سنتيبيد الإرهاب

by السيد باقر درويش | مايو 17, 2019 7:45 م

            كثيراً ما تبقى بعض ذكريات الطفولة في الذهن لما لها من أثر في تشكّل المرجعيّات اللغوية والوصفيّة للواقع المعاش، خاصّة حين يحتاج المرء لتوصيفات مختصرة لظاهرة معقّدة كثيرة التشعّب… في هذا السياق أذكر أنّني كنت أحبّ علوم الحياة كثيراً في الصّغر، وكنت أهوى القيام ببعض التّجارب “العلميّة” (أو على الأقلّ التي كنت أحبّ أن اعتبرها علميّة دون أن أستطيع إقناع والدتي بذلك في كثير من الأحيان). إحدى المرّات احتجزت حشرة سنتيبيد أو كيلوبودا سامّة، واحتفظت بها في مستوعب زجاجي صغير، ولاحظت أنّها رغم تعرّضها لضربات مميتة استمرت بالتفاعل العصبي اللاإرادي لمدّة طويلة… بعد كلّ تلك السّنوات، وحين أردت الشّروع بكتابة هذا المقال حول حال التنظيمات التّكفيريّة اليوم، لم أستطع أن أجد -في عجالة أمري- توصيفاً غير ما أفادتني به تلك الذكريات إنّهم جسم سنتيبيديّ ميتٌ بمعايير علم الأحياء…

          وبيان ذلك، أنّه لو تمّ العودة إلى الأهداف التي تُعلنها هذه التّنظيمات لوجدها أنّها خالية من الحياة والواقعيّة، فمنطقة القلب في مشروعهم صارت خارج نطاق القدرة وحتّى التطلّع الواقعيّ، أي الجزيرة العربية وبلاد الرافدين والشام وضمناً فلسطين.

          إذا هو قلب ميت، لكن رغم ذلك تسجّل ردود أفعالٍ تلقائيّة في الأطراف تبثّ الذعر والاضطراب في النّفوس. هذه التحرّكات في مناطق مختلفة من العالم مثل أفغانستان وسريلانكا ومالي والنيجر ونيجيريا والصومال وغيرها (يجمعها أنّ÷ا بعيدة عن القلب) هي أشبه بحركة الكليوبودا الميت الذي تتفاعل أعصابه بردود أفعال ترفض الانصياع لواقع الموت المحتّم والتدريجي. ولمن لم يهتد بعد إلى معنى الكليوبودا أو السنتيبيد ، فإنّها نفسها “أم أربعة وأربعون” …

          أمّا لماذا التكلف بتسميتها باسمها الأجنبيّ في المقال، فأيضاً لمناسبة وحكمة، وهي أنّ المتأمّل في حال التكفيريين اليوم يرى أنّه لو تم تخليتهم وواقعهم العربي والإسلامي لكان من المستحيل أن يستمروا، وكيف يستمرون والبغدادي في آخر ظهور له منذ أيّام يرى أن الشعوب في السودان والجزائر لا يفعلون إلا استبدال “طاغوت بطاغوت” حتّى مع كون هذا الحراك الشعبي في أوّله، كأنّه بذلك يجعلهم في صف الطواغيت وتحت مقصلة جلاوزته المتحفّزين للانتقام لقتلى أنصار الخلافة في الباغوز وغيرها من المعارك التي لا ينتفض هؤلاء لأجلها! كيف يستمرون والظّواهري في شباط 2019  يحكم على مساعي الجماهير في العالم العربي بأنّها انتهت إلى ” الهزيمة والفشل والتّرويض والإذلال” ويعدّد أسباب الفشل بلغة مؤسفة تجترّ خطاب الثمانينات، وتُظهر أنّ هذا التيّار لا يزال يفتقر للمراجعات الجادّة، أو للأخذ بلوازم ما يمكن أن يكون مراجعات جادّة توفّر على الأمّة الإسلاميّة مزيداً من هدر دماء شبابها الغيور على الدين والغاضب على المستعمرين، لكن وللأسف، الفاقد لبوصلة الصّراع والقائد ذي البصيرة …

          إذن كيف يستمرون بالتحرّك المؤذي الفاقد للأفق ؟  الجواب بسيط، وهو أنّ الغرب لا يزال ينفث فيهم من روحه انتبهوا لذلك أو لم يتنبّهوا، وهو يبادر لنقل أحقادهم من حيث يُحاصرون إلى حيث يمكن لهم أن يقدّموا المزيد من الخدمات المباشرة وغير المباشرة لأمريكا وادواتها، ويُقتصر في المقام بذكر شاهدين بين الكثير من البقع الجغرافية من باب عدم الإطالة :

الأول الصومال، وهي منطقة لطالما سكنها الصراع والعنف في العقود الأخيرة، في الشّهر الماضي نُفّذت عمليتان لداعش في مقديشو (أو أعلن عن تنفيذ عمليتين تبناهما من عرّفوا عن أنفسهم أنّهم مناصرون للخلافة) وهذا يُعتبر غريباً واقحاماً لعامل توتير إضافي في منطقة غير مستقرّة أصلاً، ووجه الغرابة أنّ حركة الشباب والجهات السلفية الموجودة في الصوماليّة لم تُبايع داعش حتّى في فترة التنظيم الذّهبيّة بين العامين 2014 و2015، فكيف ظهروا الآن بشكل مفاجئ في القرن الأفريقيّ ولمصلحة من؟

الثاني أفغانستان، ولا يخفى أنّ حركة طالبان اليوم تمثّل طرفاً لا يمكن تجاوزه في المعادلات الداخلية الأفغانيّة وكلّ الجهات والتنظيمات العاملة هناك منذ التسعينات تتجنّب الدخول في مواجهات صريحة معها فكريّاً وميدانيّاً، وحتّى تنظيم القاعدة الشّهير ذو الامتدادات العالميّة يسعى دوماً لإرسال رسائل طمأنة لقيادة الحركة بأنّه تحت بيعة أمرائها. مؤخّراً، بدأت تظهر في ولاية ننجهار غرب البلاد حالة تُثار حولها عمليات استفهام كثيرة تُسمّى ولاية خراسان وتٌعلن ولاءها للخلافة. تنفّذ هذه الولاية عمليات ضدّ الجميع، ضدّ الحكومة، وضدّ التجمعات الشيعية لمجرّد كونها شيعية وليس لوجود خلاف سياسي معها، وحتّى ضدّ طالبان نفسها، وبالتالي تلعب دورها التحطيمي التهشيميّ لما تبقّى من المجتمع الأفغاني الذي لم يخرج بعد من مأساته المستمرّة وخاصّة منذ الاحتلال الأمريكي الذي لم يأخذ تلك البلاد إلى لمزيد من الفوضى والتشظّي…

          وخلاصة الكلام، إنّه سنتيبيد الإرهاب والتّكفير الذي يتغذّى على ما تنفثه فيه روح الغرب الأمريكي الإلغائيّة الماديّة المقيتة، فيبقى يتحرّك فقط وفقط لبثّ الرّعب وتشويه صورة الدّين وضرب حركات التحرّر الحقيقيّة وتشتيت جهود الشّعوب والنيل من تطلّعاتها وصحوتها. وأمام هذا التوصيف لا يبقى إلا الدّعاء بأن تلوح في أفق هذا المشرق المثقل بالأحقاد والضّغائن روح الحكمة والبصيرة، عسى يهتدي الضّالون المضلّلون لبوصلة الصّراع الحقّة، ويعودون إلى أحضان هذه الأمّة، فيساهموا في حرب المستضعفين التي انطلقت شرارتها في العام 1979 ولا تزال منذ ذلك الحين تحقّق الانتصار والانجاز بعد الانتصار والانجاز.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/9813/%d8%b3%d9%86%d8%aa%d9%8a%d8%a8%d9%8a%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b1%d9%87%d8%a7%d8%a8/