مساءلة الوجود على ضوء الواقعية الصدرائية

مساءلة الوجود على ضوء الواقعية الصدرائية

تمهيد

 من القضايا التأسيسية التي تسهم في تكوين بنيتنا الفكرية والعقائدية بنحو فاعل وجذري، ولا ينبغي لأجل ذلك أن يستهان بها، قضية الارتكاز إلى أصل الوجود، وطابعه التوحيدي، في فهم نظام الكون، وتحديدًا على ضوء مباني الحكمة المتعالية. وتنشأ أهمية هذا الموضوع من كونه لا يقتصر على إنجاز الأهداف الفلسفية المباشرة، من قبيل ملامسة ضفاف الواقعية، هاجس الفلسفة الأول. بل ويسهم وإلى حد كبير في تشكيل فهم أعمق وأشمل لقضايا تتعلّق بوجود الإنسان، ومعارفه الدينية، وقضاياه القلقة، من قبيل علاقة الإنسان بالله، وحريته، ومصيره؛ سيّما مبدأ التوحيد؛ القضية الجوهرية التي تشكّل لب الأديان التوحيدية.

وبكلمة واحدة، إنّ مسألة أصالة الوجود ووحدته هي من المسائل التي «تمثّل روح وأساس الأبحاث الإلهية، ويتوقّف عليها حل الكثير من الغوامض الفلسفية والميتافيزيقية» بحسب تعبير العلامة الآشتياني. فلا ينبغي الشك في أنّ نوعية تصوّراتنا عن الوجود والواقع من شأنها أن تنعكس بصورة حاسمة على مجمل رؤيتنا حول الله تعالى والكون والإنسان والمصير. و«من جهل بمعرفة الوجود يسري جهله في أمهات المطالب ومعظماتها. وبالذهول عنها فاتت عنه خفيات المعارف وخبيئاتها، وعلم الربوبيات ونبواتها، ومعرفة النفس واتصالاتها ورجوعها إلى مبدإ مبادئها وغاياتها»[1].

على أنّه ليس من قصدنا هنا الترويج لمرحلة ما، أو التجمّد عند وضعية فكرية معينة، مهما كانت تلك الوضعية غنيةً في دلالاتها ونتائجها، وإنما نهدف إلى إثارة الجدل، ومقاربة الأسئلة القلقة، بغية التكميل، دون الاكتفاء بالوقوف على الأطلال والمفاخرة، أو التمسّح بأعتاب مرحلة كما لو أنّها إيديولوجيا لا تقبل النقاش؛ لأننا حينئذ نكون قد اقترفنا إثم الفلسفة من خلال مجانبة روحها في أكثر نقاط قوتها وفعاليتها.

وما سوف نزفّه للقارئ هنا، هو محاولة محاكمة مفهوم الوجود الصدرائي بغية الكشف عن صيغته النهائية، وذلك على ضوء الخلفية التاريخية التي انبثق عنها، وما قد يتّرتب عليه من نتائج على مستوى المنظومة الفكرية. ولهذا، تقتضي الموضوعية أن نقرّر – أولًا – مفهوم الوجود الصدرائي، وذلك من خلال مقاربتين؛ تهدف إحداهما إلى الإضاءة على الطابع العرفاني الذي يتخلل مفهوم الوجود، وهي مقاربة العلامة الآشتياني التي جاءت تعبيرًا وافيًا عن رؤية صدرا في هذا المجال. فيما تشكّل الأخرى نواة قراءة محايدة بالمعنى الأكاديمي التقريري، وتهدف إلى صياغة مفهوم الوجود كما تجلى في فكر صدرا الفلسفي (عباس سلمان). ثم نواكب ذلك بمحاكمة المفهوم على ضوء المقدمات التاريخية الممهّدة له، والنتائج المنبثقة عنه، وذلك من خلال مقاربات ثلاث (يحيى يثربي، غلام فياضي، إدريس هاني).

ومن جانب آخر، يتوجب علينا الإضاءة – بطريقة مستخلصة ومكثفة – على بعض الموضوعات التي شكّلت محورًا للجدل في الأبحاث التالية؛ إذ يبدو أنّ السجال اليوم، يتمحور حول بعض الملاحظات الرئيسية فيما يخص الأساس الذي أقام عليه صدرا صرحه الفلسفي، أي أصالة الوجود ووحدته، كما يبدو أنّ هذه الملاحظات تتحدّد وفق الاتجاهات التالية:

1 – «ابتكارية» صدرا لأصالة الوجود، والخلفية التاريخية:

من نافل القول التذكير بأنّ مفهوم الوجود بالشكل الذي استقر عليه عند ملا صدرا لا نعهد له اهتمامًا خاصًا في الفلسفة اليونانية، كما لا نجده يستقل بالبحث في تراث الفارابي (ت 339ه) وابن سينا (ت 428ه) ونصير الدين الطوسي (ت 672ه)، وإلى حد كبير في أبحاث شيخ الإشراق السهروردي. وإنّما بدأت ملامحه بالظهور من خلال مدرسة أصفهان الفلسفية، وتحديدًا على يدي السيد محمد باقر الميرداماد (ت 1040ه) الذي تبنّى القول بأصالة الماهية، قبل أن ينعطف تلميذه صدر المتألّهين الشيرازي – لاحقًا – إلى تبني نظرية أصالة الوجود.

وقد قرّر الشيرازي أن يهجر «فلسفة الماهية» بعد مقاربته للوجود من زاوية ثلاثية الأبعاد، يلتقي فيها ما هو فلسفي مع ما هو كلامي وعرفاني؛ إذ يبدو أنّ نواة هذه المسألة كانت قد تشكّلت في البيئة الكلامية من خلال جدلية «زيادة الوجود على الماهية»، إلاّ أنّنا نعثر على الجذر الأساس لهذه المسألة في توحيديات ابن عربي الوجودية، ومثنويات الرومي، ونحوهما.. فقد نهل صدرا الشيء الكثير من المعين العرفاني العذب. ومع تكثيف رؤيته حول هذين الاتجاهين – مع ما صاحب ذلك من تجارب روحية خاصة – وجدت الحقيقة الوجودية طريقها إلى البحث الفلسفي عمومًا، وإلى متن الفلسفة الصدرائية تحديدًا.

ومع ذلك، ثمّة من يعتقد أنّ أصالة الوجود تحظى بامتداد تاريخي عريق؛ كونها من القضايا الأساسية المميّزة لفلسفة أرسطو، بل ينظر إليها باعتبارها جوهر الانقلاب المشّائي على الأفلاطونية عمومًا، سواء في ذلك الفلسفة اليونانية أو الفلسفة الإسلامية، وعلى هذا الأساس يجري تعميم القول بأصالة الوجود إلى الفلاسفة المشّائين من قبيل ابن سينا والفارابي.

ولا ينبغي الشك في أنّ تكوين ذهنيتنا الوجودية بوضعها الراهن إنّما هو نتاج الصيرورة الفكرية الممتدة عبر الزمن السحيق؛ فإنّ حقائق هذا العالم – ومن ضمنها القضايا الفكرية – مرهونة في صميمها إلى إمكاناتها السابقة والاستعدادات المناسبة لها؛ من هنا تبانى المحقّقون على ضرورة وجود خلفية ما تتركّز عليها تلك الرؤى الواقعية على امتداد التاريخ، واعتمدوا جراء ذلك السبر التاريخي بغية استجلاء واقع الحال في نظريات السالفين، بل إنّ البحث في تاريخ أصالة الوجود أو الماهية وتقلّباتهما عبر المدارس المختلفة، هو – في واقعه – تعقّب لمسار تكويننا الذهني، وترصّد للمرتكزات التي تحتكم إليها عقائدنا ورؤانا الفكرية.

إلا أنه لا ينبغي للباحث – إذ يستهل بحثه بعرض الخلفية التاريخية للموضوع المبحوث – أن يهمل مناطق التميّز التي يختص بها عمل صدرا، ذلك أنّ النظر التاريخي – على أهميته في قراءة سيرورة الأفكار – من شأنه أن يربط فيما لو اقتصرنا عليه بين الأفكار المتخالفة نتيجة أدنى تشابه بينها، أو على أساس تلاقيها في بعض النتائج الكلية، ولكن ليس من شأنه أن يزودنا بالرؤية الموضوعية الكاملة على مستوى خصوصيات الآراء، وتوخّي الدقة في الاستنتاج؛ إذ يغدو من المجازفة بمكان أن نساوي بين أولئك الذين نفوا أصالة الوجود من جهة، وأولئك الذين سلبوا الفعالية عن ظواهر هذا العالم وأحالوها كليًا إلى العالم الماورائي من جهة أخرى.

ثم إنّ إيجاد مثل هذا التماثل القائم على أساس التشابه، من شأنه أن يشجع على إسباغ الطابع العرفاني على مفهوم الوجود، وتنحية الطابع الفلسفي جانبًا، بالمعنى الذي سوف نشير إليه في الملاحظة التالية.

2 – مفهوم أصالة الوجود بين الفلسفة والعرفان:

كما تقدّم، يبدو أنّ صدرا مدين بشكل كبير للنظرة العرفانية السابقة عليه، تلك النظرة التي حسمت خياراتها لجهة تبنّي أصالة الوجود واعتبارية الماهية. غايته؛ أنّ العرفاء لم يروا الوجود الأصيل لغير الوجود الواجب؛ باعتبار أنّ كل ما عداه هو مجرد ظواهر وماهيات وظلال وأشباح.

ويظهر التميّز الصدرائي بوضوح من خلال تعميم الوجود وتسريته إلى عالم الإمكان، الأمر الذي استدعى منه إحداث فاصل ذهني ما بين الوجود والماهية، وبالتالي، انفتاح سؤال الواقعية أمامه، وبذلك وجد نفسه أمام الإشكالية المطروحة هنا وجهًا لوجه. ومع ذلك، وبقدرة تأمّلية فريدة، استطاع الشيرازي – بوصفه فيلسوفًا – أن يستل «الوجود» من طيات المباحث العرفانية، ويضعه إلى جانب الماهية في مستهل البحث الفلسفي، كضرورة بحثية مؤقتة، ريثما يتم العمل على تجاوز عالم الماهيات من خلال إنجاز خطوته النوعية باتجاه أصالة الوجود.

وهو مع ذلك، لا يفتأ يعاوده الحنين – بوصفه عارفًا – إلى الصيغة العرفانية ذاتها، فيبث شوقه إلى ذلك في غير موضع من مؤلفاته، سيّما في مدوّناته المتأخّرة، مما يضعنا أمام طرحين متفاوتين لمفهوم أصالة الوجود. فهل هو استقر نهائيًا على المنظور العرفاني لأصالة الوجود والذي يرى الوجود حصرًا للذات الإلهية، ويؤول إلى ترسيخ الوحدة الشخصية؟ أم أنّه ينبغي أن يُنظر إلى هذا الاختلاف من زاوية الموقف الذي يرتبط في الواقع برؤية كلا المدرستين – الفلسفية والعرفانية – إزاء واقعية الظواهر المحسوسة والجزئية، فليست هذه المسألة مجرّد مسألة خلافية داخل الفلسفة الواحدة، وإنّما هي تتفاوت بتفاوت الفيلسوف عن العارف، والعرفان عن الفلسفة، حيث إنّ لكل من هاتين المدرستين ردودها الخاصّة بها، والمحدّدة لها، والمناسبة لأصولها. ولا شك في أنّ الإيمان بوحدة المبدإ بين الفلسفة والعرفان يترتّب عليه أنّ أي تغيير في أحدهما سوف يسري بالضرورة إلى الآخر، دون الاعتقاد بتراخي المبدإ فيما بينهما؛ فإنّ ما يقوله الشخص بوصفه عارفًا قد لا يقوله حينئذ بوصفه فيلسوفًا.

3 – أصالة الوجود والماهية معا:

وكما يقع البحث في مفهوم الوجود من جهة خلفيته التاريخية، كذلك ينبغي تعقّبه من جهة نتائجه المنبثقة عنه، إذ ثمّة من يرى أنّ هذا المبدأ (أصالة الوجود) يفتقد الى مبرّراته الداخلية، ويحصر مبرّراته في اللوازم والآثار المترتّبة عليه، سيما لجهة إفادته وحدة الوجود؛ فإنّ الوحدة السنخية بين موجودات هذا العالم والمبدإ الذي صدرت عنه تفترض استبعاد العوامل الغريبة عن الوجود من تحت دائرة التأصيل، وعلى رأسها الماهيات.

وإذا كان من حق صدرا أن يرفض اعتبار الواقعية لكل من الوجود والماهية بداعي التحفّظ على أصل الوحدة، فإنّما يُسوَّغ له أن يفعل ذلك فقط حيثما يلزم – من ذلك التأصيل – حصول التمايز الواقعي في كل من الوجود والماهية، دون ما إذا أمكن القول بأصالتهما معًا في ضمن الواقعية الواحدة. ولا يبعد تصوّر مثل هذا المعنى ومعقوليته في نفسه، سيّما وأن الشواهد تحتمله، بل يمكن إيراد أشباه ونظائر له من المتن الصدرائي نفسه. ويتوجّب علينا حينذاك أن نعيد قراءة هذا النص وفق نمط جديد، لا يعتمد المنطق فيه بشكل مفرط على العقل؛ وعندما لا يكون لدينا وجود منفصل عن الماهية في الخارج، ولا ماهية منعزلة عن الوجود كذلك، فلماذا نتحملق في دائرة هذين الموقفين، ونتخذ من ذلك أساسًا للاصطفاف؟

ومرّةً أخرى، سوف يغدو المبدأ الفلسفي لأصالة الوجود نسبيًا إذا ما لوحظ من جهة لوازمه التي تبرّر له، وذلك بدعوى أنّ هذه اللوازم هي من مترتّباته وفق المنظور العرفاني، لا الفلسفي.

مثل هذه الملاحظات، والنقاش حولها، هو أمر جدير بأن يضيء شعلةً إضافيةً فينا، لجهة الوعي بالوجود، ومهما يكن الموقف من ذلك كلّه، فلا يمكن لنا أن نتجاهل حقيقةَ أنه ومنذ أن أشاح صدرا بوجهه عن الماهية، وانعطف تلقاء كعبة الوجود، أصبح لزامًا علينا أن نعيد ترتيب أوراقنا ورؤيتنا بما يتناسب وهذا المعطى الجديد.

حسن بدران

 

[1] صدر الدين الشيرازي، المشاعر (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، الطبعة 1، 2000م)، الصفحة 53.


لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<