مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 5

مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 5
المبنى الثاني: الظهور الذاتي والظهور الموضوعي
ميّز الشهيد الصدر بين نوعين من أنواع الظهور، وهما الظهور الذاتي، والظهور الموضوعي[1]:
فالظهور الذاتي: هو الظهور الحاصل في ذهن إنسان معيّن، والمتأثّر بالظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فرد إلى آخر بحسب أنسه الذهني. فهذه الظروف الخاصة بإنسان ما، والتي لا يشترك فيها مع أبناء نوعه، قد توجِب في بعض الأحيان علاقة خاصة بمعنى محدّد غير المعنى الذي يفهمه أبناء العرف العام من اللفظ؛ فيحصل عنده ظهور لمعنى من لفظ ما، على خلاف الظهور الحاصل عند أبناء العرف.
أما الظهور الموضوعي: فهو الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام. ويُسمّى هذا الظهور بالظهور الموضوعي بسبب وجود واقع موضوعي محدّد يكون مبرّرًا لهذا الظهور؛ وهذا الواقع هو الوضع[2]. كما أن هذا الظهور يُسمّى بالظهور النوعي؛ لأن أبناء النوع، أي أبناء العرف والمحاورة، يفهمونه؛ فهو ظهور مشترك بينهم، بل مشترك أيضًا بينهم، وبين كل من يجري على وفق الأساليب العامة في التعبير.
ويعتقد الشهيد الصدر أن موضوع الحجية في بحث حجية الظهور هو الظهور الموضوعي، دون الظهور الذاتي.
– إشكال والجواب عنه.
وهنا يأتي إشكال إلى الذهن، التفت إليه الشهيد الصدر، مفاده:
 إن كان الظهور الذاتي هو ما يتبادر إلى ذهن الفرد وينسبق إليه ويتأثّر بما سبق، فكيف لنا أن نصل إلى الظهور الموضوعي؟
ويُجيب الشهيد الصدر بأنه لو لاحظنا العقلاء، لوجدناهم يجعلون ما يتبادر وينسبق إلى ذهن كل شخص أمارةً وكاشفًا عن الظهور الموضوعي المشترك عند أبناء العرف؛ لأن هذا الانسباق مسبَّب عن أحد أمرين:
  • إما أن يكون بسبب الوضع.
  • وإما أن يكون بسبب عوامل خاصة به أدّت إلى حصول أنس ذهني عنده بين اللفظ وبين معنى خاص تابع لهذه العوامل.
وعلى هذا الأساس، لو فحص الإنسان، ولم يجد عوامل خاصة يفسّر بها ذلك الانسباق، انتفى السبب الثاني، فيتعيّن السبب الأول. وبالتالي، يكون الظهور الذاتي، بعد الفحص، أمارة على الظهور الموضوعي[3].
– إشكال آخر والجواب عنه.
لكن هذا لا يحلّ تمام المشكلة، إذ ثمّة إشكال آخر مفاده:
 سلّمنا أن الظهور الذاتي كاشف عقلائي عن الظهور الموضوعي، لكن الظهور الذاتي للمفسِّر في زمنه كاشفٌ عن الظهور الموضوعي في نفس الزمن، لا عن الظهور الموضوعي في زمن صدور النص؛ طبعًا مع فرض اختلاف الزمنين كما هو الحال في عصرنا.
وقد أجاب الشهيد الصدر عن هذا الإشكال[4] من خلال الاستفادة من أصل عقلائي يُسمّى بـ “أصالة عدم النقل”[5]، والشهيد الصدر يُسمّيه بـ “أصالة الثبات في اللغة”. فهذا الأصل العقلائي يحكي عن استقرار اللغة وثباتها بنظر الأفراد، فيعمد العقلاء بناءً على هذا الأصل إلى إلغاء احتمال تغيّر الظهور بين زمن وزمن؛ لأنه احتمال ضئيل وحالة استثنائية.
وهذا الأصل العقلائي ليس تعبّديًّا، بل هو كاشف عند العقلاء عن ثبات اللغة عند احتمال التغير والتبدل. وهذا الجواب قد تقدّم بشكل أكثر تفصيلًا في المانع الثاني.
وبهذا يتمّ الكلام في المبنى الثاني، ونؤجّل الكلام في المبنى الثالث إلى المقال اللاحق بإذن الله تعالى.

 

 

[1] انظر: الصدر، محمد باقر، دروس في علم الأصول، إعداد وتحقيق: لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر، (مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة1، 1421 ق)، الجزء 2، الصفحتان 205 و 206، بتصرّف يسير.
[2] بل لا بد من إضافة عنصر آخر إليه، وهو العنصر الاجتماعي، وهذه الإضافة بسبب حديث الشهيد عن دور الارتكاز الاجتماعي في فهم النص. وهذا ما سوف نشير إليه لاحقًا.
[3] انظر: دروس في علم الأصول، مصدر سابق، الصفحة 206.
[4] انظر: الهاشمي، محمود، بحوث في علم الأصول، (قم: موسسه دائرة المعارف فقه اسلامى بر مذهب اهل بيت عليهم السلام، الطبعة 3، 1417 ق)، الجزء 4، الصفحتان 206 و 207.
[5] وقد يُسمّى عند الأصوليين بـ “الاستصحاب القهقرائي”، حيث يكون زمن اليقين متأخّرًا عن زمن الشك. وقد سمّاه المحقق العراقي بـ “أصالة تشابه الأزمان”؛ فانظر: العراقي، ضياء الدين، نهاية الأفكار، (قم: دفتر انتشارات اسلامى، الطبعة 3، 1417 ق)، الجزء 1، الصفحة 67.
وليس عدول الشهيد الصدر عن التسمية مجرّدَ بحث لفظي، بل لأن الأصالة التي ذكرها الشهيد الصدر لا يُقتصر فيها على الأوضاع اللغوية، بل تشمل الظهورات السياقية التركيبية غير الوضعية أيضًا. انظر: بحوث في علم الأصول، الجزء 4، الصفحة 293.



المقالات المرتبطة

لعنة الجعرافيا

تدور رحى الصراعات حول قطب الجغرافيا، وما لها من أبعاد هامة خاصة اقتصادية في توجيه السياسات وتصنيف المحاور والتوجهات السياسية

كيف نستقبل عاشوراء

مع بداية كل عام هجري، تتجدّد ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه الكرام، الذين سطّروا أروع البطولات…

التبني الحضاري والتجديد الجذري نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر (1)

ليس في وسع عاقل من هذه الأمة، أن ينكر وجود أزمة حقيقية يعاني منها الفكر الإسلامي اليوم. على أساس هذا

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<