مراكز البحوث الغربيّة، اختزالية المنطلقات وانبهار المتلقّي
كنت أقرأ منذ مدّة مجموعة من المقالات والأوراق البحثية الصّادرة عن مجموعة من مراكز الدراسات والبحوث الغربيّة مثل راند ومعهد واشنطن ومعهد دراسات الحرب وكارنيغي وغيرها، وقد وجدت فيها مجموعة من التّصنيفات والتقسيمات للتيارات والأحزاب والاتّجاه الموجودة في بيئتنا الإسلاميّة… لم يكن ذلك مستفزّاً رغم كمّ الأخطاء المنهجيّة والقبليات التي تنطلق منها الدّراسات، إلى أن أرسل أحد الأصدقاء على إحدى مجموعات الواتس آب رابطاً لمقال محلّيّ بُنيت تحليلاته استناداً إلى توصيفات مليئة بالمغالطات وردت في إحدى الدراسات[1] المقدّمة لمؤسسة راند، حينها لم أجد بدّاً من كتابة السّطور التالية…
لكن قبل عرض الملاحظات المباشرة المرتبطة بما قرأت، لا بدّ من ذكر ملاحظة عامّة في المقام، وهي ما يُلحظ من تسرّع في التّمسّك بما يصدر عن المؤسسات ومراكز الدراسات الغربيّة من قبل باحثينا والعاملين في الشأن الفكري في بيئتنا، سواء كان هذا التمسّك انتصاراً لفكرة يحملها قارئ المستند، أو حتّى رفضاً لفكرة يرى أنّ الغرب يريد الترويج لها.
والأوفق في المقام فهم أنّ تصنيفات مراكز الابحاث الغربية ليست توصيفاً للواقع كما هو، وإنّما هي “منتج غربيّ” ينتمي لتلك البيئة الحضاريّة، وهو مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بقبليّاتها الثقافية وبمنظومة المؤسسات والأجهزة السياسية والدبلوماسية أو الاستخباريّة أو حتّى غير الحكوميّة المتولّدة في رحمها. ولتوضيح الفكرة أكثر، يجب القول، إنّه لا بدّ من التأنّي وعدم الرّكون سريعاً إلى التوصيفات والتصنيفات التي تنتجها هذه المراكز خاصّة حين يكون الباحث في مقام فهم واقع البيئة الحضارية والسياسية والثقافية الإسلامية. لا يُقال هذا لوضع حاجز أمام التفاعل مع المنتج المعرفي لمراكز الدراسات والبحوث التي لا بدّ من الاعتراف بأنّها تبذل جهوداً ملفتة للنّظر، وإنّما للتنبيه إلى ضرورة أن تكون القراءة عقلانيّة نقدّيّة تنطلق من زاوية التعرّف على “فهم الغرب للبيئة الإسلاميّة” بالدّرجة الأولى، وهو ما يحمي من التماهي مع توصيفات لم تخضع بعد للتحليل والنّقد، وشتّان بين حيثيّة التعرّف على “فهم الغرب للبيئة” وبين فهم البيئة نفسها…
وبعد هذا التّقديم، تُورد بضع نقاط حول المقال الذي استعار توصيفات مثل الإسلام السياسي، الإسلاميّون الأصوليّون، الإسلاميّون التقليديّون، الإسلاميون الحداثويّون، والإسلاميّون العلمانيّون وبنى عليها دون نقد وتحليل…
فأوّلاً : النظرة “الهوياتية” كما قدّمها كاتب المقال، ليست حكرا على الاسلاميين، بل هي حالة حضارية طبيعية شرقاً وغرباً، لا يمكن الخروج عنها، نعم مع تقوّم هويّات الجماعات يمكن أن تتعارف أو تتعارك الحضارات، فمجرّد النزعة الهويّاتية لا مشكلة فيها على الإطلاق ولا يُفترض أن تكون اتّهاماً… لكن لو تنزلنا، فلا يمكن حتّى عدّ النظرة الصراعية الهوياتية وليدةً لسقوط الخلافة العثمانية، نعم سقوط الخلافة غذّى الشعور بالإحباط في بعض البيئة الإسلاميّة في تلك الحقبة، ما ولّد محاولات وردّات فعل سعت لإعادة منظومة للحكم… وهنا تساؤل: ماذا عن البيئات التي لم تكن تؤمن بالمنظومة العثمانية نفسها وإنما تساكنت معها ضمن الأطر الموروثة إسلاميا لمئات السّنين، هذه كيف يمكن عد سقوط الخلافة منطلقا لها؟
ثانياً، بخصوص حنفية منشأ الأخوان فهذا مما لا بد من التساؤل عن مقاصده، علما أنّ العودة إلى رسائل البنا توقف على غير ذلك، إذ الجماعة تولدت من رحم الحركة الاصلاحية مدخلة الى منظومتها خصوصيات الشارع المصري الذي كان فاعلا جدا على الصعيد السياسي في تلك الحقبة ومجموعة من الافكار شديدة التنوع التي جمعت الصوفية مع السلفية في اجتماع غريب لا يعكس إلا حرص البنا على جمع الكل تحت عباءة واحدة ولو كان جمعا عارضا لا يراعي واقع المشاريع القائمة فعلا…
ثالثاً، إقحام الثورة الاسلامية في السياق التحليلي للمقال متأثر بالورقة البحثية الصادرة عن راند، وهو خلل وخلط واضح، ومن سلبياته عدم لحاظ التطور التاريخي للمسارات القائمة في إيران منذ صعود المدرسة الاصولية في القرن الثامن عشر، وثانيا قبول وضع إيران والسعودية في خانة وتصنيف واحد، والبناء عليه، دون نقده .
رابعاً، تغفل المقالة المـتأثّرة بظاهر تصنيفات الكاتبة الغربيّة الامتدادات التاريخية المسلّمة للوهابية والصوفية الحديثة والأصولية الشيعية منذ القرن الثامن عشر، وتُغفل بالتالي التساؤل عن علاقاتها الاشكالية بالمنظومة السياسية الرسمية.
خامساً، الأكثر جدلا في المقال هو القبول بالمفهوم الغربي للإسلام السياسي، وأيضا دون اخضاعه للنقد الجاد.
سادساً، أمّا ما ورد عن تنظيم القاعدة فهو عامّ مجمل يختزل سلباً محطات كثيرة لا يمكن العبور فوقها نحو توصيفات مترجمة عن باحثة من هنا او كاتبة من هناك، فالقاعدة بروحها وزعيمها (المنسوب للأخوان الخليجيين كحالة مهجّنة متولدّة عن تزاوج غير شرعيّ بين فكر الأخوان القادم من مصر بعد حملات عبد النّاصر والسلفية الوهابية النّجديّة) بدأت في الثمانينات متأثرة بأجندة أولويتها الساحة اليمنية قبل أن تنتقل إلى أفغانستان لقتال السوفيات تحت عين وترحيب الحكومة السعودية، ثمّ تؤسّس رسميّا في 1988 متأثّرةً بالجهاديين. بعدها دخل زعيمها في خلاف مع الدول الخليجية عقب دخول صدام الكويت ودخولهم في تحالف مع “الصليبيين” ضد المسلمين البغاة، وحينها انتقل إلى السودان التي كانت سلطاتها تدّعي تحاكمها للشريعة الإسلاميّة، قبل أن يحلّ التنظيم ضيفاً على طالبان الديوبوندية الماتريدية الحنفيّة إلى جانب أيمن الظواهري المصريّ (الخارج من شافعيّة جدّه الأشعريّة إلى هويّة سلفية تائهة لا يعلم حتّى الآن كيف تسلّلت إلى مصل التي قضى جيشها على دولة الوهابيّة الأولى) حيث أسّسا سوياً تنظيم “قاعدة الجهاد” ونفّذا عمليّة 11 أيلول التي أدّت إلى احتلال أمريكا لأفغانستان.
وسبب التّطويل في هذه المسألة -الأخيرة- أنّها تعكس سطحيّة واختزاليّة التوصيفات الغربيّة للواقع في بيئتنا، وعجزها عن فهم واقع بيئتنا الإسلاميّة وتعقيداتها وخصائصها. والنتيجة التي يُمكن أن ينتهي إليها الباحث في هذا الإطار، وخاصّة مع انكشاف الوجه الحقيقي لأمريكا في عهد ترامب، هي أنّ الغرب الآن يقف عاجزاً مع كلّ منظومته المؤسساتية الرسمية الدبلوماسية والبحثية العلميّة عن فهم سرّ النهضة والصّحوة في العالم الإسلامي وخصوصيّاته الثقافية المعقّدة، وهو ما دفعه لتوسّل الطرق البدائيّة جدّاً في السّيطرة على القرار السياسي أي الضّغط والحصار الاقتصادي بعد العسكريّ الهمجي الذي لا يحتاج كثير بحوث ودراسة لتطبيقه فهو أسلوب لطالما اعتمده المستكبرون عبر التّاريخ.
إنّ التوصيفات والتصنيفات التي وردت في الدراسة المقدّمة لراند وغيرها من نظائرها، تبدو محاولة بدائيّة لفهم بيئة مركبّة ومعقّدة جدّاً. إنّ وضع إيران والسعودية تحت تصنيف واحدة، والغفلة عن الفروق الموجودة بين بيئة طالبان وبيئة الوهابية، وتحميل الأخوان وحدهم ثقل ووزر أفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير والذهاب نحو وضعهم تحت لائحة التنظيمات الإرهابيّة الأمريكية ضمن سوق البازار الترامبيّ، وفوق كلّ ذلك اختراع مصطلحات وهويّات مصطنعة مثل الإسلاميين الحداثويين بما يجعل الآخرين الأصوليين “غير حداثويين” – فضلاً عن توهّم حصر الحداثة بالغرب- كلّ ذلك يعكس نظرة الرّجل الأبيض الذي يظنّ أنّه الحاكم المطلق للعالم ومن حقّه أن يصنّف الآخرين بالطريقة التي تسهّل عليه فهمهم! أو قل “تشكيل واقعهم”!
ختاماً، فليُلتفت إلى أنّ كثيراً من مراكز البحوث والدراسات الغربية ومن خلفها المنظومة الغربيّة تسعى لصنع وتشكيل الواقع لا فهمه… قد تُلتمس أعذار في هذا الصّدد، من قبيل أن فعل الصنع أكثر سهولةً ويُسراً من فهم ما هو آخرٌ مختلفٌ متنوّعٌ وشديدُ التعقيد (وهذا أمرٌ يستحقّ أن يدرس بشكل مستقلّ)، لكنّ هذا الأمر ودون شكّ يتّسم بنظرة إلغائيّة لا تعترف بحقّ الاختلاف وواقعه الموجود والكائن بين الأمم والحضارات والشعوب.
[1] – الدراسة المذكورة منسوبة للدكتورة في العلاقات الدوليّة شيريل بينارد Cheryl Benard ، عملت كواحدة من كبار المحللين ومدراء البرامج في غرف التفكير الأمريكية والأوروبية. أثناء عملها كباحثة في مؤسسة راند اعتنت بمواضيع الأمن القومي ومراحل إعمار ما بعد الصراعات، صدر لها أكثر من 20 كتابا ، وأسّست منظمة ARCH (اختصار تحالف أو ميثاق إحياء التراث الحضاري) التي تضمّ أرينا بوكوفا (مديرة اليونيسكو من 2009 ولغاية 2017) كمستشارة خاصّة، وزلماي خليلزاد (السفير الأمريكي لأفغانستان والعراق والأمم المتحدة) كمدير فخريّ، وكُتب في سيرتها التعريفية أنّها تأثّرت بالمتغيّرات الثقافيّة التي سادت بعد الحرب العالمية الثّانية سيّما ما تعتبر أنّه دور لإعادة إعمار الآثار والتقاليد والأبنية في إكساب النّاس الأمل علماً أنّها تتحدّر من عائلة تنتمي للسلك العسكري.
جميل جدا …