روايات الثواب على البكاء في عمق الشبهات؟!

روايات الثواب على البكاء في عمق الشبهات؟!

الحديث في هذه المقالة هو عن النصوص الدينية التي جاءت تبلّغ بكثرة الثواب لمن أبكى وبكى أو تباكى على الإمام الحسين (ع) أو غيره من نقباء أهل البيت (ع)، وللغرابة في فكر المستغربين سؤال وسؤال يتحدثون به..

  • كيف لنا أن نصدق هذا العطاء بلا وزن؟

  • أليست هذه الروايات تدفعنا أن نصبغ الحياة بلون المأساة؟

ولتمرير الإجابة على السؤال الأول أمامنا محاولتان:

المحاولة الأولى: نسترق فيها السمع لبعض هذه الروايات، وبما أنها كثيرة سأضع المؤشر على أشدها غرابة وأكتفي..

1- صحيحة ابن شبيب في لقائه بالإمام الرضا (ع):

“يا بن شبيب إن كنت باكيا لشيء فابك للحسين بن علي (ع)، فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيه، ولقد بكت السموات السبع والأرضون لقتله…يا بن شبيب إن بكيت على الحسين (ع) حتى تصير دموعك على خديك غفر الله كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا قليلا أو كثيرا”([2])!

2- خبر الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (ع): “من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ولو مثل جناح الذباب غفر الله له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر”([3]).

3- خبر إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (ع): “فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام”([4]).

وإن في السياق نفسه روايات أخرى بين ما أوجب الجنة وحرّم النار على الباكين الواجدين طعم المصاب على أبي عبد الله الحسين (ع).

ولكن هذه الروايات إنما تحثنا على النظر في المحاولة الأخرى.

المحاولة الثانية: وبها نصل إلى النظريات والوجوه المفترضة لفك لغز هذه النصوص، وعلينا أن نقول أولًا بأن هذه الشبهة ليست خاصةً بروايات البكاء والتباكي على الحسين (ع)، بل إنها تعم روايات الثواب في مختلف المواضيع.

ولزيادة المعلومة نقول إن نكرانها والاسترابة منها ليس حالةً خاصةً بالتراث الشيعي وحسب، إنما هي حالة سارية في المذاهب المنافسة أيضًا، كما صنع ابن الجوزي في كتابه الموضوعات مع روايات ثواب الذكر الخفي وثواب ليلة القدر المباركة.

 

النظرة العلاجية للبهبودي

وهو المعلق والمصحح لكتاب بحار الأنوار من تصنيف الشيخ المجلسي الثاني، وبما أننا انتهينا إلى ذكر المجلسي ننوه بأنه قد نقل عن السيد ابن طاووس أن هذه الشبهة حول الروايات الخاصة بثواب البكاء على الحسين (ع) قد علقت في أذهان بعض من يدعي العلم منذ ذلك الزمن([5]).

يقول البهبودي: إن هذه الأحاديث بين صِحاح وحِسان وضِعاف وهي مستفيضة لا تتطرق إليها يد الجرح والتأويل ولكن ما الجواب؟

قال: “… لكنها صدرت حينما كان ذكر الحسين والبكاء عليه وزيارته ورثاؤه إنكارًا للمنكر ومجاهدةً في ذات الله مع بني أمية الظالمة الغشوم وهدمًا لأساسهم وتقبيحًا وتنفيرًا من سيرتهم التي كفرت بالقرآن والرسول”.

إذن ليس هو بكاء في بكاء، بل من وراء البكاء كل تلك القيم من المجاهدة والمناكرة إلى الهدم لسيرة بني أمية وقد جمع أجر كل ذلك في البكاء!

 

نقد تخريج البهبودي

وهذا التخريج بالرغم مما فيه من لطافة ولكنه لا يمتنع على المداخلة، فنقول لشيخنا المبجل: إن قسمًا من هذه الأخبار قد جاء في عهد دولة بني العباس أي بعد انتهاء دولة بني أمية، وهكذا تصبح مساعي التحقيب التاريخي للنص بلا وجه!

وأما لو قصدنا الروح الأموية الخبيثة التي تتوارث حتى بعد هلاك رموزها فلا شك في أن هذه الروح باقية عند قسم من المسلمين إلى اليوم ولن تتقوض!! وبهذا تزول كل الأسوار التاريخية ليصبح النص طليقًا يرتحل مع كل زمان ومكان.

كما بالإمكان أن نقول عن الجهة الأخرى من كلامه: إن تعليق الثواب الكثير على المناكرة لا يحدد بوقت ولا بظرف تاريخي معين، وذلك لأن المناكرة على حدين:

– حد الدفع للمنكر الذي يجسده عناصر الشر البشري.

– وحد المنع والممانعة من وقوع المنكر قبل حصوله، وهو ما نسميه بالوقاية المجتمعية، وهذه مستمرة باستمرار صلاحية النفس البشرية وقابليتها للانزلاق في مهاوي الجرائم وإثارة الأحداث الشنيعة.

وغير هذا فإن بالإمكان القول إن النصوص على كثرتها – وقد اعترف هو بذلك – لم تشر إلى المبنى الذي ترجَّحَ في نظره!

 

النظرة العلاجية للمامقاني

فقد تعرض لكثرة الثواب في موضع الكلام على زيارة أبي عبد الله (ع)، وكيف أنها تعادل ثواب ألف حجة وألف عمرة، قال: “قدس الله ذكره”:

“ولا عجب من هذا الأجر العظيم الذي لا يتحمله عقول أواسط البشر… لأن الله عز وجل يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم… ولا عجب في زيادة ثواب المستحب على ثواب الواجب، كما ورد في ثواب ابتداء السلام المندوب وأنه أزيد من ثواب رده، ويجب الالتفات إلى أن هذا من علم الغيب؛ ولذا كان المسح على ظاهر القدم من الغيب، وإلا فإن باطنه أولى بالمسح لصدق القدم على الباطن، وأيضًا كان الوقوف الذي هو أحد ركنَي الحج خارج الحرم في عرفات، مع أن المسجد والحرم أفضل!”([6]).

وفي المحصلة النهائية من حديثه: إن هذا إنما هو اعتراض على الفضل الإلهي – وسأتعلق بهذه المفردة في نهاية المقال إن شاء الله تعالى – وأما ما أقوله في هذه اللحظة فهو: أن من يملك الفضل لا يلام فيما يُفضِل.

 

صورة تاريخية

أتى بعض الشعراء إلى معن بن زائدة عامل العراق بالبصرة، فأقام ببابه مدةً يريد الدخول ولم يتهيأ له ذلك، وفي ذات يوم دخل بستانَه وجلس على قناة ماء، فقام الشاعر بكتابة بيت شعر:

أيا جود معنٍ ناجِ معنًا بحاجتي *** فليس إلى معنٍ سواك شفيعُ

ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، فلما رآها معنٌ وقرأ البيت صاح في خدمه: من الرجل؟ فأُتي به فأمر له بعشرة بدر فأخذها وانصرف، ووضع معن الخشبة تحت بساطه، وفي اليوم الثاني أخرجها ونظر فيها وقال: عليّ بالرجل، فأُتي به وأمر له بعشرين فأخذها وانصرف، ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان في اليوم الثالث أخرجها ونظر فيها وصنع مثل ما صنع قبل، ثم إن الشاعر تفكر في نفسه وخاف أن يأخذ ما أعطاه فخرج من البلد بما معه، وفي اليوم الرابع طلب الرجلَ فلم يجده فقال معن: لقد ساء والله ظنه، ولقد هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم ولا دينار([7])!!

فمعن بن زائدة رجل من البشر نوجي بكرمه فأراد إعطاء كل ما يملك فما بالك بالله عز وجل؟

 

النظرة العلاجية للإمام الخميني

لقد انتصر هذا الفقيه لهذه الروايات وأشباهها بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل وهنا سأعرض لكلامه بشكل مجمل لأن مساحة المقالة لا تفي بنقل كلامه بسعته وطوله.

أولى الآيات قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَاۗ}[8]، ألقوا نظرةً إلى أنواع النعم التي منحنا الله عز وجل إياها، من الشمس والقمر والأنجم الزاهرة، إلى حركة الليل والنهار وتبدل الفصول وذرات الكائنات والعناصر والمعادن والنباتات والحيوانات والهواء النقي والماء العذب والأرض الواسعة والبحار المائجة والصحاري وغيوم الأمطار والأراضي الزراعية والجبال والسهول والمأكولات المختلفة والملبوسات المتنوعة… وبعد هذا الذي لن تعدّوه مما هو خارج أبدانكم، انظروا إلى أبدانكم وما فيها من الأدوات والآلات… وحينئذ اسألوا أنفسكم.

 لماذا كل هذه النعم وفي مقابل ماذا؟

خصوصًا إذا لاحظنا أنها لا تقتصر على الموحد من الناس!!

فأي مستنكر في أن يعطي الله إكرامًا لمجاهد في سبيله آلاف النعم التي لا يتمكن الإنسان من إحصائها!

ثاني الآيات قوله سبحانه: {سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[9].

فهل يمكن مقايسة سنين معدودة من أعمالنا مع نعم لا تنتهي وفي زمان لا ينتهي ومساحة لا تنتهي؟!

ثالث الآيات قوله جل وعلا: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا}[10].

فليعترض الأنبياء وشهداء بدر وأحد بهذا الإشكال البسيط وليعرضوا شكواهم على الله – نستغفر الله – أمام إحدى المحاكم وليقولوا إننا تحملنا الأذى وأهرقنا دماءنا عندما كان الإسلام ضعيفًا فارتفع بنا الإسلام، فماذا جرى إذ جعلتنا في درجة واحدة مع شخص مات بعد عمر السبعين – مثلًا – ولم يخدم دينك وإنما أطاعك وأطاع النبي في الصلاة والصوم وأمثال ذلك؟!

وأيضًا ليعترض بنو إسرائيل الذين كانوا يجاهدون ألف شهر في جعل ثواب ليلة خيرًا من عملهم؟!

ومما كان يقوله (رحمه الله): علينا أن نحذف نصف القرآن كي تتم هذه النظرة الضيقة([11])!!

 

نظرتنا العلاجية

وهي من نافلة القول، إذ في ما أفاض به الأعلام ما يجزي ويكفي لهذا الموضوع، وإنما ننقلها هنا توثيقًا لما يجول في الخاطر من نقاط في هذا الشأن:

أ) إن هذه الكثرة فيها من الثواب عرض للجوائز، وأن الجائزة متى ما كانت متوقعةً فإن كرم مانحها لا يفاجئ الممنوحين، بمعنى أنه لا يزال محدودًا إذ أصابته التوقعات المحدودة؛ ولذا جاءت هذه الوفرة حتى يكون للقاء المؤمنين بربهم فرحتان، فرحة بالعطاء، وفرحة بالعظمة الإلهية الفائقة للتوقعات، فإن تجليها من أهم مصادر السعادة بلا ريب.

ب) إن سعة الآخرة لا يكفي للتمتع بأكثرها عمل سبعين سنة أو أقل أو أكثر، فيضاعف الله الأعمال حتى كأنها عمر طويل، وبكلمة بديلة: إن الأرقام الخيالية في الثواب إشارة وعبارة أخرى عن أن يوم دخول الرحمة الإلهية – فيما بعد هذه الدنيا – هو يوم مفتوح أمام المؤمنين!!

ج) إن هذه الكثرة تأتي ترغيبيةً في الأمور التي تقل فيها رغبة الناس عادة، ونظيرها شدة العقوبة والمبالغة فيها مع بعض الآثام فإنها ما جاءت إلا متناسبةً مع روحية المعصية التي هي نزوة ونزعة دائمة وشديدة لا يمكن السيطرة عليها غالبًا إلا بهكذا تهديد ووعيد، وكثرة الثواب لا تختلف عن هذا المبدأ في منطلقها الروحي والنفسي، فإنها غالبًا تتناسب مع روحية الطاعة من حيث إنها عرضة للتثبط أو التجاهل أو العزوف والاستثقال.. إذن فكثرة الثواب أسلوب استنهاضي لما لا يتم النهوض فيه إلا به!

كما يهون أمر السؤال الثاني([12]) إذا ما أجبنا:

إن مأساة الحسين (ع)، ومواجهة الطغاة له، وعدم الاستجابة لواعيته وندائه، ليست مجرد مأساة تاريخية، بل هي مأساة إنسانية. وإن التفاعل معها بالوقوف الدائم عليها يبني في الإنسان جدار الرهبة من الوقوع في حُفرِ الظلم، والتي هي تحت موطئ أقدام الإنسان على مر الزمان، وتشق منابع الشفقة في قلب المؤمن أمام المستضعفين الذين يمر بهم أو يتلقى أخبارهم فينكسر لهم، وتُكسبه الوعي بضرورة التقييم الذاتي للخير والشر. فنحن نملك ثقةً تاريخيةً وإنسانيةً بأن الخير لم يستطع يومًا أن يحشد المشاعر لصالحه كما حشدها يوم الحسين (ع)، وأن الشر لم يُلعن يومًا كما لُعن في يوم الحسين (ع)!!

وهذا ما يعود بنا إلى الكلمة المأثورة: “لا يوم كيومك يا أبا عبد الله”([13])، أي لا يوم كيومك في العظمة، والإلهام، والتناغم مع الأرواح والعقول، وإن كان في ظاهره يوم لوعة ومصاب! وبكلمة أقرب: إن اليوم الذي تجري فيه أشد المآسي وأخزاها إذا كان من الأيام التي تنسى فإنه لا يُقرن بأيام المصاب الأخرى الحية في الذاكرة التاريخية، وإنما يصح القرن بينه وبين الأيام الأخرى إذا ما كان له خاصية الظهور في الذاكرة التاريخية وفاعلية العاطفة البشرية، ويوم أبي عبد الله الحسين (ع) قد فاق سائر الأيام في هاتَين الخاصيتَين، وزاد عليها بالخاصية الثالثة وهي التأثير والإلهام الروحي للناس، ولذلك ميزه الإمام الحسن الزكي على سائر أيام المآسي التاريخية.

[1] المقال مقتطع من كتاب مدارات حسينية، الصادر عن دار المعارف الحكمية.

([2]) عيون أخبار الرضا، الصفحة 268.

([3]) وسائل الشيعة، الجزء 4، الصفحة 501.

([4]) المصدر نفسه، الجزء 14، الصفحة 504.

([5]) على هامش بحار الأنوار، الجزء 44، الصفحة 293.

([6]) مرآة الكمال، الجزء 1، الصفحة 175.

([7]) المستطرف من كل فن مستظرف، الجزء 1، الصفحة 237.

[8] سورة النحل، الآية 18.

[9] سورة الحديد، الآية 21.

[10] سورة النساء، الآية 69.

([11]) كشف الأسرار، الصفحة 165.

([12]) راجع بداية المقال.

([13]) أمالي الشيخ الصدوق، الصفحة 177.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
البكاءالشبهاتالإمام الحسين

المقالات المرتبطة

جاك دريدا ومغامرة الاختلاف الكتابة كفضاء للاختلاف

إن إحدى السمات الأساسية لما يقدمه ديريدا، هي زعزعة صرح نزعة التمركز الأوروبي

قراءة في رسائل نابليون في مصر 1

على مدى التاريخ انشغل الباحثون بعدد من القادة العسكريين، الذين أيًا كان عددهم فسوف يكون نابليون بونابرت بالتأكيد أحدهم، إن لم يكن أهمهم.

طرائقيّة علم الاجتماع المعاصر

“لا تهرف بما لا تعرف”، تلك هي الخطوة الأولى التي يخطوها الباحث في مجالات علم الاجتماع الديني المعاصر، للفصل بين

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<