“النّص الفلسفي وإشكالية الترجمة”
احتفاءً باليوم العالمي للفلسفة، أحيا معهد المعارف الحكمية ضمن برنامجه الدوري المنتدى الفلسفي هذه المناسبة، بالتعاون مع قسم الترجمة واللغات في جامعة المعارف والجمعية الفلسفية اللبنانية، فنظم ندوة عبر الفضاء الافتراضي بعنوان: “النص الفلسفي وإشكالية الترجمة”[1]، أدارتها الدكتورة بتول الخنسا، وشارك فيها كلّ من: الأستاذ الدكتور عفيف عثمان، والأستاذة زينب أنيس جابر، والدكتور أحمد ماجد.
افتتحت الدكتورة بتول الخنسا الندوة بكلمة أشارت فيها إلى أهمية الفلسفة والترجمة وقالت: لا وجود لفلسفة من دون ترجمة، ولا قيمة لترجمة من دون فلسفة، إنّهما الشيء نفسه يزكّيان بقية الثقافة والعلوم، وتشهد على ذلك حلقات الترجمة منذ عهد الكندي، وشروحات الفارابي. وقد أوكل للترجمة مهمة نقل الحضارات، فضرب المسلمون المثل الأعلى في النشاط الفلسفي والعلمي آنذاك، وترجموا علوم الأولين وطوروها، وابتكروا علومًا جديدة ونشروها، وقدّموا للبشرية أنموذجًا لخير أمة تشهد على ذلك علوم ابن سينا وفيلسوف قرطبة ابن رشد، حتى أعلن الغزالي تكفير الفلاسفة وجرى التحريض عليهم، فبدأت النكبة وحُذف العقل من أرض الإسلام.
وأضافت الدكتورة الخنسا، ما أشبه حال العالم اليوم بأسره بحال العالم العربي من فعل التفلسف إن لم يكن الأسوأ، فمنذ انتشار دورة الذعر في العالم جراء جائحة كورونا صُدمت الشعوب من هشاشة الأنظمة، ودخلت الحضارة الغربية مرحلة الانهيار، وسقطت شعارات الإنسانية، وتهاوت الحداثة وتهافت ما بعدها.
ولفتت الدكتورة الخنسا إلى أنّ الصحافيين العالميين يبحثون اليوم في كلام الفلاسفة مبتعدين عن السياسيين والمحللين وخبراء الأوبئة، ويسألون أين ذهب الفلاسفة الجدد؟ فلم يبق غيرهم لتفسير ما يجري وإدارة الحوار، فأعاد هذا النداء الأهمية لدور الفلسفة اليوم كما لدور الترجمة التي تسهم في تفعيل التواصل في ظل قرية كونية صغيرة تختفي فيها المسافات.
وأكدت الدكتورة الخنسا أن إصرار معهد المعارف الحكمية على إحياء اليوم العالمي للفلسفة، رغم الظروف الصعبة، لإيمانه بأنّ إعمال الجدل الفكري هو السبيل الأوحد لخروج البشرية من هذا النفق المظلم، وتأكيدًا منه بأنّ الفكر والحوار وتلاقي الثقافات هو الحجر الأساس للنجاح بوصفه التوأم الروحي للنصر ولانتصار أمة حيّة. وعلى أمل أن تقدم هذه الندوة صورة مغايرة عمّا يؤخذ عن واقع الفكر العربي، لا هي دونية أو جلد للذات، ولا هي استعلاء وتعامي عن واقع فلسفي مرير، بل هي استعداد دائم من قبل إدارة المعهد للحوار المسؤول والمفتوح، واستمرار لفعل المثاقفة، علّنا نزيل ما لحق بصورتنا الفكرية من بعض الخلل والتشويه. ثم رحبت بالضيوف الكرام كلٌّ باسمه وصفته.
فكانت البداية مع الأستاذ الدكتور عفيف عثمان[2] الذي قدّم ورقة بحثية بعنوان: “الترجمة بين مقاميّ الأمانة والخيانة”، فاستهل كلامه قائلًا: لم تكن الترجمة يومًا نقلًا من لسان إلى لسان آخر، بل كانت تثاقفًا وانخراطًا في العالم، ولنقل (انوجادًا فيه)، وشغل حيّزًا من مساحات المعرفة الممتدة، وباتت أكثر من أي وقت مضى رهانًا وحضورًا في مجرى التاريخ الكوني.
واعتبر الدكتور عثمان أنّ الترجمة تساعد في فهم عالم يتشظّى على نحو متزايد، والمترجم مسافر مشغول برحلة من مصدر آخر في المكان والزمان. ولم تعد مجرد نقل للنصوص من لغة إلى أخرى، بل تُعدّ الآن عملية تفاوض بين النصوص وبين الثقافات تحدث خلالها كل أنواع التعاملات وتتوسطها شخصية المترجم.
وبيّن الدكتور عثمان كيف اختلطت الترجمة في زمن الاستعمار بعلاقات القوة والسيطرة، لافتًا إلى أنّها استخدمت كأداة للسيطرة الاستعمارية، وكوسيلة لحرمان المستعمرين من التعبير عن أنفسهم.
ثم عرض الدكتور عثمان آراء بعض الفلاسفة والباحثين مبتدئًا بالباحث الفرنسي أنطوان بيرمان الذي يوصف بمفكر الترجمة ومنظّرها ومن أبرز نقّادها، من أهم مؤلفاته المعروفة “اختبار الغريب” الذي يعبّر فيه عن موقفه من الترجمة، فهي في عرفه طاقة ومنبع للخلق والإبداع، وهي الانفتاح والإنصات والتفاعل مع الآخر. ويرى بيرمان أنّ الترجمة في غائيتها تستدعي إقامة علاقة تبادلية وتفاعلية بين الذات والآخر.
ولفت الدكتور عثمان إلى أنّه في سعي بيرمان لإيضاح غائية الترجمة يطرح لها ثلاثة أبعاد: أخلاقية وشعرية وفلسفية، وفي الغاية الأخلاقية يورد مسألتي الأمانة والدقة، كما ويتمثل الفعل الأخلاقي عنده في الاعتراف بالآخر كآخر وفي تقبّله.
وأشار الدكتور عثمان إلى أن الفيلسوفة الفرنسية بارباره كاسان تعتبر أنّ احترام اللغات الأخرى يظهر في الترجمة التي تعني الذهاب إلى ديار بعيدة، وآنئذٍ نرى أنفسنا من هناك، أي ندرك التنوع والتعدد، وأنّ الشعوب أشبه بقوس قزح، ودعت الشباب إلى تعلم الترجمة أي ما يعادل القراءة والفهم والمقارنة والدخول في صلات مع العالم.
وتابع الدكتور عثمان، أمّا بول ريكور فيقول: إنّ ثمّة تحدٍّ في الترجمة، وثمّة استحالة في خدمة سيدين، ويدعو إلى امتلاك الشجاعة لتبني الإشكالية المعروفة جدًّا حول الإخلاص Fidelité، والخيانة trahison أي الأمل والارتياب.
وعن الدكتور جورج زيناتي قال الدكتور عثمان: الترجمة عنده ليست خيانة رأي، بل هي ولوج أو اقتحام منزل الآخر وإحضاره إلى منزلنا. لافتًا إلى أن زيناتي يشدّد على فكرة الغرابة، فهذا العالم الغريب والرائع هو الذي يجب أن تبقى الترجمة أمينة له، ولا يطلب زيناتي الوقوف عند الحروف والمعاني والتقيد الصارم بها، بل هو يذهب مع الفيلسوف الألماني فريجه إلى ضرورة الولوج إلى عالم المرجع الذي يشكّل روح اللغة، وفي الترجمة -بحسبه- يجري تخطي الارتياب المتبادل وصولًا إلى مرحلة التكاشف التي تعني أنّ الناس يستطيعون من وراء المسافات والاختلافات أن يتلاقوا، وأن يعرفوا بعضهم بعضًا. وتغدو الترجمة عند زيناتي مشروعًا حضاريًّا يستلهم التجربة الأولى التي باشرها المأمون في بيت الحكمة، والتي يشرح أهدافها زيناتي في الفلسفة في مسارها.
وأوضح الدكتور عثمان أنه بحسب تجربة الدكتور زيناتي في ترجمة الفلسفة الغربية المعاصرة فإنّ كل نص قابل للترجمة، وتكتنز اللغة العربية إرثًا فلسفيًّا هائلًا مع مراعاة تغيّر معاني بعض المصطلحات وضرورة استنباط كلمات جديدة لتبدل بعض الدلالات، وينصح أهل الترجمة بوجوب التزام الوضوح في تعريب الفلسفة كي لا يأتي النص مبهمًا.
وختم الدكتور عفيف عثمان قائلًا: الدكتور زيناتي مثالنا في أنّ الترجمة أمانة وليست خيانة، وهو متفائل مؤمن بالتعدد الهوياتي، والحرية والعدالة، والبشرية كلًّا واحدًا بألسنة عدة رغم تفرقها شعوبًا وقبائل. كما وتؤدي الترجمة بوساطة المترجم دور “الجسر” أو الوسيط حاملًا الكلم الطيب حتى نفهم على بعضنا البعض في عالم ضاقت مسافاته، ويرى الأمل في الفلسفة ويعتبرها بثقة أنّها النبراس العقلي القادر في أحلك الظروف أن يشير إلى الجهة التي تقود إلى الممر المؤدي إلى النهاية السعيدة، وأنّه بدونها يُستهَلّ القمع ويُفتَح باب الاستبداد.
بعد ذلك قدّمت الأستاذة زينب أنيس جابر[3] ورقة بحثية بعنوان: “عن العلاقة بين الترجمة والفلسفة” واستهلت كلامها قائلة: تستحضرنا مواقف عدة تجمع بين الترجمة والفلسفة في السراء والضراء، فقد خرجت الفلسفة في الغرب كما في العالم الإسلامي من رحم اليونان على يدي داية هي الترجمة. مشيرة إلى أن الفلاسفة في الماضي لم يهتموا بالترجمة، وأنكروا فضلها عليهم ربّما لأنّهم أرادوا أن يتماهوا مع أمهم الحضارة الإغريقية التي كانت تنظر إلى اللغات غير اليونانية نظرة دونية.
وقالت الأستاذة جابر: إنّ أوروبا كما يشير “هنري ميشونيك” هي القارة الوحيدة التي استندت في ثقافتها استنادًا شبه كامل إلى الترجمات من اليونانية للفلسفة ومن العبرية للدين، ولكنّها ظلّت لفترة طويلة تخفي أصولها الترجمية عبر التعامل مع الترجمات باعتبارها نصوصًا أصلية. معتبرة أن “أنطوان بيرمان” يزعم أنّ الأمر سيّان بالنسبة إلى الثقافة الإسلامية حيث كانت النصوص الأصلية تتلف بعد إنجاز الترجمة. وهذا يدل حسب “أنتوني بيم” أنّ الترجمة كانت مدعاة للخجل لا للتنظير، ومن هنا الصمت التقليدي للفلاسفة حول الترجمة.
ولفتت الأستاذة جابر إلى أنّ سر هذا الصمت فيه أسباب، فتاريخ الغرب يشهد على خطورة إنتاج الأفكار الجديدة ونشرها، والفلاسفة لم يكونوا دومًا إلى جانب السلطة، فكانت النصوص الجديدة تُعرض على أنّها ترجمات زائفة لحماية المؤلف.
وتابعت الأستاذة جابر قائلة: كان نقل الأفكار في العصور اللاتينية قائمًا على تراتبية لاهوتية للّغات، تتربع على رأسها لغات الوحي الإلهي أي العبرية واليونانية، تليها اللاتينية، وفي القاع تقبع اللغات العامية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية. مشيرة أن هذه التراتبية أسفرت عن وصم الترجمة بالدونية؛ لأنّ اتجاه الترجمة كان من اللغات العريقة إلى اللغات الدُّنيا، فلم يجد الفلاسفة الغربيون فيها مادة تستحق النقاش. موضحةً أن هذا الواقع لا ينطبق على عمل التراجمة في الثقافة الإسلامية، حيث كانت اللغة الهدف هي لغة الوحي الإلهي أي اللغة العربية. ومع خروج اللغات العامية من القعر وسطوع فجر القوميات الأوروبية تمّ تسليط الضوء على الترجمة كأداة لصقل اللغات الهدف النامية، فتغيرت الأحوال، وصار نشاط الترجمة يستحق التفكير.
وأضافت الأستاذة جابر، أنّه مع بدء اهتمام الفلاسفة بالترجمة صارت إشكالياتها محطّ أنظارهم، بدءًا من الثنائيات التقليدية التي يمكن تلخيصها بطريقين لدى القدماء أو لدى المعاصرين تظهر وجود طرق متعددة للترجمة، فتبرز إشكالية تتعلق بمكانة النص المصدر، وإشكالية أخرى تتعلق بتعدد المعاني، فلو كان لدى التراجمة خيارًا واحدًا متاحًا لانتهى الكلام، وانتفت الحاجة إلى تدخّل الفلسفة، بيد أنّ تعدد الخيارات يبرز الحاجة إلى الاستعانة بالخطاب الفلسفي لتوليد أفكار من دون توفير حلول بالضرورة. معتبرة أن الخطاب الفلسفي يستخدم كمصدر لتحفيز القياس أو الدقة في اختيار المصطلح لكنّه لا يوفّر حلولًا جاهزة لمشكلات الترجمة كافة.
وأشارت الأستاذة جابر إلى أنّ مارتن هايديغر قد أولى أهمية للترجمة لاهتمامه بتعدد التفاسير، وكذا فعل فالتر بنيامين انطلاقًا من المقاربة الهرمنيوطيقية التي يلخص شاو تعاليمها الأساسية بعدم قدرة أي ترجمة على تمثيل نصّها المصدر تمثيلًا تامًا نظرًا لغياب فهم موضوعي حقيقي للنص. وبالتالي فإنّ الترجمات كافة تغيّر معنى النص المصدر حكمًا. لافتة إلى أن العلاقة بين الترجمة والفلسفة لا تقتصر على ترجمة لنص فلسفي هنا، أو تعليق على ترجمة هناك، بل تتجاوز ذلك لتطال الجانب الأخلاقي الذي غالبًا ما ينعكس عبر مفهوم “الأمانة” التي ما برحت “جوهر الإشكاليات” الترجمية، كما تصفها مي حبيقة الحداد، والخاضعة للتأثير اللاهوتي، كما يؤكد جان رينيه لادميرال.
كما أشارت الأستاذة جابر إلى اهتمام نظريات الترجمة في التسعينيات بالقضايا الأخلاقية كردة فعل على المفاهيم، وكنتيجة للنهل المستمر من الفلسفة التقليدية، مثل الأمانة والتكافؤ اللذين لم تجد فيهما مقاربات ما بعد الحداثة سوى أوهام مضللة غير قادرة على تقديم إرشادات مفيدة.
وقالت الأستاذة جابر: إنّ نشأة الحركة الترجمية في العالم الإسلامي مختلفة عن تجربة الغرب، ولكنّ الأمانة كانت في صلب إشكاليات الترجمة. والملفت في الترجمة الإسلامية أنّها لم تكن تربط الأمانة بالقدسية. والنصوص التي ترجمها العرب كانت علوم الأقدمين، ولم يكن لديهم عقدة دونية تجاه اللغات المصدر لأنّهم كانوا يترجمون نحو لغة هدف وهي العربية التي كانت بنظرهم اللغة الأشرف لارتباطها بالقرآن الكريم.
ولفتت الأستاذة جابر إلى أنّه من الضروري التمييز بين تجربة الغرب وتجربة العالم الإسلامي حول العلاقة بين الترجمة والفلسفة، وتسليط الضوء على بعض مواطن الاختلاف التي من شأنها تغيير بعض جوانب الإشكاليات المطروحة والتي قد تستدعي حلولًا مختلفة. موضحة أن تعريف الترجمة يختلف بين العربية والأجنبية، فالعربية تنظر إلى الترجمة باعتبارها ضربًا من ضروب التفسير، بينما الجذر اللاتيني لكلمة Translate لا يتضمن هذا المعنى، بل يحمل معاني النقل والعبور، ممّا يعني أنّ الترجمة في أصلها العربي لا ترتبط ابتداءً بالحرفية، بل بنقل المعنى.
ورأت الأستاذة جابر أنّنا ما زلنا ننادي بالأمانة التقليدية في مدارس الترجمة في بلادنا مع أنّ الغرب نفسه قدّم نماذج نقدية لها، وسبب ذلك يعود إلى أنّ هذه المدارس حالها حال الجامعات عمومًا التي تأسست ونصب أعينها النموذج الغربي، وقلدته من دون النظر إلى خصوصيات مجتمعاتها وإرثها الحضاري، سعيًا منها لتحقيق التقدم الذي حققه الغرب.
وأكّدت الأستاذة جابر قائلة: علينا كباحثين أن نتجرأ، كما يذكر السيد علي الخامنئي، على “إيراد إشكالات” على المفاهيم التي تصلنا من الغرب، وهذا لا يعني ألا نستفيد من تجاربه، بل أن ننظر في ما توصّل إليه بعين النقد، ونلتفت في الوقت ذاته إلى خصوصياتنا. مشيرة إلى أن مفهوم الأمانة بمقارباته المطروحة لا يُعالج إشكاليات تؤرق الترجمان المتدين عمومًا، والمسلم خصوصًا؛ لأنّ المقاربات المختلفة تسعى إلى نيل رضا طرف دون آخر ضمن إطار الأخلاق المهنية، لكنّها لا تلقي بالًا للحالة التي تتعارض فيها الأخلاق المهنية مع الأخلاق الشخصية للترجمان، معتبرة أن تلك المقاربات تصب في خانة ما يمكن أن يسمّى “أمانة أفقية” قطعت علاقتها بالسماء ولا تلبي حاجات المجتمع المتدين. لذلك تبرز الحاجة إلى طرح جديد يتناول مفهوم “الأمانة” من منظور المجتمع غير المنسلخ عن الدين، بل والباحث في الدين عن حلول مشكلاته باعتباره مرجعية أخلاقية.
وختمت الأستاذة زينب جابر كلمتها بالقول: وإنّي لأجد خيرًا من هذا المنبر لأقترح ما أسميه “الأمانة العمودية” كبديل للأمانة الأفقية يرمي إلى إعانة الترجمان على التوفيق بين أخلاقه الشخصية، وأخلاقه المهنية عبر تقديم الولاء لله وللدين على الولاءات الأخرى كافة. ولا شك أنّ هذا الطرح بحاجة إلى بحث موسّع للخوض في تفاصيله وبناء أركانه، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، على أمل أن تكون هذه المداخلة هي خطوة أولى نحو إعادة النظر في أهم الإشكاليات الأخلاقية الترجمية وهي “الأمانة”، وعلى أمل أن تكون الفلسفة عونًا لنا على استكشاف آفاق جديدة تصب في خدمة المجتمع والإنسان.
وختام الكلمات كان مع الدكتور أحمد ماجد[4] حيث قدّم ورقة بحثية بعنوان: “الترجمة الفلسفية كفعل تفلسف”، تطرّق فيها إلى تجربة الفارابي في ترجمة المصطلح الفلسفي واستراتيجية الترجمة لديه.
ثم تناول الدكتور ماجد الحديث حول الترجمة الفلسفية، وأنّ الكثير من الأسئلة عن ماهيتها تدخل في صلب الإنتاج الفلسفي لأنّها تتخطى النص الأصلي كما قُدِّم في مجتمعه الخاص، وتقوم بإعادة إنتاجه وتبيئته مع المتلقي الموجود في بيئة مغايرة. مشيرًا إلى أن الحديث عن المغايرة يطال الاختلافات في حركيته المتعلقة بمجمل العناصر التي تكوّنه، وهي على هذا الأساس عملية تستوجب الخوض في بنى النص وتركيبه للوصول إلى الغاية التي كُتب لأجلها.
وأشار الدكتور ماجد إلى أن اللغة هي نظام رمزيّ اتفقت عليه مجموعة بشرية محدّدة، وهي الألفاظ والجمل، التي هي تراكيب تتألف من رمزين أو أكثر يربط بينهما أداة لغوية، وتطورت في إطار الاتصال الإنساني حتى وصلت إلينا على شكل تصويتات أُنتجت من خلال معنى مستقر ثابت في النفس الإنسانية تابع للطبيعة البشرية.
واعتبر الدكتور ماجد أنّ اللغة من خلال الفارابي وليدة الطبيعة البشرية واحتياجاتها، وتعكس تجربة الإنسان في العالم والبيئة والمحيط، فالإنسان بما يمتلك من قدرة تصورية هو الأصل، واللغة هي أداة لصوغ التصورات التي تحضر عند النفس سواء أكانت أمورًا ملموسة أو انفعالات أو حتى تصورات. لافتًا إلى أن اللغة تنتج ألفاظها بطريقة تدريجية، وكل صناعة تظهر بعد أخرى سبقتها تؤشر إلى تطور حصل في الاجتماع الإنساني، وصولًا إلى الفلسفة التي تمثّل ذروة التطور في مجال الحياة الإنسانية.
وعن العلاقة بين اللفظ والمعنى، اعتبر الدكتور ماجد أنّ اللغة تعبّر عن نفسها بالألفاظ مما يستدعي دراسة العلاقة بين اللفظ والمعنى، وحين نشأت اللغة رُبِط بينهما ممّا يعني أنّ هنالك علاقة عضوية تجمعهما سويًّا.
وقال الدكتور ماجد: إنّ رؤية الفارابي المعرفية أعطت الأولوية للمعنى وجعلته ثابتًا، وهو ناشئ عن الطبيعة البشرية والعناصر الفطرية الموجودة فيها ككليات ومعقولات، بينما الألفاظ تنتمي إلى عالم الجزئيات، ومجالها الرمز للتعبير عما يعيشه الإنسان. معتبرًا أنه لا بدّ من وجود أداة رمزية يستخدمها لتبادل المعلومات مع الآخرين، أو للتعبير عمّا في ضميره من مسائل. موضحًا أن النتيجة هي إيجاد ألفاظ مشتركة تشبه المعاني المشتركة يحصل معها نوعان آخران من الألفاظ المتباينة والمترادفة تستعمل جميعها من قبل اللغوي الذي بنى بها العبارات والجمل، ويستعملها المنطقي ليبني بها الجمل.
ولفت الدكتور ماجد إلى أنّ ما سلف بيانه يوصلنا إلى أنّ المعنى هو الأصل والألفاظ تابعة له، وقد تُنتج ألفاظًا جديدة مع الزمن، ولكن لا يجب أن تتناقض هذه الإنتاجية مع ما هو سائد، لذلك قبل نحت أي لفظ جديد يجدر بنا العودة إلى المرجعية التي انطلقت منها اللفظة للتأكد من قابلية استيعابها ودمجها بالنظام العام. موضحًا أنّ الاختلاف في اللغات نابع من التجربة الإنسانية، أما المعنى فمن الطبيعة الإنسانية المشتركة.
وعن استراتيجية الترجمة عند الفارابي قال الدكتور ماجد: نرى أنّ الفارابي يدعو إلى الترجمة الاستيعابية التي تحاول أن تدمج النص المترجم من لغة إلى لغة أخرى، بشرط أن يبدأ المترجم بدراسة لغة الكتاب الأصلي، ومعرفة كيفية تركُّب الألفاظ فيها، وكيف عبّر أصحاب النص الأصلي عن لغتهم، وكيف ينتجون التراكيب الخاصة بهذه اللغة، وصولًا إلى المرحلة التي يستطيع أن يُدرك الآلية التركيبية للنص، والتي بُني عليها الاصطلاح داخل النص الأساسي. وأن يعود أثناء العمل على النص الأصلي إلى ما هو موجود في اللغة لديه كما ابتُدئ بها عند البادئ الأول أي الجمهور وطريقة إسقاطهم المعاني على الألفاظ لرؤية إمكانيات اللفظ وما يحتويه من أبعاد دلالية، ثم عندما يبدأ بصياغة الترجمة عليه العودة إلى اللغة المنقول إليها ليرى الألفاظ المناسبة لها، والتي تلتقي بتركيبها المعنوي مع اللغة المترجم منها. فالغاية من فعل الترجمة ليس اللفظ إنّما المعنى.
وتابع الدكتور ماجد قائلًا: يعتبر الفارابي أنّه من الخطأ تصور أنّ عملية الترجمة هي عملية نقل للألفاظ، لأنّه يؤدي إلى إيجاد خلل داخل المنظومة اللغوية المنقول إليها النص، ويجب التأكد من إمكانية استيعابه داخل المجال الحضاري المنقول إليه. وإن كان لا يوجد لفظٌ مماثلٌ في البدئيّ من الكلام عند الجمهور عندها يصح نقل المصطلح من اللغة الأصلية إلى اللغة التي يُترجم إليها بشرط إخضاعه إلى القواعد المعمول بها عند الجمهور، حتى يستطيع أن يُدمج في سياق الحضارة المنقول إليها.
وفي معرض حديثه عن بعض المصطلحات الذي طبق عليها الفارابي نظرته وفلسفته تطرق الدكتور ماجد إلى كلمة (الفلسفة) حيث يقول الفارابي عن معنى الفلسفة أنّها كلمة ليست عربية، لذلك ذهب باتجاه العقل اليوناني ليرى كيف أنتج هذا المصطلح في السياق الحضاري. والفلسفة، حسب قول الفارابي، مؤلفة من كلمتين (فيلو) أي محب، و(سوفيا) أي الحكمة، فالفلسفة هي محبة الحكمة.
واعتبر الدكتور ماجد أن هذا الأمر على أهميته يُظهر بأنّ الفارابي قد قَبِل فعل النقل من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية. أما كلمة الحكيم والحكمة والتي وردتا في كتاب “أهل المدينة الفاضلة”، فيشير الدكتور ماجد إلى ورودهما 11 مرة، في حين أنّ كلمة (فيلسوف) لم ترد إلا مرة واحدة، وكانت مقرونة بكلمة فيلسوفًا حكيمًا. لافتًا إلى أن الفارابي أراد أن يقول لنا إنّ الفلسفة ليست هي الحكمة، بل قد تكون نقطة البداية التي ينطلق منها الإنسان للوصول إلى الحكمة، أما حقيقة الحكمة فهي في كيفية إيصال الإنسان إلى كمالاته وجعله يتكلم انطلاقًا من النفس الناطقة الموجودة لديه.
وختم الدكتور أحمد ماجد كلامه قائلًا: لا يجب أن تكون عملية الترجمة مبنية على الألفاظ، بل على المعنى، لذلك على الترجمان أن يبحث عن المعنى المقترن بدراسة البنى التركيبية والنحوية للنص وصولًا إلى تحديد المقصود.
وفي ختام الندوة دار نقاش بين الباحثين والحضور الكريم تمحور حول أهم الإشكاليات التي طرحت في هذا اللقاء.
[1] الخميس 19/ 11/ 2020.
[2] أستاذ الفلسفة ورئيس الفرقة البحثية في قسم الفلسفة في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية، وعضو في الهيئة الإدارية للجمعية الفلسفية اللبنانية كما في الاتحاد الفلسفي العربي.
[3] أستاذة الترجمة ورئيسة قسم الترجمة في جامعة المعارف.
[4] أستاذ الفلسفة ورئيس قسم الدراسات في معهد المعارف الحكمية.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الفلسفةاليوم العالمي للترجمةاليوم العالمي للفلسفةالترجمةالنص الفلسفي المقالات المرتبطة
ما هي إنجازات التراث الفلسفي الإسلامي؟ وهل يمكن أن نستمد منه حلولًا للإشكاليات المعاصرة؟
الحلقة الثالثة من سلسلة “الفلسفة وموقعها في فكرنا المعاصر” التي يقدّمها سماحة الشيخ شفيق جرادي، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة.
الجائحة وتأثيراتها على البنى الاجتماعية
أي عالم اجتماعي نحن مقبلون عليه بعد جائحة كورونا؟ وهل ثمّة علاقات اجتماعية جديدة أفرزتها هذه الجائحة؟