ماذا.. ما بعد الغرب؟ معضلة الإستئناف الحضاري

ماذا.. ما بعد الغرب؟ معضلة الإستئناف الحضاري
تقارب هذه المقالة واحدة من أبرز المعضلات المعرفية التي تشكل محل اهتمام حلقات التفكير في الحضارة الغربية المعاصرة. ونعني بها الأطروحة التي تتحدث عن نهاية الغرب وتطرح في المقابل سؤالاً تأسيسياً حول طبيعة مشهد ما بعد الغرب في حقول الفكر والسياسة والاجتماع فضلاً عن علاقته بنفسه ومنهج تعاطيه مع الآخر. لقد قسمنا هذه المقالة إلى حلقتين:
الأولى تتصل بخلفية نشوء مفهوم ما بعد الغرب الدواعي المفضية الى ولادته. والثانية تتعلق بالحقول المعرفية التي تتناولها والقيم التي ستؤول إليها.
في ما يلي الحلقة الثانية من المقالة:
*     *     *
تعدَّدت آفاق الدراسات الغربية التي تناولت حالة ما بعد الغرب، ولنا هنا أن نستخلص أهم ما توصلت إليه هذه الدراسات من خلال متاخمة أربعة حقول معرفية نبسطها على النحو التالي:
– الحقل السياسي:
هو ما تعكسه بيئة من المفكِّرين الغربيِّين تسعى إلى رسم نهاية حتميَّة لمستقبل السلطة السياسيَّة والاجتماعيَّة للغرب. وينقسم العاملون في هذا المدخل إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: يعمل على تحليل أفول الهيمنة الغربيّة بعيداً عن مسقط رأسها الشرقي أو الغربي. وعلى الرغم من صدقها في بيان آفات ومشكلات الغرب، إلَّا أن غايتها من وراء ذلك هي الدفاع عنه وضمان قوَّته وهيمنته.
الاتجاه الثاني: يعاين الغرب ويختبره من الداخل، ثم يتوصل إلى استنتاج مؤدَّاه الانهيار التام للمنظومة الغربية، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي أمانوئيل واليرشتاين، والمفكر الأميركي بول كينيدي في كتابه المعروف «صعود وسقوط القوى العظمى».
الاتجاه الثالث: يتشكَّل من المحلِّلين الذين ينتمون إلى مناشئ شرقيّة، وقدموا أدلّة تشير إلى انهيار الهيمنة السياسيّة للغرب المعاصر، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر عالم الجيوبوليتيك الروسي ألكساندر دوغين، إلى جانب عدد من الباحثين والمفكرين الأفارقة والآسيويين وتحديداً أولئك الذين أنجزوا دراساتهم حول فكر «ما بعد الاستعمار».
ـ الحقل الاقتصادي:
معظم الدراسات المعمَّقة التي تدور مدار مستقبل العالم الغربي، ترجِّح نهاية أحادية الاقتصاد الأميركي، وتنظِّر لتعدُّدية قطبية تتشكَّل من الصين وروسيا والهند إلى عدد من البلدان الآسيوية الأخرى. في حين نجد بلداناً مثل: بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، أو بكلمة واحدة أوروبا، تعاني من مستقبل غامض ومبهم.
ـ الحقل اللاَّهوتي والأيديولوجي:
ثمة تيارات وازنة تنظر إلى عالم ما بعد الغرب بوصفه عالماً يميل نحو ترجيح كفة الإلحاد. وهذا الادّعاء، على الرغم من افتقاره إلى الأدلّة المنطقية والعملية الكافية، يُعتبر رأياً جادَّاً باعتباره منافساً خطيراً للمسيحيَّة.
تلقاء ذلك، هنالك مفكِّرون وعلماء اجتماع قاربوا البعد الأيديولوجي واللَّاهوتي لحقبة ما بعد الغرب بصورة معاكسة. فقد أعادوا طرح سؤال الدين والإيمان الديني باعتباره سؤالاً له حضورُه البيِّن في المجتمع المعرفي الغربي. نذكر من بين هؤلاء: الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، والفرنسي بول ريكور، والأميركي من أصل إسباني خوسيه كازانوفا وسواهم. ومن المعاصرين من يمضي أبعد من هذا ليرى أن أمواج الإسلام في البلدان الغربيّة باتت من الكثرة بحيث بدأ الغربي يستشعر الخطر، وينتهج شتّى الأساليب لمحاربتها. وهذه المحاربة تظهر أشدَّ ضراوة من تلك التي ينتهجها في مواجهة الإلحاد وسائر التيارات الأخرى. ينتمي إلى هذه الشريحة عدد من المفكِّرين الغربيين أبرزهم الأميركي صاموئيل هنتنغتون الذي يرى أن مستقبل الغرب يميل إلى مصلحة الإسلام؛ وتوصَّل في تحليلاته الإحصائيَّة الخاصَّة إلى التنبُّؤ بأن عام 2050م سيشهد غلبة الإسلام، وأن المسيحيّة في بلدان مثل إنكلترا سوف تتحوّل إلى أقليَّة دينيَّة.
ـ الحقل الفلسفي والمعرفي:
لا تتوقف رحلة الكلام عند حدود ما سبق المرور عليه. فما هو أهم يتعلَّق بالعوامل والمؤثِّرات الفلسفية والمعرفية في التأسيس لـ «الما بعديات» جميعاً وفي مقدَّمها مقولة ما بعد الغرب..
من البيِّن أن التأسيسات الأولى لحقبة ما بعد الحداثة لم تكن سوى تأسيس مستأنف لـ «ما بعد الغرب» في أفقه الفلسفي. وما كنا لنخلع على هذه الحقبة صفة الما بعدية إلَّا لأنها انعطفت بالحضارة الغربية نحو مآلات انقلابية عميقة في أنساقها القيمية طاولت ثوابتها الكبرى. ولو أجرينا مراجعة تحليلية مجملة لتلك الحقبة لوجدنا أن الحضارة الحديثة شهدت انتقالات جذرية لم تقتصر على التغيير في السياسة والثقافة وعلاقات الإنتاج، وإنما امتدت إلى منهج التفكير وفلسفة عمل العقل. ولنا في ذلك شاهد مبين تمثَّل بثورة العلم على الفلسفة.
لمَّا اختصر إيمانويل كانط مشروعه الفلسفي رائياً أن مهمته العظمى تكمن في تحويل الفلسفة علماً فقد كان يمارس فعلاً مؤسِّساً لـ «ما بعد الفلسفة» بنسختها الكلاسيكية. ربما غَفِل كانط عن أن سحر العلم سيحجب قسطاً وفيراً من جاذبية الفلسفة، إلَّا أن شغفه من بعد ذلك أوصل التفكير الفلسفي نحو مآلٍ لا قبَل له به. فبدل أن تُحفظ الفلسفةُ بوصفها بحثاً دؤوباً عن حقائق الأشياء من خلال السؤال، جرى تحويلها إلى علم تسري عليه المناهج الحاكمة على سائر العلوم الإنسانية، كعلم النفس والاجتماع والتاريخ والتربية والفن وما سوى ذلك. مع كانط، ومن قبله ديكارت، لم تعد ماهيَّة الفلسفة وهويَّتها على سابق عهدها.
يبدو جليَّاً أن الحداثة الغربية بعد المنعطف الكانطي ستوظِّف أطروحة الإنسان كمركز للكون لكنها ستمضي نحو إخضاعه لأوثان التقنيّة. وهنا ستبدأ إرهاصات «ما بعدية» مستحدَثة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الذي سعى بدأبٍ كبير إلى استخلاص الميتافيزيقا من معضلتها الكبرى من خلال إعادتها إلى مهمَّتها الأصلية بما هي البحث عما يحتجب من أسرار الوجود. التقنية التي أدَّت إلى «نسيان الكينونة» لم تعد حسب هايدغر تشكِّل تهديداً للمصير الإنساني، وإنّما أيضاً، تبديداً لأسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. ها هنا سيظهر غرب فلسفي آخر غير الذي عهدناه في التأسيسات الكبرى لعصر النهضة مع ما سمِّي «أزمة الأنسية»، أي مشكلة حضور الكائن الإنساني في عصور الحداثة المتداعية. لقد كشفت تقنية ما بعد الغرب الكلاسيكي عن مسار عام يسير نحو نزع الإنسانيّة (Disumanzzazione)، وانحطاط قِيَمِها وتهافُت معاييرها. لو نظرنا إلى حقيقة هذا التحول من زاوية فلسفة التاريخ، لألفيناه تأسيساً لغربٍ من طراز غير مألوف. وهذا التأسيس لم يكن سوى افتتاح العقل الغربي لبَدءٍ جديد يطوي سجلاً كاملاً من العمر الميتافيزيقي للحضارة الغربية المعاصرة.
هذا المستوى من النقاش، وإن كان لا يزال منحصراً في بيئات محدَّدة، يكشف عن وعود بانعطافات كبرى في بنية العقل الغربي حيال العلاقة بين الإيمان الديني والتورات العلمية المعاصرة، ولعلَّ ما يضاعف من تحقُّق هذه الوعود ما نشهده من مراجعات فكرية طاولت مساحة وازنة من ثوابت النظام المعرفيِّ الذي قامت عليه الحداثة. ويشكِّل النقاش المستحدَث حول دخول العالم الغربي في ما سُمِّي بـ «حقبة ما بعد العلمانيّة»، وعودة أسئلة الدين لتحتلّ حيِّزاً وازناً من حلقات التفكير، أحد أبرز العلامات الدالَّة على عمق الفراغ المعرفي الثاوي في قلب الحداثة المعاصرة.
 
* مفكر وباحث في الفلسفة السياسية – لبنان.



المقالات المرتبطة

المرأة قوة التغيير القادمة..

السيدة الزهراء (ع).. لم تنتظر حركة الرجال لإنصافها، وإنما هي التي دشنت مسار الوقوف بوجه الزيف والانحراف.

الشيعةُ الاثنا عشرية

تسمّى ثاني أكبر طائفة من المسلمين بـ”الشيعةَ الاثني عشريةَ”. ويستمدّ هؤلاء قواعدَهم الدينيةَ وإلهامهم المعنوي، منْ بعدِ النّبي، منَ الأئمةِ الاثني عشرَ من ذريته.

التاريخ المنسي في أعماق الإنسان

إذا استطاعَ الإنسانُ اكتشافَ إنسانيته في الوجود والمجتمع واللغة، فَسَوْفَ يُسيطر على المشاعر الداخلية التي تتأجَّج في أعماقه، ويتحكَّم بالعناصر الخارجية التي تُحيط به وتضغط عليه.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<