولها من ثمار منتجة على صعيد الساحة الفكريّة، ولا يفوتنا في هذه العجالة شكر المترجمة على الجهود الحثيثة التي بذلتها في سبيل إنجازه، مع اعتقادنا بأنّ الترجمة هذه وافية لمطالب الكتاب مقدّمة إيّاها بحلّة متكاملة، كما وشكر كلّ من ساهم في تحرير النسخة العربيّة بعد الترجمة، وتخريجها بصيغتها هذه، من السادة في قسم التحرير والترجمة في معهد المعارف الحكميّة، فللكلّ منّا وافر الشكر، أملًا في أن يقدّم هذا الكتاب للساحة الفكريّة العربيّة إضافةً علميّةً معتدّةً.
واللّه من وراء القصد.
[1] نتمسّك هنا بالمصطلح الذي أرساه مُعِدّا هذا الكتاب تعبيرًا عن الاتّجاه الثالث. فالخصوصيّة تسمية بديلة اقترحاها وتبنّاها أصحاب الرأي الثالث فيه كبدل عن مصطلحات حدّة كالتقييديّة والإقصائيّة.