العنف والعنف الرمزي
يتداول الإعلام بشكل دائم مفهوم العنف، ويُقدّم على أساس الفعل الموجّه باتجاه الآخر لإيقاع الأذى به، وفي هذا المجال، لا يخلو التقديم من تسخيف وتلاعب بالمفهوم، حيث يتمّ الخلط بين مفاهيم متعدّدة، فيتحوّل الكلام عن العنف إلى عنف بحدّ ذاته.
وهو أشدّ وطأة من المُتكلّم عنه، لأنّه يستهدف البنية النفسية للمتلقي، لأنّه يذهب باتجاه اللغة كوسيلة تواصل رمزي، ويتلاعب بها، ويسوقها بما يتلاءم مع مشروعه ورؤيته، فيحوّر فيها ويتلاعب بمفرداتها، وهذا بحدّ ذاته ممارسة عنفية واضحة، يقوم المُلقي عن سابق تخطيط ممنهح بإيقاع الأذى بالآخرين والعمل على زعزعة نفسيتهم، وهو وإن اختلف عن العنف المادي في الأدوات التي يستخدمها للوصول إلى هدفه، إلا أنّه أكثر تأثيرًا.
فالعنف الرمزي هو نوعٌ من العنف المُمنهج، يعمل على الإنسان الذي يصح أن يُسمى بحق الكائن الرمزي، لأنّه في كثير من مسائله الحياتية يعتمد الرمز بدءًا من اللغة كتصويتات إلى الإشارات والأنظمة الرياضية التي تحكم الكثير من تفصيلات حياته.
فالإنسان حتى يتشارك مع الآخرين في العالم بحاجة إلى هذا النظام، وإلا وقع بالمفارقة بينه وبين الأشياء التي يتعاطى معها، فكلّ فكر يفكر فيه، أو شعور يتحسّسه بحاجة إلى هذه الرمزية، فالرمز يجرد ويجسد، يوحد ويجمع، ويجعل ممكنًا ما ليس بالإمكان بلوغه إلا من خلاله، فهو يؤدّي دورًا حيويًّا ووظيفيًّا في مختلف جوانب الحياة الدينية والاجتماعية والمادية والمعنوية، ولا يمكن لهذا الكائن العيش بمعزل عنه.
لذلك، حين يعمل الإعلام على فرض تصور محدّد لمفردة أو حادثة، ويقوم يتعريفها انطلاقًا من رؤية رمزية مفارقة، تتنافض مع رؤية المُتلقي يسعى إلى التلاعب بالرموز والدلالات، أو تعميم أخرى لفرض نمط من الفكر أو المممارسة على الآخرين بشكل واع أو غير واع.
وهذا الأمر عنفٌ رمزي، عرّفه “بول بورديو” و”جان كلود باسرون” في كتابهما “إعادة الإنتاج” بأنّه: ” كلّ سلطة تطال فرض دلالات، وتطال فرضها على أنها شرعية“، وعرّفها في مكان آخر: “بأنه أي نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجبًا علاقات القوة التي تؤصّل قوتها”.
صحيح أنّ هناك عنف يُمارس إلا أنّ تقديمه وتوجيهه يجب أن يموضع ضمن إطار موضوعيّ، ومن دون إسقاط تعريفات من خارجه؛ تضفي عليها معنى جديدًا، يُخرجِها عن إطارها، لتنتج مرجعية قولية، تشكل بحدّ ذاتها رأسمال رمزي يمكن تبادله وتسويقه لتقويض نفسية المتلقي أو التأثير عليه، لاتخاذ مواقف لا تتناسب مع خلفياته الثقافية والاجتماعية والسياسية التي ينتمي إليها.
فما يشير إليه بورديو أنّ العنف الرمزي عنف هاديء ومستتر ولا محسوس حتى بالنسبة لضحاياه، يفرض الفاعلون من خلاله طريقتهم في التفكير والتعبير والتصور الذي يكون أكثر ملاءمة لمصالحهم على الخاضعين له، ويتجلى ذلك في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد على الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، هو أشبه ما يكون باستعمار نفسيّ، يهدف إلى احتلال الدلالات واستبدالها بأخرى لتغيير بُنى الوعي عند مجموعة من الناس.
وهكذا، نصل إلى القول: إنّ هذا النمط من العنف ليس أقل أهمية من العنف الجسدي، بل قد يكون العنف الأخير مجرد “مزحة” أمامه، لأنّه: “وإن لم يكن يمس حق الحياة لدى الفرد والجماعة [مع العلم بأنه في بعض الأحيان يتوسل العنف لتحقيق هدفه]، إلا أنه يصيب المتعرّض له في ما قد يكون مقدسًا لديه.
بل قد يكون هذا الضرب من العنف مرحلة نحو ممارسة العنف المادي، وعلى العموم لا يختلف معنى العنف في هذا النوع عن معناه في الثاني وهو: انتزاع المطالب بالقوة، وإكراه الآخر على التنازل عنها أو الاعتراف به”. ولأنّ هذا النوع من العنف هو عنف سلطوي يستدرج الرمز إلى ساحته، فهو يعتمد آليات تستطيع أن تحمل نواقله إلى الآخرين للسيطرة عليهم أو التحكم بهم.
المقالات المرتبطة
ديننا عين سياستنا وسياستنا عين ديننا
بالنظر لما كان يتمتع به الإمام (قده) من تبحّر عميق في التاريخ، خاصة التاريخ السياسي للإسلام، ثابر بالاستناد على سيرة، سنة وسلوك نبي الإسلام محمد (ص)
العلوم الإنسانية الإسلامية… المفهوم، الغاية، الوسيلة
يقدم آية الله الشيخ رضا غلامي، مداخلةً فكريّة يتناول فيها رؤيته لمفهوم أسلمة العلوم الإنسانية،
مسار النبيّ (ص) في خطاب الأمير (ع)
إنّ الاقتداء الدقيق بسيرة وحكمة وتدبير النبيّ يوصل عشائر ذباب الصحراء، ليكونوا الأمّة الشاهدة على الأمم، بل الحضارة والتاريخ.