الثقة بالآخرين
“الثقة كالمزهرية حالما تنكسر لن تعود كما كانت حتى لو أصلحتها”.
الفيلسوف الألماني فرديدرك نيتشه[1]
“يا بني إني موصيكم بوصية من حفظها لم يضع معها، إن أتاكم آتٍ فأسمعكم في الأذن اليمنى مكروهًا، ثم تحول إلى الأذن اليسرى فاعتذر وقال لم أقل شيئًا فاقبلوا عذره”.
الإمام الكاطم (ع)[2]
ما هي الثقة؟
تُعرَّف الثقة في علم الاجتماع بأنها علاقة اعتماد بين اثنين، الشخص المؤتمن والشخص المؤتمن عليه، وهي رمز وقيمة أخلاقية إيفائية على الشخص المؤتمن أن يفي بوعده.
ولا يخلو تعريفها من دخالة العوامل النفسية، فهي انبثاق داخلي من صلب شخصية الإنسان قائمة على الاعتقاد والايمان الراسخ والقوي بمصداقية أو حقيقة شخصٍ ما، ليتعزّز الشعور الداخلي في الأعماق الذي يمكِّن الشخص من مواجهة تحدّيات الحياة الاجتماعية من خلال نظرته لذاته (قابليات، حاجات، مهارات، دوافع)، ونظرته إلى الآخرين، حيث ينمّي اليقين والاطمنان بقدرات ومهارات شخص ما في تحمّل مسؤولية، أو مهام عمل، أو أهلية لعلاقة اجتماعية، وتكاد تكون الصفة الاجتماعية الوحيدة التي لا يكتسبها الفرد بل يستحقها، بأن يمنحه إياها الآخرون.
لذا حُدِّدت أربع مراحل لتنمية الثقة:
- الأمن الداخلي.
- معرفة الاحتياجات.
- اكتساب المهارات.
- اعتراف الآخرين بهذه المهارات.
مرتكزات الثقة
تقوم الثقة على أربعة ركائز: الصدق والواقعية والاهتمام والاعتدال.
- الصدق وهو مفتاح كل العلاقات الاجتماعية، وبالمقابل الكذب هو مفسد كل العلاقات الاجتماعية، والمصداقية هي التي تحكم العلاقة بين الطرفين في القول الذي يترجم بالعمل، الوفاء بالعهد، حفظ الأسرار، تحمل المسؤولية وغيرها.
- الواقعية في معرفة إمكانيات وقدرات ومهارات أنفسنا والآخرين بكل شفافية وفق معايير محدّدة وواضحة، والقياس على أساسها في قدرتها على تلبية الحاجات الاجتماعية.
- الاهتمام من قبل الطرفين الذي يترجم بحس المسؤولية في المستوى الأول، والمتابعة في المستوى الثاني، فالإهمال يؤدي إلى الارتياب والشك وكسر الثقة، خاصة الإهمال غير المبرّر علميًّا ومنطقيًّا واجتماعيًّا.
- الاعتدال في الثقة بالآخرين، نحن في مجتمع متعدّد المكنونات الثقافية، ومفتوح على كل الاحتمالات، ما يجعلنا نتوقع كل النتائج لتجنّب الأزمات الاجتماعية والانتكاسات النفسية. يقول الإمام علي (ع) في هذا الصدد:
” أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما”[3].
أسس بناء الثقة
من الصعب بناء الثقة بمرة واحدة، إنما تحتاج عملية البناء لتراكم التجربة الاجتماعية المحدّدة بالقول والعمل، وعليه نقسم الشخصية الإنسانية إلى خمس مكونات، كل مكون يكشف بعدًا من أبعاد هذه الشخصية، فتكون صورة شبه مكتملة في أذهاننا نبني ثقتنا عليها.
- المظهر الخارجي الذي يعطي صورة جزئية يعكس الثقافة التي يحملها حول الملبس، كما يختزن البعد الاجتماعي الطبقي والحضاري.
- البيئة الاجتماعية والحالة الاجتماعية التي تكون صورة نصف مكتملة حول البيئة المؤثرة في الشخصية، فتفتح الأفق أمام تعدّد الفرضيات في الشخصية.
- يُعرف المرء من خلال القدرات العقلية والمهارة في الحديث، ورد عن الإمام علي (ع) “تكلّموا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طي لسانه”[4]، و”الكلمة الطيبة صدقة” الرسول الأكرم (ص)[5]، كما أن أسلوب ومنطق الحوار ولغة الجسد تكشف الكثير من أبعاد شخصية الإنسان.
- تكشف المواقف الانفعالية، من فعل وردات الفعل في علاقته مع الأهل والأصحاب عن مستويات التوازن في تفكيره وشخصيته.
- تنطلق من الروح، وهي الأكثر أهمية، الرغبة والإرادة والدافع الذي يحرك الإنسان، وقد ذكر أحد قادة المقاومة في تعليله لعوامل الانتصار التاريخي للمقاومة في دحر العدو بأن “الذي يقاتل فينا هي الروح”؛ فهي التي صنعت الانتصارات، وبالتالي هي محرك وأساس كل عمل.
منظومة الثقة
يرى إميل دوركايم بأن المجتمع ينبغي أن يدار عبر السلطة الأخلاقية، بحيث تصبح فيه مصالح الفرد قادرة على التكامل في المجتمع على أسس الالتزام بالمعايير والقواعد الجمعية، ويتطلّب تحقيق ذلك بعض التضحيات المتبادلة من أجل تقييد السلوك الأناني، فهو يعتبر بأن النظام الأخلاقي هو أساس تماسك المجتمع وهو الذي يجعل العيش المشترك بين الناس ممكنًا.
يتضح منذ البداية معاداة دوركايم للنزعة الفردية، بحيث يذهب روبرت نيسبت إلى أن دوركايم يشترك مع فرويد في تحمّل جزء كبير من المسؤولية عن تحويل الفكر من التركيز على الإرادة والاختيار والوعي الفردي، إلى التركيز على الجوانب غير الاختيارية وغير العقلية. بل إن رد فعل دوركايم تجاه المذهب الثوري كان أكثر ثورية من فرويد من حيث إنه ظل هو بؤرة الاهتمام الرئيسية في تحليلات فرويد النفسية، أما دوركايم فإنه يركّز على الظروف الاجتماعية الخارجية كمصدر للدافع والفكر والسلوك. فما نهتم به عند دراسة أسبقية المجتمع على الفرد، ومن قدرة هذا المجتمع على أن يضع مجموعة من الميكانيزمات القهرية تضبط سلوك الأفراد داخله، ومن هنا تظهر معاداة دوركايم للفكر الفردي، وهذا شيء طبيعي طالماأان بؤرة اهتمامه الرئيسية هي النظام العام. فهو يخاف أن تقضي المنفعة الفردية والتنافس على وجود هذا النظام، وأكد في نفس السياق هربرت سبنسر بأن جوهر النظرية هو علاقة التبادل الاقتصادي التي تحسمها حسابات العرض والطلب بين الأطراف الداخلة في التعاقد، مما جعل دوركايم ينظر إلى العقد الاجتماعي نظرة مجتمعية عامة، يتحقق من خلاله النظام العام، وبدونه يصبح الناس في حالة حرب، فتحقيق المصالح المتعددة للأفراد من خلال التعاقد هو الذي يقلل من حدة العداء الكامن بين الأفراد، ويؤدي ذلك إلى فائدة متبادلة وسلام متبادل، هذا التعاون الجمعي ينبغي أن يشبع الدوافع الأنانية للأفراد وإلا ستكون ممارسته غير مستقرة[6].
لقد عالج مفكّرو علم الاجتماع الغربي الاتجاهات الاجتماعية بين الأفراد معالجة مادية قائمة على المنفعة الفردية والمتقاطعة أو المشتركة مع المنفعة العامة، فقد عالج دوركايم الدين كظاهرة اجتماعية مثل كل ظواهر المجتمع، فمن حيث الموضوع حدّد خصائص الظاهرة الاجتماعية، ومن حيث المنهج ركّز دوركايم على الموضوعية والعلمية في دراسة الظواهر الاجتماعية، إلى درجة أنه ذهب إلى أننا يجب أن نعتبرها ” أشياء” خارجية منفصلة عن شعورنا الذاتي، وأنه يجب على الباحث أن يتحرّر من كل فكرة سابقة عن الظاهرة كي لا يقع في أسر أفكاره الخاصة، هذه المعالجة المادّية فصلت الخارج الموضوعي عن الارتباط بالذات المعنوية، فأفرغت هذه المعالجات هذه المجتمعات من القيم الأخلاقية ببعدها الإنساني، فضلًا عن بعدها الديني، وفضلًا عن أن هذه الأنظمة الوضعية العقلية عجزت عن تأمين الاستقرار المجتمعي للمجتمعات ما لم تلتزم بمستويات معقولة من الأخلاق بحسب توصيف مفكري علم الاجتماع الغربي.
أما المدرسة الأخلاقية الدينية ترى بأن الثقة منظومة لا تخرج من دائرتها المغلقة التي تتمحور بين ثلاث مستويات، مستوى أول ينطلق منه للمستويات الأخرى.
- الثقة بالله: التوكل عليه والتسليم لقضائه، نستشهد هنا بقصة النبي موسى (ع) للدلالة على مستويات التوكل على الله والتسليم لقضائه، فلما تراءى الجمعان لموسى قال الحواريون إنا لمدركون، قال كلا: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾[7]، فالقلب الذي يمتلىء ثقة بالله تعالى لا تتقدم فيه أية ثقة بالآخرين بل دائمًا تتأخر الثقة بالآخرين وتُستمد من الثقة بالله أولًا.
- الثقة بالنفس نستمدها من ثقتنا بالله المنعم علينا بالقابليات والمواهب والقدرات العقلية والمهنية، في توظيفها لاكتساب المهارات وفق احتياجاتنا الاجتماعية للوصول الى الاطمئنان بتأدية التكليف الإلهي، بأن يرانا الله حيث يجب أن نكون، ترتكز هذه الثقة على الثقة بالله العادل والحكيم في تسيير أمورنا فيما هو خير لنا وللآخرين.
- الثقة بالآخرين نستمدها من ثقتنا بأنفسنا وحاجاتنا للآخرين لملء الناقص الموجود فينا، هو اعتقاد وإيمان بقدرات ومهارات الآخرين لنتكامل معهم في بناء مجتمع مستقر؛ لأن الارتياب والشك بقدرات الآخرين تُنتج مجتمع مضطرب غير مستقر، من هنا الثقة بالآخرين حاجة مجتمعية للاطمئنان والتكامل الإنساني من جهة، كما أنه يكشف الاتجاه القرآني لتنشئة المجتمع وفق رؤية المودة والرحمة العلائقية المجتمعية، التي تبدأ من الأسرة لكل المجتمع بكل مؤسساته المجتمعية، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[8].
تكشف هذه الأوراق البسيطة الخلفية المعرفية للمستويات العلائقية للسلوكيات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، والثقة بالآخرين وإعادة بناء الثقة بعد كسرها، واحدة من مفردات هذه السلوكيات، التي تنحكم باتجاهات أصحابها الثقافية المعرفية أو العقيدية، حيث تتباين سلوكيات الاتجاه الرحماني الاجتماعي في المدرسة الدينية، عن الاتجاه النفعي في المدرسة المادية وإن اتفق الاتجاهان على مبدأ الاستقرار الاجتماعي وانتظام المجتمع.
[1] كيف تعيد بناء الثقة مرة أخرى مع شخص فقدت ثقته. http://www.ts3a.com تاريخ الدخول:6/8/2019.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الطبعة 3 (تهران: دار الكتب الإسلامية، 1983)، الجزء 68، الصفحة ٤٢٥.
[3] نهج البلاغة، الحكمة 365.
[4] المصدر نفسه، الحكمة 389.
[5] محمد بن الحسن بن علي، المعروف بالحُر العاملي، وسائل الشيعة، (قم/إيران: مؤسسة آل البيت، 1409 هجرية)، الجزء 5، الصفحة 233.
[6] أحمد زايد، التغيير الاجتماعي، 2006، الصفحتان 78 و 79.
[7] سورة الشعراء، الآية 62.
[8] سورة الأنبياء: الآية 107.