محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في صفحاتِ من نهج البلاغة
أول الكلام
عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (ع) قال: “لمّا أن قضى محمّد نُبوّته، واستكمل أيّامه، أوحى الله تعالى إليه، أن يا محمّد، قد قضت نبوّتك، واستُكملت أيّامك، فاجعل العلم الذي عندك، والإيمان، والاسم الأكبر، وميراث العلم، وآثار علم النبوّة، في أهل بيتك، عند علي بن أبي طالب…” (الكافي الجزء الأوّل).
علي بن أبي طالب (ع) هو من قال فيه، رسول الله محمّد (ص): “يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي”. الكافي.
ويكفي الإمام علي (ع)، ما ورد بحقّه، في سورة آل عمران، في آية المباهلة ﴿فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾.
فرسول الله (ص)، أُمِر في هذه الآية الكريمة، أن يدعوَ نفسَه، والمرء لا يدعو نفسه، ولكن المُتوارث من التفسير القرآنيّ، أنّ علي بن أبي طالب (ع)، هو نفس النبيّ، فَعُدّ ذلك، أعظم منقبة للإمام علي (ع).
تمهيد
شاعت الخطابة في العصر الجاهليّ، وتعدّدت موضوعاتها من المفاخرات، الحماسة، خطب الموت، خطب الكهّان، إلّا أنّها كانت خُطبًا مشتّتة الأفكار، غير متماسكة الأجزاء، اعتمدت على الصور الحسيّة، فكثُر فيها السجع، وهذا يعكس طبيعة الحياة التي عاشها العربيّ، وما فيها من خشونة.
ثمّ جاءت الدعوة الإسلاميّة، فنزل القرآن الكريم بلغة العرب وهذا ما أعلى من مكانتها عندهم، فأثّر في عقليّاتهم، ووجدانهم، بما يحمله من فصاحة، وبلاغة، وجمال. لقد تأثّر الخطباء بالأسلوب القرآنيّ، شأنهم شأن الشعراء، فالقرآن الكريم الذي أنّق ألفاظ الشعر، وشذّبها، وسّع الخطابة، وجعلها فنًّا قائمًا بذاته، فأصبح الخطيب الإسلاميّ، يحرص على إضفاء المسحة البلاغيّة، التي تأثّر بها من القرآن الكريم. كما أنّ رسول الله (ص)، كان المعلّم الأوّل، فالخطابة كانت أداةً للنبي في الدعوة إلى الإسلام، وبثّ التعاليم الجديدة، ووسيلة للتشريع، وقد حاول الخطباء مجاراة النبيّ في أسلوبهم.
من هنا يمكن القول: إنّ رسول الله (ص)، قد أثّر تأثيرًا عظيمًا في واقع الخِطابة في العصر الإسلاميّ، وارتفع بالخطابة العربيّة، إلى مستوى فنّي وثقافيّ لم تكن تألفه في العصر الجاهليّ.
وبما أنّ الكلام عن الخطابة، التي أصبحت فيما بعد فنًّا من فنون الأدب العربيّ، فمن البديهيّ، أن يتبادر إلى الذهن، كتاب نهج البلاغة، الذي مثّل الذروة، في التوسّع بالمعاني، والأغراض البلاغيّة. فالنهج كتاب فصيح اللفظ، بليغ المعنى وقد تعرّض لجميع مناحي الحياة، وجميع مراحل السلوك البشريّ. وإن كان أمير المؤمنين لم يؤلّفه، إنّما الشريف الرضي -( وهو أبو الحسن السيد محمّد بن الحسين بن موسى، لُقّب بالشريف الرّضي،كان شاعرًا وفقيهًا، وُلد في بغداد وتوفي فيها.)- جمع في القرن الرابع الهجريّ كلّ ما صدر عن الإمام علي (ع) خِطابًا، من رسائل، وحكم، وأقوال.
قال ابن حديد المعتزلي في النهج: “هو دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوق”. لذلك شكّل نهج البلاغة، بعد القرآن الكريم، نقطة انطلاق لكلّ طالب علمٍ، وأدب.
وفيما يلي، وعلى قاعدة ما لا يُدرك كلّه، لا يُترك جُلّه. سيتمّ تقديم بعضًا من خطب الإمام علي (ع)، التي وردت في النهج، بحقّ رسول الله (ص)، على شكل حلقات متتالية، تستعرض لمحة عن سيرة النبي (ص)، وأهمّ الأحداث فيها.
الخطبة الأولى:
يقول الإمام علي (ع)، في خطبة له، يصف فيها الأنبياء: “… فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرّهم في خير مستقرّ….. حتّى أفضت كرامة الله سبحانه وتعالى، إلى محمّد (ص)، فأخرجه من أفضل المعادن منبتًا، وأعزّ الأرومات مغرسًا، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه…. فهو إمام من اتّقى، وبصيرة من اهتدى… سيرته القصد، وسُنّته الرشد، وكلامه الفصل، وحكمه العدل… أرسله على حين فترة من الرسل، وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم..”.
بعث الله (عزّ وجلّ) الأنبياء، ليعلّموا الناس المعارف الإلهيّة، ويخبروهم بأوامره ونواهيه، ومواطن رضاه وغضبه، وليقيموا حدود العدل، وليرفعوا الظلم. وكلّ هذه الأمور لا تتحقّق إلّا بالنّبوّة، لأنّ العقل عاجزٌ عن إدراك كلّ التشريعات، فإن أدرك يدرك البعض. لذلك لا بدّ من وجود نبيّ يأتي من قبل الله (عزّ وجلّ)، فالنُّبوة باب من أبواب اللطف الإلهيّ.
أنزل الله تعالى، وبحسب الروايات مئة وأربعة وعشرون ألف نبيّ، انتظموا في خمس مراحل، وكانت كلّ مرحلة تبدأ بنبيّ من أولي العزم، يحمل شريعة عامّة، تمتدّ حتّى تبدأ مرحلة جديدة، بنبوّة عزميّة جديدة. فكان رسول الله محمد (ص)، سيّدهم وخاتمهم.
فالله عزّ وجلّ أخرجه، من أفضل المعادن منبتًا، وهذا ما اتفقت عليه الإماميّة، على أنّ آباء النبي (ص)، من آدم (ع)، إلى عبد الله (رض)، كانوا موحّدين، مؤمنين. يقول العلّامة المجلسي: “… بل كانوا من الصّدّيقين، إمّا أنبياء مرسلين، أو أوصياء معصومين”. ويُضيف الشيخ الصّدوق (قده) أنّ آمنة بنت وهب، كانت مسلمة، وفي رواية عن رسول الله (ص)، أنّه قال: “لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين، إلى أرحام المطهّرات، حتّى أخرجني في عالمكم، ولم يدنّسني بدنسٍ إلى الجاهليّة”. وإنّ الله عزّ وجلّ، لم يُعطِ نبيًّا فضيلة، ولا كرامة، ولا معجزة، إلّا وأعطاها لمحمّد (ص).
لقد اجتمعت فضائل الأنبياء جميعًا بالنبيّ الخاتم، وبه خُتمت النبوّة، والشريعة الإسلامية التي جاء بها كانت خاتمة الكتب، والشّرائع، لأنّها بلغت الغاية في الإحاطة بكلّ أمور البشر، وأنظمتهم المختلفة، كانت وما زالت الشريعة الكاملة التي لا يفوتها شيء. قال الباري عزّ وجلّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[1]. فكلمة الختم تعطي مفهوم الانتهاء والإغلاق.
ومن خطبة للإمام علي (ع)، يكرّر فضيلة الرسول الأعظم (ص): “بعثهُ والنّاس ضُلّالٌ في حَيْرة، وخابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، واستزلّتهم الكبرياء، واستخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزلٍ من الأمر، وبلاءٍ من الجهل، فبالغ (ص) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة، والموعظة الحسنة”.
لقد عاش العرب حياة الجهل، والحيرة، والضّياع قبل الإسلام. فكان سكّان الجزيرة العربيّة عبارة عن مجموعة قبائل، ولكلّ قبيلة حاكم، ودستورها: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا”. في ظلّ هذه الظروف القاسية، انتشر الفقر، والجوع، والنهب. ففي خطاب وجّهه الإمام علي (ع) للعرب، واصفًا حالهم في الجاهليّة قال: “.. وأنتم معشر العرب على شرّ دين، وفي شرّ دار، تُنيخون بين حجارة خشنٍ، وحيّاتٍ صمّ، تشربون الكَدِر، وتأكلون الجَشِب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم. الأصنامُ فيكم منصوبة، والآثامُ فيكم معصوبة”. وهنا يصف الإمام (ع)، حالهم بين فساد المعيشة، وفساد العقيدة. لقد جاءت البعثة المحمديّة، في ظلّ هذه الظروف القاسية، رحمةً من الله (عزّ وجلّ)، واستجابةً لدعوة النبيّ إبراهيم (ع)، ففي الرواية، عن رسول الله (ص)، أنّه قال: “أنا دعوة إبراهيم”. يبيّن الباري (عزّ وجلّ) في كتابه المبين حكايةً عن إبراهيم: ﴿ربّنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويُعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنّك أنت العزيز الحكيم﴾[2].
يقول الإمام علي (ع): “فبعثَ الله محمّدًا (ص) بالحقّ، ليُخرج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته، بقرآنٍ قد بيّنه وأحكمه، ليَعلَمَ العباد ربّهم إذْ جهلوه، وليُقرّوا به إذْ جحدوه، وليُثبتوه بعد إذ أنكروه..) لقد كان رسول الله (ص)، معجزة في نفسه وعلمه وخُلُقه وأفعاله، فجسّد الكمال البشريّ، لذلك خضعت له الإنسانيّة. فأصلح النبي ما فَسُد من أمر العباد، فهو المؤيّد بمعجزة القرآن، والمُسدّد من الله (عزّ وجلّ). هذا القرآن الذي أِنزل على قلب النبيّ في البداية، ثمّ جاء الأمر الإلهيّ ﴿واتل ما أوحي إليك من كتاب ربّك﴾[3]. فالنبيّ (ص)، عندما بدأ بتلاوة آيات الذكر الحكيم، ظهر للمشركين أنّ هذا بيان غير مألوف، فكان لكلماته وقع في نفوسهم، وعقولهم، وقلوبهم، وظهر عجزهم عن الإتيان بسورة من مثله، واعترفوا بالهزيمة. عندئذ أغمدوا ألسنتهم وأشهروا سيوفهم، وبدأت رحلة الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلاميّة، التي كان التوحيد هو الأساس في بنيانها، وكانت نقطة الانطلاق من مكّة المكرّمة البلد الأمين.
يقول أمير المؤمنين (ع): “مُستقرّه خير مُستقرّ، ومنبته أشرف منبت في معادن الكرامة، ومماهد السلامة، قد صُرِفت نحوه أفئدة الأبرار، وثنيت إليه أزمة الأبصار، دفن الله به الضغائن، وأطفأ به الثوائر، ألّف به إخوانًا، وفرّق به أقرانًا، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزّة، كلامه بيان، وصمته لسان”. يشير الإمام علي (ع) إلى مكّة (بمستقرّه) كونها أمّ القرى، ومقصد خلق الله، ومحلّ كعبته. فالقرآن الكريم يُصرّح أنّها ﴿أوّل بيت وُضع للناس ببكة مباركاً، وهدى للعالمين﴾[4]. لقد كان لمكّة مكانة دينيّة عريقة، بين القبائل العربيّة، والمحيط الواسع من البلاد، جعلتهم يرتبطون بها ارتباطًا وثيقًا. فقول الإمام (مماهد السلامة) كناية عن مكّة والمدينة وما حولها، فهي محلّ عبادة الله عز وجل. وعلى الرغم من أنّ البيت العتيق، قد وضعه الله (عزّ وجلّ) في أشدّ بقاع الأرض وعورةً…حجرًا، بين جبال خشنة، ورمال دمثة… لا يزكو بها خفّ، ولا حافر، إلّا أنّ أفئدة الأبرار صُرفت نحوه، فالله عز وجل، قد وجّه قلوب العباد إلى محبّته، والاستضاءة بنور هداه. أمّا قول الإمام (ع): “دفن الله به الضغائن، وأطفأ به الثوائر” إشارة لنعمته (عزّ وجلّ)، على نبيّه والمؤمنين: ﴿… ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا …﴾[5].
المصادر :
- القرآن الكريم.
- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني.
- الصحيح من سيرة النبي محمّد (ص)، السيد جعفر مرتضى.
- فنّ الخطابة، إيليّا حاوي.
[1] سورة المائدة، الآية 3.
[2] سورة البقرة، الآية 129.
[3] سورة الكهف، الآية 27.
[4] سورة آل عمران، الآية 96.
[5] سورة آل عمران، الآية 103.
المقالات المرتبطة
اْلعَاْلِمُ الْعَاْمِلُ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيْلْ (ع)
هو الذي قابل جموع أهل الكوفة وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أي أحد، فأشاع فيهم القتل مما ملأ قلوبهم ذعرًا وخوفًا، ولمّا جيء به أسيرًا على ابن زياد لم يظهر عليه أي ذل أو انكسار.
ديكارت في ضلالات “الكوجيتو”
ربما هو القَدَرُ الذي سيحمل الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت على اقتراف دابَّة العقل، ليجعلها خطّ الدّفاع الأوّل عن الإيمان المسيحي.
الثقة بالآخرين
تُعرَّف الثقة في علم الاجتماع بأنها علاقة اعتماد بين اثنين، الشخص المؤتمن والشخص المؤتمن عليه، وهي رمز وقيمة أخلاقية إيفائية على الشخص المؤتمن أن يفي بوعده.
ولا يخلو تعريفها من دخالة العوامل النفسية، فهي انبثاق داخلي من صلب شخصية الإنسان قائمة على الاعتقاد والايمان الراسخ والقوي بمصداقية أو حقيقة شخصٍ ما