مناهضة العولمة النيوليبرالية: التيارات الأساسية
يُؤخذُ على العولمة أنَّها ظاهرةٌ غير إنسانيَّة في بعض جوانبها، وبأنّ أداءها يتعارض غالبًا مع المصالح الإجماليَّة للمجتمع البشريّ. وتُساق في هذا المجال شواهد لا تحصى، … التفاوتات الطبقيَّة والمصاعب الاقتصاديَّة الناشئة عن السياسات التجاريَّة والماليَّة، والانحياز لفكرة الانفتاح على حساب فكرة التنمية… ، ولا تخلو الأدبيَّات الناقدة للعولمة من إدانة تعصُّبها لقوانين السوق، الذي أدَّى إلى ركودٍ في مداخيل الغالبيَّة العظمى من السكان، إلى نموٍّ متسارع وغير مسبوق في ثروات الخمسة بالمئة الأكثر غنًى في البلدان النامية والصناعيَّة على حدٍّ سواء، كما ينسب إليها تضخيم نظرة الغرب إلى ذاته، وإطلاق موجةٍ متطرِّفةٍ فيه من الإحساس بالفرادة والتميُّز.
ولسنا ملزمين على أيّ حال بتكرار الأرقام والبيانات والتحليلات الوفيرة في هذا الشأن، فالنظر إلى العولمة على أنَّها مسار غير عادل صار جزءًا من الوعي العالميّ، بل يفرض هذا التقويم نفسه شيئًا فشيئًا على صُنّاع القرار، فهؤلاء باتوا ملزمين بصرف شيءٍ من انتباههم لما يدور في قعر العالم حتى لا يتداعى النظام بأكمله. ثمّ إنّ الأزمة الماليّة الراهنة، وقبلها أزمة الولايات المتحدة الأميركية التي تعاني بشدّة من تبعات مشروعها الإمبراطوريّ العنيف، يعفي مناوئي العولمة من مضاعفة الجهد لإثبات أنّ الآليّات التي يدار بها النظام العالميّ، ستنتهي إلى كارثةٍ محقَّقة، بعد أن أفضت إلى الإطاحة بمكاسب إنسانيَّة، تطلَّب الأمر عقودًا من الزمن لتحظى بالاعتراف والأهميَّة.
بيد أنّ نقد العولمة لا يأتي من مصدرٍ واحد، ومعارضوها ليسوا على السويَّة نفسها، فهناك من يستأنف معها نزاعًا أيديولوجيًّا انقطع فجأة مع النهاية الحاسمة للحرب الباردة، وهناك من يراها حصيلة مساعي السياسيين ونتيجة لتغير موازين القوى العالميَّة فحسب، وينظر آخرون إليها على أنَّها موجة تاريخيَّة ذات محرِّكاتٍ سياسيَّة، وبالتالي فهي مليئة بالفرص بقدر ما هي محفوفة بالمخاطر. وقد نشأ عن التعدُّد في طرق تفسير الظاهرة، مقارباتٌ مختلفة إزاء ما ينبغي القيام، لمواجهة انحيازاتها غير العادلة أو لتغيير اتجاهها لتحمل وجهًا إنسانيًّا مقبولًا.
ثلاثة اتجاهات لمناهضة العولمة:
أوَّلًا: الاتِّجاه الأيديولوجيّ أو الراديكاليّ.
بحسب هذه المقاربة، العولمة هي الشكلُ الأعلى من أشكالِ الإمبرياليَّة، والذروة الجديدة التي وصلت إليها الرأسماليَّة، فمن نتائج تحرير الأسواق وفتح الحدود على مصراعيها، إعطاء زخم جديد لتراكم الرأسمال على حساب عناصر الإنتاج الأخرى. بيد أنّ اتساع الهوّة بين المالكين وغير المالكين، وزيادة التفاوت في الثروات، صعَّد من ناحية ثانية الصراع الطبقيّ، ومنح ديناميّاته قوةً مضاعفة، وكأنّه بذلك يستعيد مسارًا جرت مقاطعته في الربع الثالث من القرن العشرين، حين اضطرت الدول الغربيّة، إلى تقديم تنازلات جوهريَّة لمواجهة الخطر السوفياتي (مثل اعتماد نظام السوق الاجتماعيّ) وقتها تخلّى الغرب عمومًا عن تزمُّته الأيديولوجيّ، مقدمًا تنازلات لا بأس بها للفئات الدنيا، طمعًا بتهدئة التناقضات الاجتماعيّة، والحدِّ من جنوح الطبقات العاملة نحو الثورة.
تنظر هذه المقاربة إلى العولمة على أنَّها تطوّر طبيعيّ في مسار الرأسماليّة سيؤدي إلى تأجيج مشكلاتها وزعرعة أسُسِها. بل وإعادة إحياء التحليل الطبقيّ الذي يظلّ الشارح الأفضل للتناقضات العالميّة على ما يرى المفكّر الفرنسي آلان باديو.
المهمّ في هذا التحليل ليس تشدّده النظريّ فحسب، بل في كونه مدخلًا لمعارضة راديكاليّة للنظام الرأسماليّ، ترفض الاندراج ضمن قوانينه أو الاعتراف بقواعد عمله. الرأسماليّة وفق هذا التحليل هي سلطة، لا بد لكلّ راغبٍ في التغيير من مواجهتها والانقضاض عليها، ولا يجدي نفعًا العمل تحت سقفها أو السعي إلى التأثير على مسارها وتعديل آليّاتها، كما لا يمكن إيجاد مساحة تقع خارج نطاق هيمنة النظام الرأسماليّ لفرش بذور الخيارات البديلة، كما يأمل مؤسسو المنتديات الاجتماعيّة العالميّة.
ينتقد المفكِّر الماركسي السلوفيني “سلافوي جيجاك”، في هذا السياق اليسار ما بعد الحداثيّ، ذاك الذي يحاول الإصلاح ضمن قواعد الرأسماليّة العالميّة، ويطمح إلى مقاومتها من فجواتها. فبانتظار تجدّد الروح الثوريّة لدى الطبقات العاملة، ينبغي – من وجة نظر هذا اليسار– الدفاع عمَّا تبقَّى من دولة الرفاهية، وإمطار المُمسكين بالسلطة (الرأسماليّة) بمطالب نعلم أنَّهم يعجزون عن تلبيتها.
لكن هذه المهادنة الأيديولوجيّة، تعطي الرأسماليّة المأزومة فرصة معالجة الآثار الجانبيّة لتطرُّفها، كونها تهدِّئ الصراع الطبقيّ من جديد وتمنح الطبقات الحاكمة السلام اللازم لإطالة أمد الهيمنة. والنتيجة -حسب هذا الاتجاه- هي تكريس الدولة الليبراليّة وتأكيد منطق العولمة، فالمهمة الراهنة (وفق باديو) هي إعادة الفرضيّة الشيوعيّة إلى الوجود بطريقة جديدة لمساعدتها على الاندماج ضمن أشكالٍ جديدة من التجربة السياسيَّة، لكن مع توطيد الأساس النظريّ القائم على منطق الطبقيّة، أو على نحو أوضح تبعيّة العمَّال لطبقة مسيطرة.
المقاربة الأيديولوجيّة لا ترى أنّ مناهضة العولمة تتمُّ من خلال البحث عن بدائل إنسانيَّة أكثر، بل بالسعي إلى تقويض الدولة الرأسماليَّة نفسها، لأنَّ أيّ بديل لها، سواء كان الطريق الثالث، أو الديمقراطية الاجتماعية، أو رأسماليّة المساهمة والتعاون، أو التجارة المتكافئة خارج سلطة الأسواق التقليدية، إنّما تؤول إلى تأبيد أمد هذه الدولة، ومنحها فرصة أخرى لتجديد نفسها ومعالجة معضلاتها القاتلة.
ثانيًا: الاتجاه السياسيّ.
يركِّز هذا الاتّجاه على الجانب السياسيّ للعولمة. فهي ليست موجة تاريخيّة، ولم تتكوّن في رحم الثورات الثلاث التقنيّة والثقافيّة والاقتصاديّة، كما يزعم أنصارها. بل نتجت عن سياسات مقصودة وإجراءات واعية، اتخذها سياسيّون وتبنّتها دول وتكتّلات. فبعد انهيار المعسكر الاشتراكي شعرت الدول الغربية وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية بتفوق غير محدود، ما سهل عليها اتخاذ قرارات وانتهاج سياسات أكسبت العولمة صورتها الراهنة جاعلة منها مشروعًا سياسيًّا بامتياز. فولادة العولمة النيوليبرالية، لم تكن ولادة طبيعية، بل أتت نتيجة تشريعات وقرارات كان هدفها الأول زيادة قوة المركز الغربي، وتمكين الولايات المتحدة الأميركية من استثمار تفوقها العسكري في المجال الاقتصادي، ليصبح التناوب ممكنًا بين الهيمنة الاقتصادية والهيمنة العسكرية/ السياسية، بحيث تستقوي إحداهما بالأخرى.
إن مناوأة العولمة يجب أن ينطلق بالتالي من رفض الأساس السياسي- الاقتصادي لها، الذي تعبر أفضل تعبير عنه العقيدة التاتشرية- الريغانية وتعاليم مدرسة شيكاغو، والتحولات العالمية الصاخبة التي أعقبت سقوط جدار برلين.
وهنا لا ينبغي فقط رفض انتشار أفكار تتعارض مع الفهم السوي للمصلحة العامة فحسب، بل يجب أيضًا رفض ترجيح كفة السلطات غير المنتخبة على السلطات المنتخبة، فأكثر القرارات الاقتصادية خطورة يتخذها مثلًا حكّام المصارف المركزية الذين لا يخضعون للمساءلة الشعبية أو الانتخابية. وهناك كثير من القرارات تتخذ خارج الدول وتتأثر بجدول أعمال التفاوض العالمي أكثر بكثير من تأثرها بما تتمخض عنه صناديق الاقتراع.
لقد أفصحت هذه العولمة -من وجهة النظر هذه- عن نواياها منذ البداية، فربطت بين المشاكل الاقتصادية وبطء وتيرة الابتكار من جهة، وبين الدولة التي تنامت هيمنتها على المجال العام في أعقاب الحرب العالمية الثانية من جهة ثانية، ويعترف الليبراليون الجدد مع ذلك بأنّ هيمنة الدولة حقق قدرًا من الاستقرار الاجتماعي والسياسي إلا أن ذلك تم بحسبهم عند مستوى منخفض للتنمية، وضمن حد لا يسمح باطراد التقدم والازدهار. وقد اعتبر هؤلاء أن الضمانات والمكاسب الاجتماعية التي راكمها العمال، في النصف الثاني من القرن العشرين، هي بمثابة عقوبة جائرة تحمّلها المنتجون وقللت قدرتهم على المنافسة. وإذا كان الهدف هو استرجاع مسار النمو فلا بدّ من التحسب للعقوبات الفورية التي تفرضها الأسواق على من يقاوم قوانينها، والعمل من ثمّ على تفكيك الأدوات التي تغري الدولة بالتدخل لأسباب اجتماعية أو لغايات سياسية.
وقد ترافق هذا الانحياز إلى السوق على حساب الدولة، مع زيادة الميل إلى تقليص التكاليف إلى أدنى حد ممكن، فاتبعت الشركات الكبرى أنماطًا جديدة للإنتاج تقوم على تفكيك وحدة المصنع الذي شكل الحاضنة الطبيعية لنمو الحركات العمالية والنقابية. هذا الأمر حرك مزيدًا من الصفائح في باطن الأسواق، وأحدث نقلة إضافية في مسار العولمة. ويمكن اعتبار ترحيل بعض الصناعات وأجزاء من عمليات الإنتاج نحو دول الجنوب (وخصوصًا إلى آسيا)، بمثابة رحلة بحث معاكسة تقوم بها الشركات الكبرى عن عمال متدني الأجر ولا يحظون بالرعاية اللازمة (وهذا ما يحدث مع الصين والهند وبعض دول آسيا الأخرى). إذ تؤكد البيانات المتوفرة أن قدرًا متزايدًا من الإنتاج بات يتم على أيدي عمال ومنتجين يفتقرون إلى الحد الأدنى من الضمانات والحماية.
وإذا كانت المكاسب الاجتماعية للعمال تنتمي إلى عالم المصنع، المتمركز بدوره في دولة محددة ذات بيئة قانونية وتشريعية متكاملة، فإن توزيع عمليات الإنتاج على دول عدة (تجزئة خطوط الإنتاج)، تنقل مزيدًا من سلطة القرار من الحكام المنتخبين إلى محركي الأسواق العالمية غير الخاضعين للمساءلة الديموقراطية، فالشركات متعددة الجنسيات تتحلى اليوم بقدرة فائقة على التملص من القوانين وبرامج الحماية والرعاية، ما يعيد نضال العمال إلى نقطة الصفر. ثم إنّ الحد من قوة الدولة الوطنية، وتفتيت نظم الإنتاج جعل النضالات الاجتماعية والنقابية غير ذات قيمة، وقلل من قدرة أطراف الإنتاج على الدخول في مساومات اجتماعية مجدية مع الشركات الكبرى.
كان ضياع المكاسب الاجتماعية التي راكمها العمال (والمزارعون والفئات المماثلة) على مدى قرن من الزمن تقريبًا، النتيجة الطبيعية لزيادة وطأة الأسواق العالمية التي لم تكن لتتعاظم قوتها لولا سلسلة القرارات التي حررت المعاملات المالية وزادت من شدة الترابط بين البورصات الرئيسية ناهيك بإنشاء منظمة التجارة العالمية التي كان الهدف من إنشائها قيام عالم خال من الحواجز المعوقة لانسياب البضائع والخدمات. بات لدى الأسواق إذًا قوة تفوق قوة تأثير العملية الديموقراطية نفسها، إذ ليس بوسع أي دولة أن تتجاهل مثلًا العواقب المترتبة على زيادة الموازنات الاجتماعية دون التبصر بانعكاسات ذلك على صورتها في الأسواق الدولية، فالدول الأوروبية التي أبقت على نظام سخي للتقديمات في العقد الماضي عانت من نزف شديد في الرساميل واضطراب في أسواق الصرف، واضطرت إلى القيام بمراجعة لمبادئ دولة الرفاهية الشاملة وأخضعت بعض أهدافها الاجتماعية لاعتبارات المنافسة الدولية.
ولا يمكن أن نغفل هنا، ولو من باب الاستطراد، أن المنظومة التشريعية والقانونية لا تعمل على النحو الذي وجدت من أجله، خارج إطار الدولة/ الأمة، وخصوصًا لجهة ردع الحكومات عن الإفراط في استخدام السلطة، والمساعدة كذلك على قيام مساومات اجتماعية وسياسية بنّاءة تضمن الحقوق الأساسية. ولذلك، إن إضعاف الدولة الوطنية وانتزاع الجزء الأكبر من صلاحياتها لمصلحة ما يمكن تسميته “السلطة العالمية”، لم يؤد فقط إلى توسيع المساحة التي تقع خارج المظلّة الديموقراطية، بل إنه هدّد أيضًا التعاقد الاجتماعي نفسه، والحقوق الأساسية المرتبطة به.
لا يقتصر المنطق السياسي للعولمة على طموحات عسكرية واقتصادية، بل يتضمن كذلك طموحات ثقافية من شأن تحقيقها تضخيم الثقافة الغربية في عيون “باقي العالم”، وخفض ثمن الهيمنة عبر جعلها أمرًا مقنعًا ومسوغًا ومفيدًا بعيون ضحاياها. وعلى سبيل المثال تعلن إحدى وثائق الأمن القومي الأميركي “أن الولايات المتحدة الأميركية سوف تستخدم قوتها العسكرية الاقتصادية لتشجيع قيام مجتمعات حرة ومفتوحة، وستستعمل المعونات الأميركية وتقديمات صندوق النقد والبنك الدولي لكسب معركة القيم والأفكار المتنافسة، بما في ذلك معركة مستقبل العالم الإسلامي”. والمعروف أن مراكز أبحاث وثيقة الصلة بمراكز القرار الأميركي، بحثت في سبل إعادة تعريف الإسلام والتأثير على تطوره، سواء من طريق إعادة صياغة المناهج المدرسية، أو من خلال ترجيح كفه مذهب إسلامي إسلامي على آخر. بل إن مؤسسة راند الأميركية دعت في دراسة صادرة عنها عام 2005، إلى مساندة قيام إسلام ليبرالي، وتشجيع الطرق الصوفية، سعيًا إلى تجفيف الينابيع العقائدية لحركات الجهاد العالمي!
وبما أنّ العولمة الليبرالية، وفق هذه المقاربة، ذات أساس سياسي وعسكري، فإن مواجهتها يجب أن تتم أيضًا في الإطار نفسه، وهذا ما يعني العمل على إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل زمن القطبية الواحدة، مع ما يستلزمه ذلك من: ترميم للدولة الوطنية، ورد الاعتبار للتعددية الثقافية ولجم محاولات تذويب الثقافات المحلية في ثقافة الغرب المسيطرة، والسعي كذلك إلى التخلص من قواعد العمل والاتفاقيات التي فرضت على دول العالم فرضًا لتحقيق مصالح قلة قليلة منها. غير أن تبديل مسار العولمة لتصبح إنسانية أكثر، غير ممكن إلا إذا جرى ترميم العقد الاجتماعي الذي اهتزت أركانه مع تقويض أركان الدولة الحديثة، دون أي تعويض عنه بتعاقد عالمي بديل.
ثالثًا: عولمة البدائل في مقابل عولمة انتهاك الحقوق.
بقدر ما كانت العولمة وليدة قرارات سياسية وتحولات مدارة من قبل الدول، فقد نتجت أيضًا عن تقاطع ثورات معرفية ومعلوماتية وتقانية كان لها تداعيات جمّة على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فوفق هذه المقاربة لا يمكن العودة بعقارب الساعة إلى الوراء أو تبديل اتجاه الريح، وما علينا بدلًا من ذلك سوى التركيز على اتجاه السفينة نفسها. فالعولمة هي تحدٍ وفرصة في الوقت نفسه، مصدرٌ للآمال والطموحات وسببٌ للإحباط والخيبة. وإذا كانت قوى الهيمنة والشركات العابرة والمحتكرون الدوليون قد استفادوا كثيرًا من اتساع الفضاء الذي وفرته العولمة، فإن الديانات والتعاليم الأخلاقية الإنسانية، والأفكار الكبرى غالبًا ما تتكون في فضاء عالمي حيث تصل إلى ذروة تألقها واكتمالها.
المشكلة ليست في العولمة نفسها، بل في الظواهر السلبية المرتبطة بها، والمنبثقة عن النمط الليبرالي المفرط الذي استحوذ عليها رغمًا عن إرادة الغالبية العظمى من شعوب أهل الأرض. هنا يبدو الوجه غير الإنساني ظاهرًا للعيان، حيث قلة صغيرة جدًّا تستحوذ بقوة الاحتكار والسلاح على معظم الثروات والموارد، وتدعي لنفسها شرعية مطلقة وأفضلية أخلاقية وسياسية، الأمر الذي يسوغ لها أنواعًا جديدة من الحروب والفقر والهيمنة والتمييز.
لقد أهدرت الرأسمالية الليبرالية الحقوق الأساسية على نحو غير مسبوق، منذ أن انفلتت من رقابة الدولة وتملصت من آليات الضبط الديمقراطي، لتصير مبادئ إجماع واشنطن أعلى مكانة من شرعة حقوق الإنسان. وفي ظل السياق الراهن للعولمة صارت القرارات التي تتخذها بيروقراطية الشركات الكبرى أهم بما لا يقاس من القرارات التي تتخذها الحكومات المنتخبة ديمقراطيًّا.
لقد ترافق الهجوم على دور الدولة ومكانتها مع تراجع لا سابق له في احترام الحقوق؛ حقوق الإنسان المعبر عنها صراحة في الميثاق العالمي، والحقوق الاجتماعية الإنسانية التي تدعو الأمم المتحدة إلى تكريسها والاعتراف بها. وكما يرى بنيامين باربر في كتابه المعروف “الجهاد والماك” فإنّ قوى العولمة تفضل الأسواق الكونية التي تضرب جذورها في الاستهلاك والربح، على قضايا الخير المشترك والمصلحة العامة، اللذين يشكلان حاضنة لا بد منها لنمو الديموقراطية. فيما يعتبر أريه نايير أن الديمقراطية أضيرت أيضًا حين رُبطت بحملة صليبية كونية قائمة على انتهاك حق الحياة لمئات آلاف المواطنين.
Aryeh neier; “asia΄s unacceptable standard”; foreign policy; no 92 (fall 1993);47
جوهر المشكلة وفق هذه المقاربة، هو في الممارسات التي ترافقت مع العولمة وليس في الظاهرة نفسها، والتي أتت في سياق العودة إلى رأسمالية القرن التاسع عشر البشعة والتنكر لعقود طويلة من النضال الاجتماعي. وقد أدى ذلك إلى نشوء تناقض جديد أكثر ضراوة من التناقض الطبقي التقليدي، حيث انقسم العالم بين قلة غير منتجة تعتاش على الريوع المتحققة من الحروب وتدمير البيئة واحتكار الموارد الطبيعية، وبين غالبية منتجة لكنها تحظى بالقليل من الموارد. وأكثر ما تتجلى تلك الممارسات في الانتهاك المتزايد لحقوق الإنسان من قبل ما يسمى “دول العالم الحر”، وفي تراجع أهمية الخير المشترك والمصلحة العامة في العلاقات الدولية، كما يتجسد خصوصًا في محاولة فرض الديمقراطية.
ينبغي هنا إمعان النظر أكثر في العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، كونها تشكل القاعدة الأخلاقية المزعومة لحروب الألفية الثالثة. بل لعلنا نتخذ الآن وجهة معاكسة، حيث بدأت الديمقراطيات غير الحرة بالظهور، تلك التي تشهد عمليات اقتراع دورية لكنها لا توفر الحقوق الضرورية لتمكين المجتمعات من الاختيار بحرية وفعالية، كما أنها تعمل على تضييق المجال السياسي بدلًا من توسيع آفاقه، كما يحصل في الديمقراطيات التي أنشأتها حروب أميركا في العراق وأفغانستان.
التجارب تظهر أن لا علاقة تذكر بين انتهاك الحريات الأساسية وشكل الحكومة أو عقيدتها، بل هناك أمثلة كثيرة تثبت العكس، ومن بينها طبعًا النتائج المأساوية للربط الذي أرست قواعده إدارة رونالد ريغان وكرسته إدارة جورج بوش الابن، بين حماية حقوق الإنسان من جهة والبناء الديمقراطي من جهة ثانية، وذلك على خلاف ما انتهجته إدارة كارتر وكلينتون.. وقد كان من نتائج الحروب التي شنت تحت شعار البناء الديموقراطي إزهاق الكثير من الأرواح البريئة وانتهاك فاضح للحريات الأساسية وسد منافذ العبور نحو التطور السياسي والاقتصادي، وتدمير البنى الاجتماعية المعول عليها في إتمام صفقة الديموقراطية.
وحيث إن العولمة كما تقدم تتضمن فرصًا بقدر ما تحتوي على تحديات، فلا بد إذًا -حسب هذه المقاربة- من استخدام الفضاء المفتوح من أجل تطوير مجتمع مدني عالمي، تتضامن قدراته في مواجهة العوارض السلبية للممارسات المعولمة دون الدخول بالضرورة في مواجهة مباشرة مع السلطات المحلية والعالمية التي تحمي وتشرع هذه الممارسات.
يتقاطع ذلك مع فكرة البدائل التي تقوم على أمرين متضافرين:
الأول: إرهاق الدولة الرأسمالية بوابل لا حد له من الطلبات الإصلاحية التي لا تقوى على تلبيتها، أو التي يؤدي تلبيتها إلى تعطيل آلية التراكم الرأسمالي؛ مثل: الحفاظ على البيئة، ومنع الاستغلال الجنسي والعنصري، ومناهضة الحرب، وتوسيع نطاق الحقوق الأساسية.
والثاني: ويتمثل في الدعوة إلى مقاومة سلطة الهيمنة (الدولة) بالانسحاب من منطقتها وخلق مساحات جديدة خارج نطاق سلطتها، وهي الفكرة التي قامت عليها المنتديات الاجتماعية العالمية.
ما السبيل إلى عولمة إنسانية تحفظ الحقوق الأساسية؟
لا بد من التذكير بداية بوجود أربعة أنواع من الحقوق تتأثر بهذه الطريقة أو تلك بالسياق النيوليبرالي للعولمة:
- الحقوق الفردية: وتتمثل أساسًا في الحريات المنصوص عليها في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.
- الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية: الحق في العمل، وفي الحصول على مستوى معيشي لائق، والحق في التعليم والطبابة والانضمام إلى النقابات.
- الحقوق السياسية: تقرير المصير والاستقلال، المشاركة العادلة في الثروات العامة، بيئة نظيفة وآمنة…
- الحقوق الثقافية: التعددية، التمايز، الاعتراف، الاحترام المتبادل…
في المقابل قامت العولمة الليبرالية على ثلاثة مبادئ تؤثر سلبًا على منظومة الحقوق:
- مركزية السوق في مقابل تهميش دور الدولة، الأمر الذي أضعف قدرة الحكومات على التدخل لضمان الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
- أولوية الخارج على الداخل، أو بمعنى آخر أولوية الاحتياجات الأمنية والسياسية للمركز الغربي المعولم على احتياجات الدول الأخرى، هذه الأولوية ألحقت الضرر بالحقوق الفردية والسياسية، كحق الحياة، وحق التعبير الحر عن الرأي، وحق تقرير المصير والتقاسم العادل للموارد…
- المركزية الثقافية: التي هددت مبدأ التنوع والتعددية الثقافية والفكرية وأدت إلى نمو ظاهرة الاستعلاء الثقافي.
وعلى الرغم من التناقض الراهن بين شروط عمل العولمة ومقتضيات صون الحقوق، فإن الأمل ما زال قائمًا بقيام عولمة ذات وجه إنسانيٍّ، وذلك فيما لو اعتمدت مقاربة مختلفة تتوخى التالي:
أولًا: الاعتراف بأن العولمة هي مسار وسياق تاريخي، بقدر ما هي وليدة قرارات وإجراءات مخططة. وبالتالي ليس علينا الاختيار بين أمرين إمّا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أو ترك مساوئ العولمة تتفاعل في باطن الدولة الرأسمالية أملًا بتدمير هذه الدولة، فهناك فرصة حقيقية للتفكير بعولمة إنسانية بديلة تطمح إلى تحقيق الأهداف المشتركة للمجتمعات، وتخرج في الوقت نفسه من هيمنة النمط الواحد، إلى رحاب التنوع السياسي والثقافي والفكري والأيديولوجي، وما يزيد من أهمية الفرصة المتاحة، هو البحث المحموم في عالم اليوم، عن مخارج لأزمة الرأسمالية، بعد انهيار ركنها المالي، وقيام رأسمالية حربية مروعة على أنقاض نزعة إمبراطورية أفضت إلى نتائج كارثيّة.
ثانيًا: إن بناء النموذج الإنساني البديل للعولمة يجب أن يتم على مسرح السلطتين الوطنية والعالمية، وليس بالانسحاب من نظام السلطة العالمية إلى مسرح خلفي للشراكة والتبادل، أو بالهروب إلى فضاء خاص هو فضاء المجتمع المدني العالمي الموازي للحكومات والمؤسسات الدولية والأسواق والسلطات العالمية الرسمية وغير الرسمية. بتعبير آخر إن نجاح المعركة ضد مساوئ العولمة يتطلب نضالًا مباشرًا في وجه السلطات التي تتمثل بها، وذلك على مستويين رئيسيين: الأول: تثبيت دور الدولة كركن رئيسي للتعاون الاقتصادي والسياسي العالمي؛ والثاني: ترميم العقود الاجتماعية الوطنية، تمهيدًا لإرساء عقد اجتماعي عالمي عادل.
ثالثًا: إن قيام عولمة إنسانية بديلة لا يمكن أن يتم عبر بعث التناقضات الأيديولوجية، أو من خلال اللجوء إلى الحلول الوسط كيفما اتفق، ففي مواجهة طغيان الليبرالية المتطرفة المتنكرة للحقوق، لا بد من قيام ائتلافات عالمية متنوعة وذات قواعد اجتماعية واسعة، عوضًا عن استئناف التناحر الأيديولوجي القديم. فالبديل ليس أحادية محافظة في مقابل أحادية ليبرالية أو يسارًا في مقابل اليمين، وإنما يجسده طيف عالمي يضم كل التيارات ذات التمثيل الاجتماعي، بدءًا من اليسار وانتهاءً بآخر الحركات الإسلامية المعارضة والمقاومة، ومرورًا بأنصار الرأسمالية الاجتماعية واليسار ما بعد الحداثي. ويمكن لهذا الائتلاف العريض أن يلتقي على هدف مركزي واحد هو إحياء منظومة الحقوق، الفردية والسياسية والثقافية والاجتماعية الاقتصادية على نحو متكامل ومتزامن.
وبالخلاصة.
إن قيام عولمة إنسانية بديلة يتطلب سلسلة مترابطة من النضالات:
– النضال من أجل تكريس دور الدولة الوطنية داخل النظام العالمي، على اعتبار أنها الإطار الناجع لتحديد الخيارات الجماعية واحتضان العملية السياسية التي من شأنها صون الحقوق الفردية والاجتماعية.
– والنضال من أجل الحقوق الوطنية المتمثلة خصوصًا في الاستقلال وحق تقرير المصير.
– والنضال من أجل تأكيد التنوع والتعددية الدينية والثقافية والفكرية والأيديولوجية.
– والنضال من أجل كبح جماح الأسواق وإخضاعها مجددًا للشرعية الوطنية والديمقراطية.
ويمكن لهذه النضالات أن تنجح إذا ما تضافرت جهود ثلاثة أطراف:
- المناضلون الاجتماعيون دفاعًا عن الحقوق الأساسية، وفي مواجهة طغيان الأسواق.
- المناضلون السياسيون من أجل الحرية والديموقراطية.
- والمناضلون الوطنيون من أجل التحرير والمنخرطون في مقاومة الاحتلالات والحروب الاستعمارية المتجددة.
هل يمكن قيام عولمة إنسانية بديلة؟
نعم هذا ممكن لكن في إطار مثلث النضال المذكور، وبعد أن يتم تدمير الحاجز الذي يحول دون تحقيق ذلك حتى الآن، والمتمثل خصوصًا في المعادلة السياسية والاقتصادية والحربية للهيمنة التي تديرها الولايات المتحدة الأميركية، وتعبّر من خلالها عن طموحات آحادية مروعة.
المقالات المرتبطة
الهجرة والجهاد
نبدأ في كلّ عام مع عاشوراء لنستعيد حياتنا ونبني نفوسنا ونأخذ الهمّة من سيّد الشهداء وأصحابه وأنصاره، من أجل أن
طرائقيّة علم الاجتماع المعاصر
“لا تهرف بما لا تعرف”، تلك هي الخطوة الأولى التي يخطوها الباحث في مجالات علم الاجتماع الديني المعاصر، للفصل بين
التأويل المعرفيّ الأخلاقيّ للعبادات: نموذج القاضي القمي
شغل التراث المرتبط بالعبادات أو الفروع الشرعية حيزًا مهمًا من اهتمام المسلمين، وحاز على القدر الأكبر من جهدهم المعرفي، واحتل