عاشوراء: منهج إصلاحيّ أنتروبولوجيّ

عاشوراء: منهج إصلاحيّ أنتروبولوجيّ
 التديّن حاجة فطريّة لدى الإنسان، تتجلّى في لجوئه إلى الله تعالى عند الشدّة، وهذا ما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ[1]. كما إنّ الإنسان هو هدف الرسالات السماوية؛ لذلك نجد اهتمام الدين الإسلاميّ بمشكلات الحياة الإنسانية، فوضع الحلول التي تخدم الإنسان والمجتمع في مسار تقدّم الإنسانيّة، وشكّلت هذه الحلول مبادئ اقتدى بها المسلمون وغيرهم. وركّز الدين الإسلاميّ على غرس مفاهيم السلوك القويم بتقديم القدوة للمجتمعات كافة، فتقديم القدوة منهج تربوي أشار إليه الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ[2]، والرسول الأسوة أشار إلى ارتباط خاص بينه وبين الحسين (ع)، بقوله: “حسين منّي، وأنا من حسين”، ما يدلّ على أنّ الحسين هو امتداد لخطّ النبوّة والرسالة؛ فهو رائد مدرسة عاشوراء التي أصبحت مدرسة للإنسانية، لما قدّمته من دروس في التضحية والوفاء، ورفض الظلم ونصرة الحقّ، حتّى صارت الثقافة العاشورائية منهجًا إصلاحيًّا يُقتدى في المسيرة الإنسانية على مرّ العصور، مع كلّ ما نراه حديثًا من اهتمامات الأنتروبولوجيا الثقافية في دراسة مشكلات الإنسان. وهنا نتساءل: هل تقاطعت الثقافة العاشورائية مع الأنتروبولوجيا الثقافية؟
   إنّ النهضة الحسينية انطلقت، منذ رفض الحسين (ع) مبايعة يزيد، من أجل إصلاح أمور الأمّة، ومن أجل تحرير إرادتها من الخوف واقتصادها من النهب. وحدثت المواجهة في كربلاء، يوم العاشر من محرّم (سنة 61 ه_ 680 م)، بين الحسين (ع) مع أهل بيته وأنصاره، وجيش يزيد، شعاراتها كلمات الحسين (ع) التي تضمّنت رفضه مبايعة يزيد، وما قاله أثناء مسيره من المدينة إلى كربلاء، ويوم المعركة. فاتخذت النهضة طابع الإصلاح، من خلال الدعوة إلى صحوة الضمير والجهاد في سبيل العيش بإباء والقضاء على الظلم. ومن شعاراتها: “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي رسول الله”. “يزيد رجل فاسق، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله”. “على الإسلام السلام، إذا بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد”. ” إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برما”. “ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ فليرغب المؤمن إلى لقاء ربّه محقّا”. “من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرام الله، ناكثًا لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّره بفعل؟ كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله”. “ما الإمام إلّا العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله”. “ألا من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا”. “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد”. هيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون”. “فهل إلّا الموت؟ فمرحبًا به”. “صبرًا بني الكرام، فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم”. “الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار”. “موت في عزّ خير من حياة في ذلّ”. “إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم”. “هل من ناصر ينصرني؟ هل من ذابٍ يذبّ عن حرم رسول الله”.
   لقد ضحّى الحسين (ع) بنفسه، وبأهل بيته، وبأمواله، وحمل معه النساء إلى كربلاء، وهو يعلم ما سيجري عليهنّ من نكبات وخطوب؛ لأنّه يعلم، ضمن تخطيطه لهذه النهضة، ما للسبايا من دور مشرق في إكمال نهضته، ببلورة الرأي العام من خلال نشر المبادئ التي استشهد من أجلها. وهذا ما أكملته السيدة زينب (ع) مع الإمام زين العابدين (ع)، في مسيرتها من كربلاء إلى الشام، وفي مجلس يزيد، من خلال تبيانهما للناس ما جرى في كربلاء، فكان لهما دور إعلاميّ، أظهر الحقائق، وألهب مشاعر الناس.
   وانطلقت مسيرة الشعائر الحسينية، وصار الإمام زين العابدين (ع) يذكر ما حدث لهم في كربلاء أمام أهل بيته وأصحابه، وبين الناس في المسجد أو الأسواق، فيرثي الإمام الحسين (ع) ويبكيه. وهكذا فعل الأئمة (ع)، مع كلّ ذكرى عاشوراء، بكوا الحسين، وأمروا شيعتهم ومواليهم وأشياعهم بذلك، فأقيمت المآتم، ورثاه الشعراء.
   وتوالت الشعائر العاشورائية بأمر وموافقة الأئمة، واستمرّت حتّى عصرنا الحاضر. ومن هذه الشعائر في عصر الأئمة: الشعر والندب والنواح وقراءة ما حدث يوم عاشوراء، وقد ساهمت في ترسيخ وتطوير هذه العادات الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بالشيعة، وأدخلت عليها عادات جديدة، مثل: الضرب بالزنجيل والتطبير واستخدام الآلات الموسيقيّة… ردّها البعض إلى طرق الصوفيّة، وإلى الظروف السياسية والاجتماعية للحكومات الشيعيّة التي توالت (البويهيّة _ الفاطميّة _ الصفويّة).
   إنّ الهدف من الشعائر الحسينيّة هو إثارة التعاطف مع المشهد العاشورائي ونشر الثقافة الحسينيّة؛ لذلك تعدّدت وسائل النشر وواكبت التقدّم التكنولوجي، ولم تعد وسيلة الثقافة الحسينية منحصرة في المدارس الدينيّة والمنابر، والكتب والإذاعة والتلفزة والجرائد والمجلات، فقد زيدت عليها وسائل التواصل الاجتماعيّ، وخصوصًا مع عصر التباعد الذي نعيشه بسبب جائحة كورونا، وتحوّلت بيوت المشاركين في المجالس الحسينية عبر وسائل التواصل المباشرة إلى مراكز إحياء لمراسم عاشوراء.
   إنّ الثقافة الحسينيّة فتحت آفاقًا مشرقة لغناها بقيم التمرّد على الظلم والطغيان، ومواجهة الاستبداد والفساد بلا خوف من عدم تكافؤ القوى؛ لأنّ النهضة التي قام بها الحسين لم تكن ثورة وقتيّة، كانت لكلّ عصر تقابل فيه جيشا الحق والباطل. لقد صارت ثقافة عاشوراء ثقافة الإصلاح لكلّ شعب ولكلّ عصر؛ الإصلاح الذي كشف عنه البيان الأول للحسين (ع): “إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدي رسول الله”… فالهدف ليس مكسبًا شخصيًّا، بل الحفاظ على الدين الذي جاء به الرسول محمّد (ص) من التحريف والتزييف، والوقوف بوجه الفساد بمختلف أبعاده الدينيّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
   لقد صارت الثقافة الحسينيّة وسيلة تربوية لتنشئة الأطفال على حبّ الحسين (ع)، وفهم نهجه منذ الصغر، ما يدلّ على تقاطعها مع الأنتروبولوجيا الثقافيّة التي تهتمّ بالثقافة المجتمعيّة المرتبطة بالثقافة التاريخيّة للمجتمع، في دراستها لمشكلات المجتمع من أجل وضع الحلول المناسبة لعلاجها. فعاشوراء مدرسة لها بعد استشرافيّ، لما قدّمته من دروس في كيفيّة انتصار الدم على السيف، بقلب مفهوم الموت إلى مفهوم جديد للحياة، ما ساعد على ظهور شخصيّات نهضوية على مرّ الأجيال.
    بهذا الاستشراف حقّقت النهضة الحسينيّة بعدًا روحيًّا منحها القوة والإصرار على مواجهة الظلم، وحقّق مفهومًا جديدًا للشهادة في سبيل المبدأ والعقيدة، فصارت عاشوراء منهجًا إصلاحيًّا، تصنع فكرًا متحرّرًا من قيود الظلم، يرفض الحياة بذلّ، ويجد الموت سعادة في سبيل العيش بإباء. وإذا كانت الأنتروبولوجيا تهتمّ بحلّ مشكلات الإنسان بالرجوع إلى تراثه وربطه بالحاضر، فإنّ الرسول محمّد (ص) قد مهّد بقوله: “حسين منّي وأنا من حسين” لحلّ المشكلات التي ستمرّ بها الأمّة، وهو بذلك قد مهّد لعاشوراء التي أنضجت حدوثها الظروف المناسبة في عصر الحسين (ع)، فقدّمت الدروس الملائمة لكلّ عصر تلتقي معه بالظروف والمواقف التي تستدعيها. وهنا نستطيع أن نعطي عاشوراء سمة المنهج الأنتروبولوجي، وتستحقّ أن تحظى بدراسات مقارنة مع ما أجري من دراسات في الأنتروبولوجيا الثقافية ذات الأبعاد المشابهة للثقافة العاشورائية، من أجل إظهار تفرّد عاشوراء بثقافتها التي يتلازم لإيصالها العقل والقلب.
  
  
[1]  سورة الزمر، الآية 8.
[2]  سورة الأحزاب، الآية 21.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
عاشوراءمنهج إصلاحي

المقالات المرتبطة

المفهوم الأخلاقي للحياد ومفاعيله السياسيّة والحواريّة

في خضمّ صراع المحاور الحضاريّة والاقتصاديّة وما يدور حولها من مسارات جيوسياسيّة، يطرح البعض “وضعيّة الحياد” كموقف رسميّ للدولة اللبنانيّة

لاهوت الخلاص وإرهاصات التنوير

تعتبر هذه الورقة بمثابة مطالعة ممهِّدة لقراءة كتاب الخلاص المسيحي: اتجاهات أربعة في عالم تعددي – وهو الترجمة العربية الكاملة الأولى

العارف الثائر.. السائر إلى الجمال المطلق

سلام على شهيدنا المربّي الجمالي الكبير هو يرشدنا إلى طريقة الشريعة السهلة السمحاء للسير والسلوك الجهادي، وصولًا إلى الفناء بجمال الحق المتعالي ومسك الختام!

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<