by علي حسن ضاهر | سبتمبر 24, 2019 7:05 ص
القلوب التي لا تنقاد لها السواعد، القلوب الخائفة النائمة، القلوب المتعلقة بالدنيا الفانية، هي قلوب ميتة. إنّها ليست إلّا قطعة لحم باردة، فأيّ قلبٍ هذا الذي يترك حسيناً!
قال أحدهم: سيّدي قلوبهم معك وسيوفهم عليك…! ولكنّه لم يكترث..
فجاء جواب الشّهداء..”أونبقى بعدك!! لا طيّب الله العيش بعدك سيّدي”
عابس، جون، برير، حبيب، زهير، مسلم، عبد الله…”والله ما رأيت أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي”
العبّاس، علي الأكبر، القاسم، بنو هاشم..”ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوفى من أهل بيتي”
وفّقني الله تعالى لقراءة رواية “باقٍ لم يمت” لمؤلفها الكاتب الإيراني صادق كرميار وممّا زادني شغفاً لقراءتها هو تعلّقي الشديد بالإمام الخامنئي الذي جعلني في بحث دائم عن القصص الروائية التي أشاد بها وليّ الأمر، ومنها هذه الرواية التي وقف عندها في معرض الكتاب ووصفها بالرواية الجيّدة والمعروف عن سماحته أنّه يطالع ويقرأ مختلف الروايات التي تصدر في الجمهورية بالإضافة إلى الروايات العالمية وغيرها من القراءات في العديد من المجالات، وهذه الرواية مهمة جداً لمن لا يحبّذ قراءة كتب السيرة كما هي، إذ تسلّط الضوء على أحداث مهمة في التاريخ الإسلامي خاصة أنّ هذه الأحداث مهّدت لأكبر ملحمة في التاريخ ألا وهي معركة الحقّ والباطل في كربلاء.
للوهلة الأولى بعد رؤية الكتاب وحجمه قلت إنّه سيأخذ معي الكثير من الوقت ولعلّي أنتهي من قراءته بعد عاشوراء بسبب كثرة الانشغالات والإحياءات التي يرتبط بها الإنسان في هذه الليالي المباركة، ولكن ما إن بدأت بقراءة الرواية حتى سافر بي خيالي إلى عام 61 للهجرة حيث عايشتُ أحداث مدينة الكوفة لحظة بلحظة، وانتقلت بين قبائلها من مكان إلى آخر، ولكن آهٍ لحال أهل ذاك الزّمان، وكم كانت القضايا آنذاك تحتاج إلى وعي وتقوى لتتفتح البصيرة لدى الكوفيين، كلّ من أرسل الرسائل وهلّل وكبّر لقدوم ابن بنت رسول الله (ص) وبقيّته الباقية الإمام الحسين بن علي (ع) كان ضبابياً ومذبذباً، إلّا القليل ممن وفى لرعاية الحق في كربلاء.
من يصدّق أنّ عمرو بن الحجّاج المذحجي قائد ميمنة جيش أعداء الله، وقاتل أول شهيد من أصحاب الإمام الحسين (ع) مسلم بن عوسجة، كان قبل أسابيع من واقعة الطف يحاصر قصر الإمارة في الكوفة ويطالب بالثأر لشيخ قبيلته هانئ بن عروة! “كبير مذحج” الذي بعث الرسائل إلى الحسين (ع) وكان يستعجل سفيره (ع) مسلم بن عقيل للإطاحة بعبيد الله بن زياد، منع الماء عن معسكر المسلمين في عاشوراء، وحرّض الناس على الحسين (ع) حتى قال له: “يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب، وتشرب فيه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنم”.
أيُعقل أن يكون ثاني شهيد في معسكر الحقّ عبد الله بن عمير وزوجته أمّ وهب أول شهيدة تلتحق بالركب في واقعة الطفّ، وقد بايعت قبيلته_ قبل أسابيع _ابن زياد!
عبد الله بن عمير كان قد اختار الاتجاه إلى بلاد فارس كي لا يكون وقودًا لنار الفتنة بين المسلمين مفضّلاً الذهاب لقتال المشركين مقوياً بشكل غير مباشر حكم بين أميّة! أيّ قلبٍ هذا الذي مال مئة وثمانون درجة حين شمّ رائحة الحسين (ع)، ماذا فعل قيس بن مسهر الصيداوي بقلبك يا عبد الله، وأيّ تأثير كان لأنس بن الحارث الكاهلي عليك وزوجتك حتى فكّرت بالعودة إلى الكوفة ونصرة مسلم.. ولكن ويلي على مسلم! دعوه إليهم فتفرقوا عنه وبعد أيام اجتمعوا على قتله ثمّ وقفوا في سوق الكوفة يبكونه، أيّ تناقض يحمل أهل الكوفة في قلوبهم، يحبون الحسين بن علي ويبايعون عدوّه، ولكن هيهات فهم من انحرفوا عن صراط أبيه علي (ع) وخرجوا عليه وحاربوه في النهروان…!
ولكن المفارقة الكبرى التي غيّرت مسار المشهد كاملاً، هي قرار رجلٍ فاسد تراكم فساده من زمن الأمير (ع) حتى وصل إلى ذروته في عهد أبي عبد الله الحسين (ع)، قاضي الكوفة “شريح” الذي كان يعرف حقيقة الأوضاع ولكنّه عندما رأى هانئًا مسجونًا ومجروحًا في قصر ابن زياد، لم يبلغ عشيرته بذلك وإنّما استعمل الحيلة والكذب والخداع، وقال للناس بأن هانئ بخير وهو في ضيافة ابن زياد.. قرار واحد كان بإمكانه تغيير أحداث الكوفة بأكملها! لو نطق لسان القاضي الذي فضّل الدنيا على الآخرة بالحقّ، لما أمن ابن مرجانة من سيوف المذحجيين ولاستتب الأمر للإمام الحسين (ع) في الكوفة ولما وقعت حادثة كربلاء. وفي هذا الخصوص، يتحدث الإمام الخامنئي (دام ظلّه) عن أهمية قرارات خواص المجتمع الذين يؤثرون في الناس فيقول: “قرارات الخواص في الوقت المناسب، تحديد الخواص للمواقف في الوقت المناسب، عزوف الخواص عن الدنيا في اللحظة المناسبة، كلّ ذلك يحفظ لنا التاريخ وينقذ لنا القيم ويحفظها، يجب اتخاذ الموقف اللّازم في اللّحظة الحاسمة، وإذا مرّت تلك اللّحظة المصيرية من دون استثمار تكون الفرصة قد ضاعت والخسارة لا تعوّض”.
“إن رأيت الحسين بن علي فاشهد بأنّ الشوق إلى لقياه أودى بي إلى هذه الحال”.
بهذه الكلمات ودّع العريس ربيع هذه الدنيا، هو وزوجته سليمة بنت عمرو بن الحجاج الذي لم تردعه مروءته عن قتال صهره وابنته بل وقتلهما أيضاً. مع أنّه أعدّ ابنته وعلّمها فنون القتال ولم يقبل أن يزوّجها إلا من أحد أبناء أتباع علي بن أبي طالب (ع)، ولكن وعود ابن زياد وحبّ الدنيا قد ذهب به إلى أن يكون من زمرة الملعونين على لسان شيعة أهل البيت (ع) “اللهم العن قتلة الحسين (ع)”. أمّا العريسان فقد زُفّا إلى الرضوان قبل المعركة الكبرى، وقبل أن يتعرّفا إلى سيدّ شباب أهل الجنة الحسين بن علي (ع).
أهل الختل والغدر والنفاق جهزوا جيشاً بأضعاف عدد الرسائل التي بعثوها لإمام زمانهم وهمّوا بقتله، بأبشع الطرق ولكن بحمد الله اقتصّ المختار الثقفي منهم بعد حين ولم يبقَ لهم ذكرٌ يُذكر..
صلّى الله عليك يا أبا عبد الله الحسين (ع)
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/9921/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a8%d8%a7%d9%82%d9%8d-%d9%84%d9%85-%d9%8a%d9%85%d8%aa/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.