حدود المقدس
كل أمة من أمم الأرض لها مقدساتها، التي تبجلها وتعلي من شأنها وتحول عبر وسائل متعددة لمنع أي انتهاك لها.. وهذه المقولة لا تختص بأمة دون أخرى أو بمجتمع دون آخر، وإنما هي مقولة تنطبق في خطها وسياقها العام مع كل الأمم والمجتمعات.. ولا يوجد على وجه البسيطة مجتمعًا أو أمة بلا مقدس.. فكل الأمم لها مقدسات، وكل المجتمعات ترتب لنفسها أساليب وآليات وأعراف لتبجيل هذه المقدسات، ومنع انتهاكها أو التعدي المعنوي أو المادي عليها.
ولكن على الصعيد الواقعي، ولاعتبارات ذاتية وموضوعية، تاريخية ومعاصرة، كل الأمم والمجتمعات ولدواعي آنية أو دائمة، توسع من دائرة المقدس، وتعتبر كل قناعاتها هي من المقدسات التي ينبغي أن لا تنقد أو يوجه إليها السؤال أو علامات الاستفهام. ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن الكثير من المشاكل والأزمات وعناصر التوتر في العلاقة بين الأمم والثقافات والحضارات، هو من جراء توسيع دائرة المقدس إما لدواعي دفاعية، أو لاعتبارات فكرية – عقدية موغلة في الانغلاق والتعصب.. مما يدفع الأمور باتجاه رفض أي سؤال، والوقوف بحزم وانفعال ضد أي نقد يمارس تجاه ثقافة هذا المجتمع أو قناعات هذه الأمة.
ولكون هذا الموضوع حسّاسًا على أكثر من صعيد، نود أن نبلور وجهة نظرنا حوله من خلال النقاط التالية:
- نحن وانطلاقًا من عقيدتنا الإسلامية وأخلاقنا الإيمانية، مع احترام مقدسات كل البشر. وهذا الاحترام بطبيعة الحال، لا يعني القبول بهذه المقدسات أو تصويبها دينيًّا أو ثقافيًّا. وإنما من باب أنك لا تستطيع كأمة أن تنسج علاقات إيجابية وصحية مع بقية الأمم من دون احترام مقدساتها.
لذلك فإننا من دعاة سن القوانين الدولية، الداعمة إلى احترام مقدسات كل الأمم والمجتمعات، ورفض الإساءة بأي شكل من الأشكال إلى مقدسات أمم الأرض كافة. فنحن مع إقرار كل المبادئ والقوانين في العلاقات الدولية، التي تلزم الجميع ومن مواقعهم العقدية والحضارية والجغرافية المتعددة إلى صيانة كل المقدسات، ورفض كل أشكال هتكها أو التعدي عليها.
- من الضروري لكل أمم ومجتمعات الأرض، أن تحدد بدقة مفهوم المقدس وحدوده. لأننا في الوقت الذي ندعو إلى احترام مقدسات كل الأمم والمجتمعات، في ذات الوقت نرفض عمليات التوسع والانتشار لمفهوم المقدس.
بمعنى ووفق هذه الرؤية أن مقدّسات كل الأمم، ليست كثيرة، لأنها هي العناصر الوحيدة المتعالية على الفهم والنقد في آن.. بمعنى أن عناصر المقدس في بعض جوانبها، يسلم بها الإنسان إيمانًا وعقيدة، حتى لو لم يتمكن من فهمها وإدراك كنهها الأولي. لهذا فإننا نرى أن كل توسعة لمفهوم المقدس، هو يضر على الصعيد الجوهري بالمقدس الحقيقي نفسه. فكل محاولات التوسعة لمفهوم المقدس التي تقوم بها كل الأمم والمجتمعات لاعتبارات دفاعية، بمعنى خلق خطوط دفاعية عديدة، تحمي المقدس الحقيقي، وتحول دون نقده وانتهاكه.. أقول إن كل هذه العمليات، أضرّت بالمقدس الحقيقي نفسه، وجرّأت الناس أو نخبهم في أقل التقادير على مساءلة المقدس وإعادة خلق الفواصل والمعابر الحقيقية بين المقدس وغير المقدس في الدائرة العقدية أو الثقافية.
وهذا بطبيعة الحال، ينبغي أن لا يحول دون تشجيع عمليات البحث العلمي، التي تستهدف الاكتشاف والوصول إلى الحقيقة أو الحقائق.. فليس كل نقد ديني أو حضاري أو ثقافي، هو افتئات على المقدسات أو انتهاك لها. لذلك من الضروري في الوقت الذي ندعو إلى تحديد وبدقة عقدية وعلمية معنى المقدس وحدوده بالنسبة إلى جميع القصائد والثقافات، في ذات الوقت ينبغي أن لا نحجب أنفسنا أو نغلق عقولنا تجاه محاولات البحث والنقد العلمي. فحماية المقدسات لا تشرّع لأحد ممارسة الاتهام والظن والظلم للآخرين.
وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[1].
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً﴾[2].
ونحن هنا وفي ظل حروب الهوية والثقافة، نود أن تعتني كل المجتمعات ببيان مقدساتها بدون زيادة، حتى يتمكن الجميع من بلورة وصياغة رؤية أو ميثاق متكامل على صعد الأوطان والأمم والحضارات، تصون مقدسات الجميع، وتحرم كل عمليات الإساءة والانتهاك.. ووجود تباينات عقدية بين المجتمعات والأمم، لا يشرع لأحد انتهاك المقدسات أو الافتئات عليها. وقد قال الباري عز وجل: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[3].
وقد جاء في تفسير هذه الآية، أن الله سبحانه وتعالى أراد أن ينهى المسلمين عن المبادرة إلى سب الذين يدعون من دون الله بغير علم، أو سب آلهتهم في عملية المواجهة، لأن ذلك لن يحقق أية نتيجة إيجابية لمصلحة الإيمان، لأنه لن يستطيع إقناع شخص واحد بهذا الأسلوب، بل ربما أدى إلى تعقيد الأمور بطريقة أكبر، وإقامة الحواجز النفسية ضد الإيمان والمؤمنين.
وعليه فإن المطلوب، ليس الإيمان والاعتقاد بمقدسات الآخرين، وإنما احترام مقدساتهم، بحيث يستطيع الجميع من بناء حياة إنسانية أكثر عدالة وإيمانًا.
وعبر التاريخ تعددت أفهام البشر للدين، وتنوعت وسائل تعبيرهم عن هذه الأفهام.. إلا أن الأثر الدائم لهذه التعددية في الفهم البشري للدين، هو في حدود وحجم المقدس. بمعنى أن كل فهم بشري واجتهادي للدين، مهما كانت عناوينه ويافطاته، ستنعكس على طبيعة تجلي المقدس وحجمه وحدوده. فالأفهام البشرية التقليدية (الكلاسيكية) للدين، تدفع دائمًا نحو توسيع المقدس، وإدخال مفاهيم وعناصر جديدة إلى دائرة المقدس. إيمانًا تامًّا من هذه الأفهام، إلى أن الوسيلة الفضلى للدفاع وحماية المقدس الثابت، هو في إضافة مقدسات وثوابت أخرى، تكون مهمتها الأساسية هي الدفاع عن المقدس الثابت والجوهري الأصلي.
كما أن الأفهام التجديدية للدين، تدفع باتجاه تحديد المقدس، ومنع إضافة مقدسات أو ثوابت أخرى إلى دائرة المقدسات والثوابت الأساسية والجوهرية.. بل إن الفعل التجديدي في الكثير من التجارب الدينية التاريخية والمعاصرة، يتجه صوب عدم توسعة المقدس وعدم تحويل المتغيرات إلى ثوابت، وإدخال ما ليس مقدّسًا في دائرة المقدس الذي لا يمكن مسه أو التعرض إليه.
لهذا تتجه الكثير من الجهود النظرية والمنهجية، لصياغة رؤية أو منهج موحد لفهم الدين أو محاولة إيجاد نسق توحيدي لمناهج المعرفة الدينية. وتثير هذه المحاولات الكثير من التساؤلات والاستفهامات، حول جدواها ومغزاها والنتائج المفضية إليها مباشرة وغير مباشرة.
ويشير إلى هذه المسألة الدكتور (خنجر حمية) بقوله: وما الذي يحققه توحيد المناهج المختلفة المتنوعة في فهم الدين من غايات ويقود إليه من نتائج ويتوفر عليه من حسنات وإيجابيات، على تقدير واقعية هذا التوحيد وإمكانه؟ أهو يحقق فعلًا وحدة فهم الدين، أو أنه يقرّب النتائج التي ينتمي إليها كل انشغال بالدين أو تدبر له بعضها إلى البعض الآخر ويجعلها أكثر انسجامًا وتآلفًا؟ أو أنه يحقق وحدة الأنساق النظرية التي يتشكل منها الدين في صورته العقلية، فيصبح الدين حينئذٍ جملة تعاليم نسقية وطقوسًا شكلية وشعائر جامدة ساكنة لا حياة فيها ولا روح؟ ثم ما الذي يحركنا إلى السعي وراء هدف من هذا القبيل وما نفع ذلك وما جدواه؟ ولم يغرينا دائمًا وتحرضنا فكرة نشدان الواحد والوحدة والتوحد وما شاكلها في تركيبها ورادفها في دلالتها ومعناه؟ أَوَلَم ننفر دائمًا وأبدًا من الكثرة والتعدد، ونرفض فكرة التغاير والتمايز وننفر منها، وننبذ واقع التنوع والاختلاف ونحتقره؟ ألا يقود مثل هذا النزوع أو تلك الرغبة إلى الجمود والتحجر وإلى القضاء على روح الخلق والابتكار وقتل ملكة الإنتاج والإبداع؟ ثم ألا يؤدي في الدين، كل دين، إلى حجب الآفاق الرحبة الغنية والخصبة التي ينطوي عليها والتي تنبسط أمام العقل المتبصر فتنيره وتستنير به وتنفتح أمام خلّاقية الوعي المتأمّل فتثريه وتغتني به.
وعليه، فإننا نعتقد وبشكل جازم، إلى أننا لن نتمكن من التعرف على دقائق الدين وبركاته ونفحاته، بدون منهجية واضحة وبصيرة متكاملة، تؤهلنا للإطلالة مع كل قيم الدين ومبادئه الأساسية، وتوفر لنا العدة الاستنباطية، لاكتشاف واستنباط أحكام الإسلام وأنظمته المتعددة. وهذا المنهج هو روح كل تفكير وحياة كل تدبر وتأمل، وهو يولد معه ويلتصق به، أي أنه وليد تجربة التفكير والتأمل لا ينفك عنها ولا يفارقها، وهو يشبهها ويغنيها ويغتني بها، ينوعها ويتنوع في أثرها، ويتبدّى على صورتها وفي شكلها. إن منهج فهم الدين منهج متدفق تدفق الدين نفسه، حي ومتحرك، متحرر ومنفتح، وهو يغتني كلما انفتح أمام الوعي مجال من مجالات الدين وأفق من آفاقه، أو تبدّى رمز من رموزه، أو تجسدت إشارة من إشاراته، أو تحققت دلالة من دلالاته في التجربة الروحية الوجودية أو في تجربة الوعي والفهم.
وإن الذي يشكل روح الدين (على حد تعبير الكاتب خنجر حمية) وأساس خلّاقيته وجاذبيته وعصب الحياة فيه ومادة الخصوبة والغنى والتوهج هو ذلك الانفتاح الهائل للدين على آفاق متنوعة وخصبة، وجودية أو نفسية، وانطواؤه على قابليات استيعاب واستثمار لا تستنفد، بعضها يحرّك الخيال، وآخر يجيّش العاطفة والوجدان والمشاعر، وثالث يثير الوهم ويستدعيه، ورابع يدفع إلى التعقل والتفكير، وخامس إلى التدبر والتبصر، فكيف يتسنّى لنا اختصار ذلك واختزاله؟ وكيف يمكن أن يلامس هذا الأفق من الأبعاد والدلالات عبر وحدة فهم سياقية ومنطق ثابت لا يتغير، وتقنيات تأمّل وتفكير جامدة وسكونية؟ إن ذلك – في ما أزعم – يقتل في الدين ما يشكل جوهره الحي المتدفق، وقابلياته الغنية الثرية التي لا تحد، وآفاقه الرحبة الشاسعة الكثيفة والمتوترة.
والذكر الحكيم يحدّثنا في الكثير من المواضع، عن تجليات المقدس في حياة الإنسان. إذ يسجل القرآن الحكيم ما جرى للنبي موسى (ع)، وكيف تم انكشاف الحقيقة له. قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾[4].
وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾[5].
و “إن تجلّي المقدس أو ظهور علامة في مكان أو استدعاءها وتطلّبها إنما يتم، كما هو واضح، لوضع حد للتوتر الذي تثيره النسبية، وللقلق الذي يغذيه عدم التوجه، وبإيجاز نقطة استناد مطلقة ومركز.
إن رغبة الإنسان المتدين في العيش في القداسة، لا تجعله وحدها قادرًا على تكريس مكان بمفرده، إن ذلك يدفعه إلى تلمس ظهورات المقدس وتجلياته أو تبصر آياته وعلاماته، أو استدعاء حضوره طقوسيًّا، وهو بذلك إنما يحاول اكتشاف الحقيقي والواقعي ليقيم ضمنهما، وينعم في ظلالهما بالشعور بالقوة والقصد، ولينفتح من خلالهما على السماء، أعني حيث يكون انقطاع المستوى بين المكان المقدس وغيره من الأمكنة أمرًا متحقّقًا رمزيًّا، وحيث يصبح التواصل مع العالم الآخر المتصاعد من خلال هذا المكان”[6].
فالمقدس بأمكنته ورموزه ومعطياته التاريخية والحاضرة، حاجة ضرورية للإنسان الفرد والجماعة، وذلك من أجل خلق التوازن الإنساني المطلوب بين النوازع والأهواء والميولات الموجودة في الإنسان.. حيث إنه بدون المقدس وضوابطه، فإن الإنسان يتحول إلى كائن شرير ووحشي وأناني بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.
[1] سورة المائدة، الآية 8.
[2] سورة الفرقان، الآية 63.
[3] سورة الأنعام، الآية 108.
[4] سورة طه، الآيات 9- 12.
[5] سورة النمل، الآيتان 7 و 8.
[6] راجع، خنجر حمية، اختبارات المقدس، الصفحة 248.
المقالات المرتبطة
ثم ماذا ما بعد الغرب؟!
توشك كلمة “ما بعد” أن تصير لازمةً مفهوميةً تُمسك بناصية التفكير الغربي، ولا تترك له فسحة من راحة العقل. لكأنما الغرب استحال ظاهرة زمانية، أكثر منه حقيقة واقعية راسخة في جغرافيا ومستقرة فيها. وإلَّا كيف نفسِّر شَغَفَهُ المَرَضِيَّ باليوم التالي، وهو لا ينفك يمكث في جوف الحاضر المستمر لحداثته المهزوزة؟
نقد التأسيس الأنطولوجيّ للحداثة تنظير الغرب في منظومة محمّد عثمان الخشت
إنّ الرجل لمّا كتب على نفسه متاخمة الغرب انطلاقًا من خصوصيّته العربيّة والإسلاميّة، كان يدرك أنّ الحداثةَ هي لغةٌ من قبل أن تكون بنيانًا حضاريًّا، وأنّ لغة الغرب هي الوعاء الحضاريّ للشعوب الأوروبيّة والأميركيّة،
الحداثة الفائضة في غربتها الأخلاقية
يبقى إشكال الإنسان على الإنسان شأنٌ أخلاقيٌّ من قبل أن يكون أي شيء آخر. وأصل القول في هذا كله، أنَّ حضور الإنسان في عالمه هو حضور موصول بقيمة هذا الحضور نفسه، وبمقام الخيريّة فيه.