البروتستانتيّة والإمبراطوريّة المختارة أميركا بوصفها تجربة لاهوتيّة
تضيء هذه الدراسة على إحدى أهمّ إشكاليّات التجربة الدينيّة في الحضارة الغربيّة الحديثة، عنينا بها التجربة التاريخيّة الأميركيّة بوصفها تجربة دينيّة في جذورها ومكوّناتها اللاَّهوتيّة والأيدويولوجيّة والسياسيّة. كما يتناول المفكر الدكتور محمود حيدر في دراسته هذه الخصائص التي ميَّزت أميركا عن أصلها الأوروبّيّ، والدور الذي لعبته البروتستانتيّة الإنجيليّة في إضفاء الفرادة والاستعلاء على بقيّة العالم، وذلك بذريعة أنّ أميركا هي أرض الخلاص الموجود لسائر البشريّة.
عندما قرّر كريستوفر كولومبوس أن يركب البحر ويمضي في مغامرته الكبرى لاكتشاف أميركا، كانت الإيمانيّة المسيحيّة حاضرة بقوّة في وجدانه، ذاك أنّ شغف كولومبوس بالعلم، لم يَحُل دون انتسابه الروحيّ إلى العالم الميثولوجيّ القديم؛ فهو سليل أسرة يهوديّة تحوّلت إلى المسيحيّة، ويبدو أنّه كان لديه اهتمام “بالقبالة”، أي بالتراث الصوفيّ في اليهوديّة، لكنه كان مسيحيًّا وَرِعًا، وأراد أن يكسب العالم من أجل المسيح، وجلُّ آماله تمثّلت بتأسيس قاعدة مسيحيّة عند وصوله إلى الهند، وكانت غايته المركزيّة العمل من أجل فتح القدس عسكريًّا، في هذه المرحلة كان الأوروبيّون قد بدأوا رحلتهم إلى الحداثة؛ إلاّ أنّهم لم يكونوا حداثيّين تمامًا بالمعنى الذي يُفهم من كلمة الحداثة؛ فالأساطير المسيحيّة كانت لا تزال تعطي معنى لاستكشافاتهم العلميّة والعقلانيّة.
لقد أوضحت رحلة كولومبوس أن سكّان أوروبّا كانوا على شفا عالم جديد، كانت الآفاق تتّسع، بينما هم يدخلون عوالم لا مخطّطات لها جغرافيًّا، وثقافيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا، إلاّ أنّهم ظلّوا على يقين من أنّ إنجازاتهم هذه سوف تجعلهم سادة الأرض. بيد أنّ للحداثة، مع ذلك، جانبًا أكثر قتامة، فإسبانيا المسيحيّة كانت واحدة من أقوى الممالك في أوروبّا وأكثرها تقدّمًا. وكان فرديناند وإيزابيلا يختبران عمليّة إنشاء إحدى الدول المركزيّة الحديثة التي طفقت تظهر أيضًا في أجزاء أخرى من العالم المسيحيّ، ولم يكن في وسع مملكة كهذه أن تتسامح مع المؤسّسات ذات الحكم الذاتيّ التي تُسيَّر ذاتيًّا مثل نقابة الحرفيّين Guilds، أو مع هيئة أهليّة، أو مع التجمّع اليهوديّ الذي يعود إلى الفترة القروسطيّة.
ومعلوم أنّ توحيد إسبانيا الذي اكتمل بفتح غرناطة تبعه تطهير عرقيّ أدّى إلى فقدان اليهود والمسلمين أوطانهم. كانت الحداثة – بالنسبة للبعض- قوّة محفِّزة، محرّرة وساحرة، بينما خَبِرَها آخرون كقوّة قهريّة غازيَة ومدمّرة، وقد استمر هذا النموذج عندما كانت الحداثة الأوروبيّة، تمتدّ إلى أنحاء أخرى من الأرض؛ ذلك أنّ برنامج التحديث كان تنويريًّا، وفي نهاية المطاف سوف يُعلي مثل هذا البرنامج، قِيَمًا إنسانيّة، لكنّه في الوقت ذاته كان عدوانيًّا أيضًا، فمن خَبِرَ الحداثة على أنّها هجمة أساسًا، سوف يصبح أصوليًّا في القرن العشرين، وفي أواخر القرن الخامس عشر لم يكن باستطاعة الأوروبيّين التنبّوء بفداحة التغيُّر الذي دشّنوه، وطوال السنوات الثلاثمئة التالية لن تحوِّل أوروبّا مجتمعها سياسيًّا واقتصاديًّا فقط، بل هي ستنجز ثورة ثقافيّة أيضًا، وستغدو العقلانيّة العلميّة نظامًا راهنًا وحاضرًا في صميم تلك الحقبة، وستطرد تدريجيًّا عادات العقل والقلب القديمة. ومهما يكن فإنّه ينبغي النظر بعناية خاصّة إلى الطريقة التي كان الناس فيها يختبرون العالم، ولا سيّما في حقبة ما قبل الحداثة، ففي جنوب إسبانيا مثلًا، كان الطلاب والمدرِّسون يناقشون بحماسة بيِّنة الأفكارَ الجديدة التي قدّمتها النهضة الإيطاليّة. وقياسًا على ذلك، يمكن القول إنّ رحلة كولومبوس كانت أمرًا محالًا من دون اختراعات مثل البوصلة المغناطيسيّة، أو من دون امتلاك أحدث ابتكارات علم الفلك. وبحلول عام 1492م كانت العقليّة العلميّة الغربيّة قد أصبحت كفوءة بشكل أخّاذ، وصار الناس يكتشفون أكثر من قبل قيمةَ – ما أسماه الإغريق – اللوغوس – الذي كان يتوصّل دائمًا إلى شىءٍ ما جديد[1].
في الحقبة التي شهدت نزول الأوروبيّين على شواطئ العالم الجديد، المسمَّى أميركا، كانت سِماتُهم القوميّة قد بلغت تمامها، وكان لكلّ منهم شخصيّته المميّزة، ولمَّا أن بلغوا تلك الدرجة من التحضُّر التي تحمل الإنسان على النظر في ذات نفسه، نقلوا إلينا صورة أمينة لآرائهم وعاداتهم وقوانينهم، وبدا الأمر كما لو أنّنا نريد أن نعرف أُناس القرن الخامس عشر مثلما نعرف أُناس زماننا هذا؛ لذلك راحت أميركا تُظهر للعيان ما حجبه جهل العصور الأولى وبربريّتها عن أبصارنا، هكذا يقول المؤرّخ الفرنسيّ ألكسس دوتوكفيل في سياق رؤيته إلى الصورة التي ظهرت فيها التأسيسات الأوْلى لأميركا. لقد رأى أنّ المهاجرين الذين قَدِموا في حقبِ مختلفة، لاستيطان الأرض التي يتألّف منها اليوم الاتحاد الأميركيّ، كانوا مختلفين عن بعضهم في أكثر من وجه؛ إذ لم يكن غَرَضُهُم واحدًا، كما كانوا يتدبَّرون شؤون حكم أنفسهم وفق مبادىء مختلفة، ومع ذلك كان ثمّة قواسم مشتركة بين هؤلاء الناس جميعًا، كما كانوا يحيون في ظروف مماثلة… ويقدّم دوتوكفيل إضاءةً في غاية الأهمّيّة حين يشير إلى رابط اللغة بوصفه أقوى الروابط التي تجمع بين الناس، وأكثرها دوامًا. هنا الجميع يتكلّمون اللغة نفسها، فقد كانوا أبناء الشعب نفسه، ونظرًا لظروف ولادتهم في بلدٍ طالما عصفت به صراعات الأحزاب، وفي بلدٍ كان على الزُمَرِ المتنازعة فيه أن تضع نفسها على التتالي تحت حماية القوانين، ولكون تربيتهم السياسيّة هي نتاج تمرُّسِهم بتلك المدرسة الشاقّة، فلم يكن مستهجنًا أن يغلِّبوا مفاهيم الحقوق، ومبادىء الحرّيّة الحقيقيّة، أكثر مما كانت تفعل غالبيّة شعوب أوروبّا. وفي حقبة الهجرات الأولى، كانت الحكومة البلديّة، تلك النواة الخصبة للمؤسّسات الحرّة، قد غدت راسخة في العادات الإنكليزيّة، ومعها أُدخِلَتْ العقيدة القائلة بسيادة الشعب، إلى صُلبِ عهد أسرة تيودور (Tudor) المالكة[2].
كان المهاجرون، أو الحجّاج، كما يحلو لهم أن يسمّوا أنفسهم، ينتمون إلى تلك الطائفة الإنكليزيّة، التي لتقشّف مبادئها أطلقت على نفسها اسم الطهرانيّة، ومن المعروف أنّ النزوع الطهرانيّ لم يكن مذهبًا دينيًّا فحسب، بل غالبًا ما كان يتطابق، في عدد من الأوجه، مع النظريّات الديمقراطيّة والجمهوريّة الأشدّ مغالاة، وهذا ما ألَّب على الطهرانيّين حكومة وطنهم، أمّا الذين تأذّت مبادؤهم الصارمة جرّاء السلوك اليوميّ للمجتمع الذي عاشوا في كنفه، فإنّهم راحوا يبحثون عن أرض بربريّة ومعزولة تمامًا عن العالم، حيث يكون متاحًا لهم أن يحيوا فيها كما يشاؤون وأن يعبدوا ربّهم بحرّيّة[3].
معنى الجغرافيا الناشئة
كان الإسبان والبرتغاليّون هم أوّل من استوطنوا القارّة الأميركيّة، وقد حدث ذلك قبل نحو قرن من عبور الإنكليز المحيط الأطلسيّ متوجهين إلى البلاد الجديدة. في نهاية القرن السادس عشر سجَّل ريتشارد هاكليوت في أعماله المعروفة “الرحلات الكبرى، ورحلات واكتشافات الأمّة الإنكليزيّة”، الوضع الصعب الذي مرّ به الاقتصاد البريطانيّ، وحثَّ مواطنيه على الاستثمار في ما وراء البحار، والإفادة من مصدر المواد الأوّليّة الذي من شأنه السماح لهم بالاستغناء عن المواد التي تبيعها إسبانيا بسعر ذهبيّ، زد على ذلك أنّ من شأن إقامة مستوطنات جديدة، أن يمكِّن من تقديم حلّ للمشاكل الاجتماعيّة، ثمّ إنّ إرسال الفئات الأكثر إقلاقًا وشَغَبًا لاستيطان الأراضي المكتسبة حديثًا، كان من شأنه كذلك التخلّص منها بسهولة، مع تشجيع التنمية بتجارة مزدهرة بين أميركا وإنكلترا، ونشر الكلام الطيّب في هذه الأماكن البرّيّة، وقد كان إدخال “البرّيّين” في الدين القيِّم الوحيد من شأنه أن يكسر ممانعتهم أيضًا، أو أن يزوِّد العمليّة بجرعةٍ من الوعي الصحيح[4].
على هذه السَيْريَّة[5] من تشكّل حَيَوَاتِ الساكنين الجدد للأرض الجديدة، أخذ نصابُ الزمن ينبسط أمام الأطروحة الأميركيّة المتنامية، غير أنّ مثلَ هذا النصاب لم يكن ليجري دائمًا على صراط الاستقامة، فقد وقع الساكنون الجدد في حقول الاختبار الصعب منذ المراحل الابتدائيّة لوجودهم في الأرض الموعودة.
كان على المستوطنين أن يمرّوا في تجربة مصالحة مع الأرض التي حلّوا فيها للتّو، ولم يكن أمامهم إلاّ الدخول في ما يشبه العبور البرزخيّ الشاقّ من طور الغربة إلى طور السكينة، ولسوف ينبغي لهم أن ينشئوا زمانًا غير الزمان الذي سبق مجيئهم إلى أرض الميعاد، وأن يعيدوا هندسة المكان على قياس الأحلام التي غالبًا ما تتصوّر الأمكنة على تمام المدن الفاضلة، وهكذا لم يكن ليُفتح بابُ الكلام على أميركا بوصفها “مدينة فوق جبل”، إلّا في سياق جعل الجغرافيا تمثيلًا واقعيًّا للإيمان الدينيّ.
لكنّ الأطروحة الأميركيّة ستواجه، تبعًا لمهمّتها التأسسيّة مشكلة الوصل والفصل بين زمان ومكان انصَرَمَا إلى غير رجعة، وزمان ومكان ينبغي لهما أن يؤلِّفا بداية تاريخ جديد.
لنرَ إذًا، على أيّ أشرعة ستنطلق هذه الأطروحة من أجل تشييد “مدينتها الفاضلة”؟
لم تنجح الثقافة الأميركيّة، حتى في أكثر أطوارها امتلاءً بالعظمة، في التخلّص من عقدة الإحساس بالاستلاب حيال مصدرها الأوروبيّ، لا ينافي هذا الواقع حقيقة كون أميركا مستعمرة تؤسّس استقلالها، وتتحرّك باتجاه إقامة كيان رئيسيّ من تلقاء نفسها، وبحسب مؤرِّخي النشأة الأميركيّة، فإنّ هذه النشأة مرَّت في سلسلة من التغيّرات التي سبقت، من نواح شتّى، تأسيس الاستقلال الثقافيّ لكثير من الأمم الناهضة، وسنرى تبعًا لهذا الإحساس كيف سعى المؤسسون الأوائل إلى تأكيد الأصالة السياسيّة والثقافيّة للإطروحة الأميركيّة.
لقد حاولوا منذ البداية صياغة سياسة خارجيّة واضحة ومتميّزة، وكان ذلك في سياق صراع مع البلد الأّم بريطانيا بقصد إظهار هويّتهم المخصوصة؛ لذا سيعلنون بنبرة عالية أنّ لأميركا فنانّيها، ومفكِّريها، وعلماءَها، وكتَّابها، تمامًا مثلما أنّ لديها زعماءها السياسيّين. ثم إنّ زخم الكلام على الهوية بلغ حدًّا سيحمل كثيرين على التعامل معه بشيء من السخرية؛ إذ إنّه رغم امتلاك أميركا لقادتها السياسيّين والثقافيّين، ورغم العظمة التي ربما ظهروا فيها على المسرح المحلّيّ، فإنّهم بالمنظار الأكبر للتاريخ ظلَّوا مخلوقات صنعتها الثقافة الأوروبيّة، أمّا أصالتهم فمرجعها البعيد، إلى جهودهم في تكييف الأفكار القديمة مع البيئة الجديدة. وعلى ما يبيّن مؤرّخو النشأة الأولى، فقد كانت أميركا نفسها اختراعًا أوروبّيًّا، وعلى الرغم من أنّ تطوّرها كان من إنجازها، إلّا أنّ المواد التي صُنع منها المزيج الجديد هي في الغالب ابتكارات الأجيال السابقة من الأوروبيّين. وإذا كان صحيحًا اشتمال الطهرانيّة، والتنوير، والرومانسيّة الأميركيّة على جوانب أصالة، فالصحيح أيضًا هو أن الأفكار والنظريّات المعنيّة جاءت من مكان آخر[6].
لحظة تكوين الهويّة
لم يكتفِ هذا التحليل التاريخيّ بهذا القدر من إحالة الثقافة الأميركيّة إلى مصدرها الأوّل، وإنّما ذهب بعضهم إلى ما يتعدّى ذلك، فقد رأى أنّ أهمّ حقيقة يمكن جلاؤها في تأسيسات الحضارة الأميركيّة الحديثة، هي أنّها انطلقت من إنكلترا كحركة دينيّة وسياسيّة ثوريّة. وقد برهن اقتران الخلفيّة البريطانيّة بالوسائل السياسيّة والغايات الدينيّة قدرته على الحياة في أرض مقفرة، وبالتالي قدرته في الهيمنة على جغرافية واسعة، وإلى هذه الأصول تنسب الخصائص الجوهريّة للسلوك الاقتصاديّ ومحاولات الإبداع الأميركيّ، ومع أنّ هذه الخصائص غالبًا ما كانت تُجابَه بالتحدّي، فقد أثبتت قدرتها على ابتكار وسائل تعبير بديلة، مكَّنها من إرساء طابع ثقافيّ، تمّ قبوله لدى معظم الاتجاهات على أنّه “طابع ثقافيّ أميركيّ”، حتى في فترات متقدّمة من القرن العشرين[7].
منذ البدايات الأولى للاستيطان الإنكليزيّ فيما وراء البحار، سعى المستوطنون نحو تكوين هويّة خاصّة ومستقلّة عن هويّة الجغرافيا الأمّ، وبحسب المؤرّخين فإنّ الإرهاصات الأولى لولادة الحضارة الأميركيّة بدأت في عهد الملكة إليزابيت الأولى في إنكلترا، وكانت العقود الأخيرة من القرن السادس عشر فترة فوضى دينيّة شديدة في تلك البلاد، وقد أيَّد البروتستانت في منطقة لندن الملكة الجديدة، غير أنّ جيوب الولاء للروم الكاثوليك كانت لا تزال مستمرّة في المناطق الأقلّ كثافة سكّانيًّا من البلاد، وقد وافقت الملكة ومعظم مواطنيها على أنّ دِينَ الملك يجب أن يكون دين الدولة، ولكن أحدًا لم يعرف على وجه التحديد الحدّ الذي يمكن أن يذهب إليه بعض المواطنين في معارضة الملك الذي يعتنقون مذهبه، ولم تكن إليزابيت نفسها مهتمّة كثيرًا باللاَّهوت، وكانت ترغب – فوق كلّ شىء – بالاحتفاظ بالعرش، فيما كرّست فنون الحكم لصالح النقاء المذهبيّ، وكانت على استعداد للتساهل إزاء قدر معيّن من المعارضة، طالما كان ذلك من شأنه أن يبدّد الحماس الثوريّ. ويبدو أنّ الملكة كانت تعلم بحدسها أنّ الشعب البريطانيّ لا يعتبر تقليديًّا – شعبًا مذهبيًّا-، وأنّه إذا تُرك لشأنه، فلن يؤيّد في العادة، تحدّيًا قويًّا يوجّه إلى السلطة الشرعيّة، وفيما يتعلّق بالاستيطان الأميركيّ المستقبليّ، فإنّ نقَّاد الملكة من الجناح اليساريّ كانوا الأكثر أهمّيّة، فهؤلاء هم الذين اقتنعوا بأنّ حركة الإصلاح الدينيّ لم تذهب إلى مدى كافٍ. وهم أيضًا الذين اعتبروا أنّ تساهل إليزابيت يشكِّل تلاعبًا خطيرًا في خطّة الله على الأرض، وكانوا يعثرون في كلّ مكان على بقايا الكاثوليكيّة الروحيّة، ويبدون رغبتهم في تطهير الأمّة من تعاليم الكنيسة ونفوذها الشعائريّ والسياسيّ. وبسبب من هذه الرغبة في إجراء المزيد من تطهير الكنيسة، وُصِفَ هؤلاء الراديكاليّون بأنّهم “بيوريتانيّون”، أي “طهرانيّون”، وهؤلاء لم يكونوا مجموعة خارجة تمامًا عن نطاق الشرعيّة، فقد بقي بعضهم قريبًا من العرش، وتمتَّع آخرون بنفوذ في الحكومة وفي دوائر الطبقة الاجتماعيّة العليا؛ ولأنّهم كانوا يمارسون قَدْرًا من الحنكة، فقد كان بإمكانهم التكلّم والتصرّف كما يشاؤون إلى حدّ بعيد، وربما كان الواحد منهم يخسر موقعًا في الجامعة، أو منبرًا مؤاتيًا لإعلان انشقاقه، ولكن أحكام السجن أو الإعدام كانت نادرة، ولا تلجأ السلطة إليها إلّا إزاء المتحمّسين المستعدّين لتحويل أنفسهم إلى شهداء. كان الطهرانيّون يحملون في داخلهم جرعة زائدة من الاحتجاج على سلوك الملكة المركّب من السياسة والدين، لكنّهم سيعبِّرون عن احتجاجهم شيئًا فشيئًا من خلال التحوّل إلى كتلة أيديولوجيّة لها رؤاها واستراتيجيّاتها في النظر إلى الدين والمجتمع والدولة. كانت جامعة كامبردج مركزًا للمشاعر الطهرانيّة في حوالي العام 1650، حيث دأب المحاضرون على القول في مواعظ المناسبات إنّ الله كان دقيقًا في الكتاب المقدّس حول ما يجب أن تكون عليه الحكومة والكنيسة، فلم يُرِد الله حكومة كتلك الموجودة في إنكلترا التي يحكم الملك فيها من خلال أساقفة تمّ تعيينهم، فقد أراد الله بنيةً كنسيّةً مشيخيًة تقوم على أساس أن تنتخب كلّ مجموعة مستقلة قساوستها، ثم ينتخب هؤلاء القساوسة بدورهم زعماء للكنيسة ككلّ. وبعد ذلك يستطيع هؤلاء الزعماء أن يقرّروا أسس العقيدة الكهنوتيّة، ويؤمِّنوا للكنيسة برمّتها وحدة تنظيميّة. ومثل هذا الترتيب سيؤدّي بالطبع إلى التخلّص من الأساقفة المعيّنين من جانب الملكة، والتخلّص بالتالي من سلطانها على شؤون الكنيسة، وبالنظر إلى الدور المركزيّ المحتمل لتلك الكنائس في الحياة اليوميّة للناس، فإن النموذج المشيخيّ من الحكم الكنسيّ سيوفّر أيضًا نوعًا من الفيتو المحلّيّ على إجراءات الحكومة المركزيّة[8]. مع ذلك فإنّ الأمور لم تتوقّف عند هذا الحدّ، فسيكون للاتجاه اللاَّهوتيّ الناشىء دوره الفاعل في إحداث نقلات فعليّة في الزمنين السياسيّ والاجتماعيّ؛ لذا لم تبقَ الطهرانيّة في إنكلترا مجرّد مشاعر، فقد راحت تُظهر احتجاجها الدينيّ والسياسيّ على نظام الملكة بوسائط أخرى؛ إذ من قبل أن تنتقل إلى الأراضي الجديدة في أميركا شقَّت الطهرانيّة سبيلها نحو التبلور كهويّة حضاريّة. جرى ذلك على الرغم مما واجهه الوعَّاظ الذين طالبوا بمثل هذه التغيّرات، فقد عانوا ما يكفي من الاضطهاد، إلى الحدّ الذي جعلهم يحسّون بمشاعر الشهادة، من دون أن تكون هناك ضرورة لسجنهم أو نفيهم أو إعدامهم. لقد ازدهرت الطهرانيّة سرًا، وولَّدت في بعض الأحيان أفكارًا فريدة لم يعد أحد قادرًا معها على ممارسة السلطة الكهنوتيّة، كما أنّ أحدًا لم يكن يتولّى مسؤوليّة مؤسّسة قائمة بالفعل؛ لذا سيؤدّي ذلك إلى نموّ أفكار ذات طبيعة انشقاقيّة؛ ولأنّ الكتاب المقدّس برأي الطهرانيّين غير دقيق ورمزيّ، فقد أثبت القراء غير المتعلّمين قدرتهم على قراءته بأساليب متنوّعة ومثيرة للدهشة، ولم يكن الزعيم القادر على سحر الجمهور محتاجًا إلى أكثر من إعلان اختلافه مع عقيدة تقليديّة، والعثور على بضعة أتباع، لتنشأ على يديه حركة هرطقة جديدة، وكانت الفئة الرئيسة من “الطهرانيّين”، وهي الأكثر أهمّيّة بالنسبة للحضارة الأميركيّة، غير راغبة في هجران الكنيسة التقليديّة، وهؤلاء هم أنفسهم من سُمُّوا بـ “اللاّإنفصاليّين”، وإلى يسار ذلك كانت هناك مجموعة من “الإنفصاليّين” الذين صرّحوا برغبتهم في هجران الكنيسة وإنشاء تجمّعهم الخاصّ والمستقلّ، وقد رغب الانفصاليّون الذين كانوا يُعرفون أيضًا بـ “المستقلّين” في تحديد الانتماء إلى عضويّة الكنيسة بشكل أكثر حزمًا، بحيث يقتصر على أولئك القدّيسين الذين حقّقوا تحوّلًا أصيلًا في مجال اعتناقهم للمذهب الجديد، لقد أرادوا كذلك أن تتمتّع كنائسهم المحلّيّة بأكبر قدر من الاستقلاليّة عن المشيخات الكنسيّة أو عن أيّ قيود أخرى، لتحقيق أقصى ما يمكن من الاستقلال الذاتيّ المحلّيّ، ولو اتّجهنا أكثر نحو اليسار، سوف نجد مجموعات من الراديكاليّين، كلّ لها زعيمها ومذهبها. وكانت مستعمرة ويليام برادفورد في بلايموث واحدة من أشدّ تلك المجموعات، وأثبت بعضها، كمجموعة المعمدانيّين في رود آيلاند، والصاحبيّين (الكويكرز) في بنسلفانيا، أنّها أكثر أهمّيّة بكثير في أميركا مما كان يمكن لها أن تكون في إنكلترا، وقد أمكن من خلال هذه النزاعات الدينيّة تسجيل أسبقيّات مهمّة للمنجزات الأميركيّة الإبداعيّة في مجالات الفنون. كانت “الخطبة الدينية” هي أوّل وأهم شكل من أشكال الفنّ في المستعمرات، وهكذا نأى فنّ الوعظ بنفسه عن أذواق المسيحيّ العاديّ في إنكلترا. وأتقن بضعة وعّاظ إنغليكانيّين أمثال لانسلوت، آندروز، وجون دون، أسلوب بلاغة منمّقًا، ومتأنّقًا، ومليئًا بالتشبيه، والظرافة، والاستعارات اللفظيّة، وكانوا يتكلّمون حول سلطة الكنيسة أو التاج، أو يعيدون سرد قصّة المسيحيّة، على أنّ أيّ دارس حديث، سوف يبقى متأثّرًا بعمق أدائهم المعرفيّ، أمّا بالنسبة لعضو عاديّ، وغير متعلّم في الكنيسة، فإنّ مثل هذا الأداء كان بلا معنى؛ ولهذا دأب “الطهرانيّون” على المطالبة بعودة الوعّاظ إلى أسلوب يستطيع الجمهور العريض فهمه[9].
التأسيس الطهرانيّ لأميركا
بعد قليل من الوقت، سوف يبدو بوضوح أنّ التأسيس الدينيّ لأميركا أخذ من جانب الطهرانيّة طريق التبشير، حتى لقد ظهرت الصورة كما لو أنّ الوعّاظ يقومون بترسيخ ديانة جديدة، كان عليهم أن يبتكروا أساليب تجعل من مهمّتهم المقبلة قضيّة رساليّة مركّبة امتزجت فيها الهويّة مع العقيدة ثمّ مع المصلحة.
لكن سَيْريّات التأسيس الدينيّ للأطروحة الأميركيّة لم تنفصل عن مقدّماتها الإنكليزيّة وظهوراتها في البلاد الجديدة. كان ثمّة وصلٌ وطيد بين المقدّمة والظهور، على الرغم من الرغبة الجامحة بالانفكاك من جانب نخبة المهاجرين الأوائل والسعي لتشييد المكان الخاصّ بهم. ولكي نستطيع بيان جدلية الوصل والانفكاك هذه، من المفيد إلقاء الضوء على الطهرانيّة بنموذجيها الإنكليزيّ والأميركيّ:
أوّلًا: الطهرانيّة الإنكليزيّة
لقد جرى التعبير عن “الأفكار الرئيسة” فيما يتعلّق ببزوغ الأمّة الأميركيّة ليس فقط من خلال التماهي مع الشعب العبرانيّ، بل أيضًا من خلال الطهرانيّة الإنكليزيّة، ومن أجل فهم هذه العمليّة تذكر الباحثة الفرنسيّة والأستاذة في جامعة باريس الرابعة (السوربون) نيكول غيتان بعض الوقائع حول أصولها، منها أنّ تربُّع الملكة إليزابيت الأولى على العرش عام 1558، خلفًا للملكة الكاثوليكيّة ماري تيودور، أعاد إحياء الأمل لدى الكالفينييّن [نسبة إلى اللّاهوتي البروتستانتيّ الكبير كالفن ] الذين كانوا يطمحون إلى إنكلترا بروتستانتيّة، ولم يكن نشر “قانون التوحيد” (عام 1559) الذي يعطي الملكة السلطة الكنسيّة العليا، دون البابا، إلّا لإرضاء طموحهم هذا. وعلى العكس، فإّن النشرة التي أُعيد النظر فيها “بكتاب الصلاة” (برييربووك) المستوحى من الإصلاح، والذي كان في الأصل قد نُشر في عهد هنري الثامن شكّل سببًا في إقلاقهم؛ ذلك لأنّ طقوسًا كاثوليكيّة ما تزال حيّة فيه، مثل تبادل الخواتم خلال مراسم الزواج، والاحتفال بالقدّيسين، أو ارتداء حلّة القدّاس في أثناء المراسم الدينيّة، بالإضافة إلى إلغاء الصلاة من أجل الخلاص جرّاء ظلم أسقف روما (البابا). إنّ كلّ هذه التفاصيل انطوت على أهمّيّة كبيرة، حيث بدأ الأساقفة المحيطون بالملكة بالعصيان، ولمَّا صار أنّ أحدهم في وضع أكثر نضجًا، مثل جون كنوكس، عمد إلى كتابة رسالة هجاء بعنوان: “الصوت الأوّل في بوق يوم الدينونة ضدّ فوج النساء الفظيع”. وفي عام 1564 أرادت الملكة أن تضع حدًّا للجدل، فانفجرت الأزمة؛ ورحنا نشهد تكوّن حزب طهرانيّ أخذ يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى قوّة سياسيّة ودينيّة. لقد أرادت الملكة أن تستفزّ العاصين لكي تدفعهم إلى وعي مدى محدوديّة فكرهم. ولكن هؤلاء فضَّلوا التراجع، على الإقرار بهزيمتهم وصرّحوا يومئذٍ: “إذا أراد الأمير أن يأخذ القرار ويأمرنا بما لم يأمرنا به الله.. فعلينا إذًا، أن نرفض القيام بما يفرضه الأمير”[10].
سوف تمضي الحركة الطهرانيّة الإنكليزيّة مسافات إضافيّة باتجاه التبلور الذاتيّ، دون أن تكفّ عن مواجهة النظام الملكيّ، وعلى هذا النحو سنرى كيف تطوّرت الأمور تحت حكم جاك الأوّل (1603- 1625)، حيث تعدّدت متطلّبات الطهرانيّة، وأدّت إلى نزاعات مضاعفة. كانت مطالبهم الأساسيّة تهدف إلى إلغاء “كتاب الصلاة” والتراتبيّة الكهنوتيّة. وقد أخذوا على “الإصلاح” الإنغليكانيّ كونه يبتعد كثيرًا عن الروحيّة الكالفينيّة؛ ذلك لأنّهم كانوا يرون إليه أنّه إصلاح غير متشدِّد بشكل كافٍ، وهكذا حصل انقسام بين المؤمنين الذين انشقّوا إلى مجموعتين؛ البروتستانت (التقليديّون) والطهرانيّون، ثمّ تفاقمت الأمور عندما أيّد الملك جاك الأوّل البروتستانتيّين الذين كانوا يرغبون في الحفاظ على ممارسة النشاطات الرياضيّة يوم الأحد، بينما اعترض الطهرانيّون الذين كان يدعمهم البرلمان، على ذلك بشكل قاطع، وبنتيجة احتدام السجال نشر الملك وثيقة، تلك التي سميت بـ “كتاب الرياضة”، وأكّد فيها على قناعاته وسلطته، مستثيرًا بهذا ردّ الشاعر والمناظر الإنكليزيّ الكبير ميلتون (1608- 1674) الذي اتّهم الأساقفة “بنزع الناس من أفكارهم الأكثر جدّيّة والأكثر تقشّفًا، ثم الإلقاء بهم في دوّامة الألعاب والسكر والرقصات المختلطة”، إلا أنّ الطهرانيّين لم ييأسوا، وكتبوا عريضة جمعت تواقيع ألف وزير من وزراء العبادة تطالب ببعض الحقوق، وبالأخص بحُرِّيّة تفضيل العِظات على حساب الأناشيد والموسيقى، لكن السجال بين النظام الملكيّ والتيّار الطهرانيّ سيسلك مسارات متعرِّجة من البردوة والاحتدام؛ وذلك بسبب التعقيدات التي واجهت الحلول والتسويات بين الطرفين.
لقد نظَّم الملك مؤتمر هابتون كورت في 14 كانون الثاني/يناير عام 1406 من أجل تنسيق وتنظيم الاختلافات في وجهات النظر، ولمَّا لم يتوصّل إلى ذلك، رفض الرضوخ لمطالب الطهرانيّين، أمّا ما يتعلّق بالتراتبيّة الكنسيّة، فقد ظلّت عبارة الملك “لا مطران، لا ملك، لا نبيل” محفورة في الذاكرة، أي أنّه لإلغاء ولاية الأسقف كان لا بدّ من إلغاء الملكيّة وطبقة النبلاء، وبعد فترة طويلة من الهدوء، عاد الجدل ليشتعل من جديد عندما برزت مسألة زواج الأمير تشارلز، الابن الثاني للملك جاك الأوّل من أميرة أسبانيّة كاثوليكيّة، فكانت ردّة فعل البرلمان أن دوّن عريضة رماها الملك في أثناء جلسة رسميّة ممزّقًا الصفحة التي كُتبت عليها، ثم منع الملك طبع الكتب الدينيّة واستيرادها، لتأخذ الأزمة شكل معركة أيديولوجيّة، وبعد زواج تشارلز الأوّل الذي لم يقترن بأميرته الإسبانيّة، بل بشقيقة الملك لويس الثالث عشر هنرييت ماري، كثَّف الطهرانيّون من نضالهم، ومنذ تربّع الملك الشاب على العرش عام 1625 اعتمد سياسة قمعيّة، حين لم يتمكّن من الاتفاق مع البرلمان أقدم على حلّه عام 1629، واتّخذ مطران كانتربيري وليام لود مستشارًا له، فقد لجأ هذا الأخير إلى إجراءات تعسّفيّة ضدّ الطهرانيّين المناهضين له. وبالفعل فقد تعرّض هؤلاء لاضطهادات شتّى، إلى درجة أن قُطِّعت آذان معظمهم، أو تمّ نفيهم، فقامت صدامات بين الطهرانيّين وبين مؤيّدي الملك، وأدّت إلى حرب أهليّة أُسِرَ خلالها الملك، وجرى إعدامه عام 1649 ومستشاره لود، ثم ألغى الجنرال الطهرانيّ المنتصر كرومويل الملكيّة، وأعلن الجمهوريّة ليؤسِّس الطهرانيّون بعدئذٍ الكنيسة الجديدة في إنكلترا، القائمة على تعاليم اللَّاهوتي جون كالفن[11].
ثانيًا: الطهرانيّة الأميركيّة
قرّر الطهرانيّون في مراحل القمع الأكثر قسوة أن يهاجروا إلى أميركا، ولكن على أرض العالم الجديد تغيّر وجه الطهرانيّة، وحيث لم تكن هذه الأخيرة بالنسبة للناقد الأدبيّ مِنكِن في الثلاثينيّات، سوى الخوف المسيطر، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لبيري ميلر الخبير في الشؤون الدينيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة الذي أعلن: “إذا لم نوافق أبدًا على الطهرانيّة لا يمكن أن نفهم أميركا”[12].
يعتقد ميلر أنّ الطهرانيّة هي نوع من الفلسفة، أو هي نوعٌ من قانون للقيم أُدخل إلى “إنكلترا” الجديدة من جانب المستوطنين الأوائل في بداية القرن السابع عشر، وبعد ذلك أصبحت أحد العناصر الدائمة في الحياة والفكر الأميركيّين، في حين يعتبر أنّ تأثيرها على المجتمع كان راجحًا؛ حيث امتدّ إلى ما بعد المرحلة الاستيطانيّة، مضيفًا أنّها في كلّ الميادين الناشطة دمغت الحضارة الأميركيّة بلونها الخاصّ، تحديدًا في تطلّعاتها الأكثر عمقًا، ومهما يكن من أمر، فلكي نفهم كيف تطوّرت الطهرانيّة الإنكليزيّة لتأخذ شخصيّتها الأميركيّة، وَجَبَت معرفة أنّ نمطي التفكير هذين ينتميان إلى الأصل البروتستانتيّ نفسه، وأنّ الطهرانيّين الإنكليز والأميركيّين كانوا يتّفقون على عدد كبير من المواضيع، في الأساس كانت حركاتهم تضمّ أشخاصًا مثقّفين قاموا بدراسات جامعيّة، ويعارضون بشدّة ما كانوا يدعون “بالرؤيا المباشرة”، التي تعني كلّ أشكال التواصل المباشر مع الله، وأنّ إرادة الله لا تتجلّى إلّا في عنايته، ومن هنا ظهر شعار قرن الوفرة الشهير.
وأيًّا تكن عوامل الجمع، والالتقاء، فضلًا عن المرجعيّة المشتركة بينهما، فإنّ أحداثًا وتطورات أدّت إلى توتير علاقات الطهرانيّين الإنكليز والأميركيّين، من بينها قضيّة هوتشنسن التي أثارت ضجّة كبيرة في المرحلة الاستيطانيّة. وفي ما يُروى حول هذه الحادثة، أنّ هتشنسون وصلت مع زوجها قادمة من إنكلترا إلى ماساشوستس عام 1634. ومنذ اللحظة التي استقرت فيها داخل الطائفة الطهرانيّة المحلّيّة، راحت تعارض الحاكم جون وينثروب، لقد دافعت هذه المتمرّدة عن فكرة أنّ وجود علاقة “انصهاريّة” مع المسيح هي فكرة ممكنة جدًّا، الأمر الذي اعتُبر نوعًا من الإهانة التي وجِّهت إلى الفكر الطهرانيّ الذي لم يسَعْهُ القبول بتصوّر من هذا النوع في العقيدة المسيحيّة. لقد حوكمت هوتشنسن وأُدينت، وتمّ إبعادها مما اضطرها للإقامة في رودآيسلند، وهي مأوى الذين لم يكن باستطاعتهم القبول بالتشدّد الطهرانيّ[13].
ثم وقع حدث آخر يتعلّق بروحيّة ويليامز، وهو الشخصيّة المعروفة في العالم الطهرانيّ، والذي لعب دورًا كبيرًا في إنكلترا كما في أميركا. بعد أن تلقّى ويليامز دروسه في جامعة كمبريدج اختار الدخول في الرهبانيّة الإنغليكانيّة، ثم وجد نفسه يتماهى شيئًا فشيئًا مع الروح الطهرانيّة، عندها هاجر إلى أميركا، إلّا أنّه حين وصل إلى بوسطن رفض أن ينتمي إلى الرهبانيّة، مدافعًا عن فكرة أنّ السلطة القضائيّة يجب أن تتميّز عن السلطة الدينيّة. فضلًا عن ذلك، فقد اهتمّ بمصير الهنود وثار في وجه نزع ملكيّاتهم، حتى أدّت به مطالبه هذه إلى النفي عام 1635، تمامًا كما حصل مع آن هتشنسون، فبعد أن استقبله الهنود، لجأ إلى رود آيلند حيث أسّس ما أسماه مدينة “العناية الإلهيّة”، وأنشأ فيها ديانة جديدة هي “المعمدانيّة”، إلّا أنّه تخلى عنها في نهاية حياته، معلنًا أنّ أيّ كنيسة مكونّة لا تتمتّع بأيّ شرعيّة.
إلى ذلك تضاف قضيّة جدّ مهمّة في هذا المجال، هي قضية ساحرات “سالم” المعروفة من الجميع، والتي كان لها وقع كبير في نهاية القرن السابع عشر، لا سيّما وأنّها تلقي الضوء على الطابع القسريّ للعقليّة الطهراويّة في إنكلترا الجديدة، لقد انتظم الطهرانيّون الأميركيّون الأوائل المخلصون لمعتقدهم في طوائف دينيّة، على رأسها قسّيس لم يكن يتبع لأيّ سلطة أسقفيّة، والكنيسة التي هي مركز الحياة السياسيّة والاجتماعيّة كانت تجمع أعضاء يتمتّعون بحقوق المواطن، وأمّا الدخول في الطائفة، فقد كان يستتبع مراسم كاملة قوامها بنوع خاصّ، الاعتراف العلنيّ والانتخاب من قبل “أبرار” الرهبانيّة. في هذه المرحلة التي كان الدين والسياسة مترابطين بصورة مبهمة، أخذت الطهرانيّة تستخدم القضاة في الغالب لإدانة من تعتبرُهم مهرطقين، ولكن مع مرور الزمن خفَّفت الفضائح، والانشقاقات، ووصول مهاجرين جدد، من التشدّد الدينيّ، والأخلاقيّ، للطهرانيّة الأميركيّة، وفي نهاية القرن التاسع عشر جرى التخلّي عن النظام الثيوقراطيّ ليظهر التسامح الدينيّ شيئًا فشيئًا.
يوضح ما جرى، أنّه عندما اختار الكونغرس في 11 كانون الأوّل/ديسمبر عام 1783 للاحتفال بمعاهدة السلام مع بريطانيا، تعجّب المحترم جون رودجر في نيويورك عندما قال: “إنّ العناية الإلهيّة حقّقت شيئًا كبيرًا لعنصرنا. فباحتفالنا بالثورة اليوم قدّمت لنا ملجأً لكلّ الأمم المضطهدة في الأرض”.
وأمّا جملة وينثروب “إنّ العالم كلّه يتطلّع إلينا”، فقد استُخدمت تكرارًا لتؤكّد على مسؤوليّة الأميركيّين تجاه العالم. في حين كانت هذه العبارات الشهيرة تذكّر بدور أميركا بصفتها نموذجًا لكلّ الأمم؛ ذلك أنّه في تلك الحقبة كان ثمّة كثيرون يؤمنون بأنّ مثال أميركا سيكون معديًا، وأنّ الأمم ستنتهي إلى تقليده[14].
ثقافة الحرب الأهليّة
في عام 1642، كانت إنجلترا قد أنهكتها حرب أهليّة، هي نفسها الحرب التي أدّت إلى إعدام الملك تشارلز الأوّل في عام 1649، وإلى تأسيس جمهوريّة بزعامة البرلمانيّ المتطهّر أوليفر كرومويل، وعندما أعيدت الملكيّة إلى إنجلترا عام 1660 كان البرلمان قد ضيَّق سلطتها، فالمؤسّسات الديمقراطيّة التي كانت تنهض في الغرب ثمنها الآلام والدماء. أمّا الثورة الفرنسيّة فكانت أكثر كارثيّة؛ حيث تلاها عهد رعب وديكتاتوريّة عسكريّة قبل أن يتمكّن نابليون من إحلال النظام، والمعلوم أن تركة الثورة الفرنسيّة للعالم الحديث ذات وجهين: لقد نمّت من وجه، المثل العليا المتسامحة حيال الحرّيّة، والمساواة، والأخوّة، لكنّها تركت من وجه ثانٍ، ذكرى رعب دولة شريرة، وهذه الذكرى كانت مؤثّرة كذلك.
على مدار حرب السنوات السبع في المستعمرات الأميركيّة (1756- 1763) تنازعت بريطانيا وفرنسا على الممتلكات الاستعماريّة، وتصاعدت أوزار هذه الحرب على طول الساحل الشرقيّ الأميركيّ، الأمر الذي أدّى إلى حرب الاستقلال (1775- 1783) وإلى تأسيس أوّل جمهوريّة علمانيّة في العالم الحديث. صحيح أنّه كان يولد في الغرب نظام اجتماعيّ أكثر عدالة وتسامحًا، لكن ذلك لم يتحقّق إلّا بعد انقضاء قرنين من العنف.
لم تكن الثقافة الدينيّة بمنأى عن هذه التطوّرات، وسيبدو ذلك بوضوح من خلال معاينة إجماليّة للمشهد، فقد ظهر أنّ الناس في حالات الاضطراب والفوضى يلجأون إلى الدين، لكن بعضهم سيجد أنّ أشكال الإيمان القديمة لم تعد تجدي في الظروف الجديدة. أمّا حركات المعارضة، فقد سعت إلى قطيعة مع الماضي، فوصلت – بشكل غير متناسق – إلى شيء ما جديد. ففي إنجلترا القرن السابع عشر – أي بعد الحرب الأهليّة، بشَّر كلّ من جاكوب باوثملي Bauthumely، ولورانس كلاركسون Clarkson (1615- 1667) بإلحاديّة ناشئة. لقد جادل باوثملي في كتابه “جوانب الله المضيئة والمظلمة” 1650، ورأى “أنّ الله كان مجسّدًا في البشر بدلًا من يسوع، وأنّ الإلهيّ موجود في جميع الأشياء حتى في الخطيئة”. أمّا في كتاب “العين الواحدة” الذي كتبه كلاركسون، فقد كانت الخطيئة مجرّد نزوة بشريّة، والشرّ إلهام من الله، لكن أبتسر كوب Abiezer Coppe (1619- 1672)، وهو معمدانيّ راديكاليّ، فقد خرق جهارًا المحرّمات الجنسيّة واللعنة، لقد اعتقد أنّ المسيح الزائف The Mighty Leveller، سوف يعود ويزيل هذا النظام المنافق المتعفّن الحالي عن بكرة أبيه، وفي الوقت ذاته كانت هناك نزعة مناقضة في المستعمرات الأميركيّة. من أبرز أصحابها جون كوتون Cotton (1585- 1652)، وهو واعظ بيوريتانيّ معروف حطَّ رحاله في ماساتشوستس في عام 1635، وكان يرى أنّ أعمال الخير لا ثواب لها، وأنّ الحياة الفاضلة لا جدوى منها، وأنّ باستطاعة الله أن يُنقذنا من دون هذه القواعد التي وضعها الإنسان، أمّا تلميذته التي سبق وأتينا على ذكرها، آني هتشنسون Hutchinson (1590- 1643)، فقد زعمت أنّها تلقّت إيحاءات شخصيّة من الله، وشعرت أنْ لا حاجة لقراءة الإنجيل، أو القيام بأعمال الخير، ربما كان هؤلاء المتمرّدون يحاولون التعبير عن إحساسهم الحديث التكوّن، وأنّ القيود القديمة ما عادَت تنطبق على العالم الجديد، فالحياة كانت تتغيّر بعمق كبير؛ إذ في مرحلة التجديد المستمر، لم يكن ثمّة مفرّ من أن يسعى البعض إلى وضعيّة استقلاليّة وإلى ضربٍ من تجديد أخلاقيّ ودينيّ[15].
في الآن نفسه، وبالتزامن مع هذا الحراك، حاول آخرون التعبير عن المثل العليا للعصر الجديد بطريقة دينيّة، وبرز إلى الساحة جورج فوكس (1624- 1691)، وهو مؤسّس “جمعيّة الأصدقاء” ليطلق حركة تنوير غير مماثلة للتنويريّة التي تحدّث عنها بإفاضة الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط لاحقًا، هذه الحركة هي نفسها ما أطلق على أتباعها “الكواكرز”، أو “الصاحبيّون”[16]، وكان لها حضور مؤثّر في الحركة المتمادية للإصلاح الدينيّ البروتستانتيّ.
كان على أنصار حركه الكواكرز Quakers أن يبحثوا عن نور داخل قلوبهم، وقد علمهم فوكس “الاستفادة من فهمهم الخاصّ دون إرشاد من أيّ شخص آخر”. اعتقد فوكس أنّ الدين – في عصر العلم يجب أن يكون “تجريبيًّا”، ومتنوّعًا، من خلال تجربة شخصيّة، ومن دون مؤسّسة سلطويّة. “جمعيّة الأصدقاء” هذه تبنَّت ورعت المَثَل الأعلى الديمقراطيّ الجديد، كلّ البشر عندها متساوون، ويجب ألّا يخلعوا قبّعاتهم احترامًا لأيّ إنسان من غير المتعلّمين من الرجال والنساء، كما يجب ألّا يكترثوا لرجال الدين الحائزين على شهادات جامعيّة، لكن ينبغي عليهم، في المقابل، أن يكوِّنوا آراءهم الخاصّة بهم. لعلّ من أبرز الرموز الناشطة في تلك الحركة كما يذكر المؤرّخون هو جون ويزلي Wesley (1703- 1793)، وهو الذي حاول تطبيق الطريقة والنظام العلميّ على الروحانيّة، أمّا أتباعه “الطرائقيون”، فقد اتّبعوا نظامًا صارمًا في الصلاة، وقراءة الإنجيل، والصوم، وحبّ الناس. لقد رحّب ويزلي- مثلما فعل كانط – بفصل الإيمان عن العقل، وأعلن أنّ الدين ليس معتَقَدًا في الرأس، بل هو نورٌ مقذوفٌ في القلب. وقد سادت مناخات ثقافيّة عارمة في مراحل التأسيس، مؤدَّاها أنّ البنية العقلانيّة والتاريخيّة في المسيحيّة قد أصبحت معوِّقة ومعرقِلة في الأزمنة الحديثة: هذا الأمر سوف يدفع الرجال والنساء دفعًا إلى إعادة النظر بممارستهم الدينيّة، وذلك بإجبارهم “على النظر داخل أنفسهم، والاهتمام بالنور الساطع في قلوبهم”. ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ طبعًا، فقد أدّت هذه التحوّلات إلى مزيد من الاضطرابات في الإيمان الرسميّ المسيحيّ، وبذلك انقسم المسيحيّون إلى أكثر من خط، فقد اتّبع بعضهم المتفلسفينَ، وجرَّب آخرون نزعة صوفيّة مبسَّطة، بينما مضى بعضهم يعقلنون إيمانهم، بينما تخلّى كثيرون عن العقل كلّه، وقد شكل هذا تطوّرًا مقلقًا وبارزًا في المستعمرات الأميركيّة، ولعل من آثاره البارزة، نشوء النزعة الأصوليّة في الولايات المتّحدة في نهاية القرن التاسع عشر، ومنها أنّ معظمِ المستعمِرين – عدا بيوريتانيّو إنجلترا الجديدة – باتوا غير مكترثين بالدين. وبحلول نهاية القرن السابع عشر بَدَت المستعمرات وكأنّها “معَلْمَنة” تمامًا، لكن ما أن حلّت بداية القرن الثامن عشر حتى استيقظت طائفة “دِنومينيشن” البروتستانتيّة، فأصبحت المسيحيّة أكثر رسميّة في العالم الجديد، مما كانت عليه في العالم القديم، حتى الطوائف المنشقّة مثل “الكواكرز”، و”المعمدانيين” و”برسبيتريانز” التي رفضت أصلًا سلطة رجال الدين، وشدّدت على الحقّ في اتّباع مساراتها الخاصّة، عقدت اجتماعات في فيلادلفيا، وأبقت عينها مفتوحة على التجمّعات المحلّيّة، وأشرفت على رجال الدين، وقدّرت الواعظين، وأبدت اشمئزازها من الهرطقة، ونتيجة لهذه المركزيّة ازدهرت هذه الطوائف الثلاث، على قاعدة مركزيّة حداثيّة لكن غريبة، فازداد أتباعها بشكل متسارع جدًّا، وفي الوقت ذاته تأسّست الكنيسة الأنغليكانيّة في ميرلاند، وابتنت كنائس جميلة أحدثت تغيّرًا في سماء نيويورك وبوسطن وتشارلستون. وبينما كان هناك انتقال إلى الضبط أو “المركَزَة”، كان ثمّة ردّ فعل حماسيّ على هذا “القيد المُعَقْلَنْ” أيضًا. لقد رأى الدين المحافظ – دائمًا – الميثولوجيا والعقل مكمّلين لبعضهما، وأنّ كلًّا منهما سيكون الأسوأ من دون الآخر، كانت هذه هي الحالة في المسائل الدينيّة، حيث سُمح للعقل أن يلعب دورًا مهمًّا، ولو كان دورًا مساعدًا. لكن الميل الجديد نحو تحييد العقل، أو طرحه في بعض الحركات البروتستانتيّة الجديدة (بالإمكان إرجاع هذا التأثير إلى لوثر) أدّى إلى ضربٍ من لاعقلانيّة مزعجة[17].
من هم الكواكرز أو “الصاحبيّون”؟
لقد سُمّي “الكواكرز” بهذا الاسم لأنّهم كانوا في بدايتهم يعبّرون عن فرحهم الدينيّ بحماسة شديدة لدرجة أنّهم كانوا – في أغلب الأحيان – يرتعشون، يعوُوُن Howl، ويزعقون، ويجعلون الكلاب تنبح – كما قال أحد المراقبين- والماشية تجري مذعورة، والخنازير تصرخ، كما يصفهم المؤرّخون، أمّا الكالفينيّون الراديكاليّون الذين عارضوا ما اعتبروه “الديانة البابويّة”، والكنيسة الأنغليكانيّة، فكانت لديهم روحانيّة متطرّفة صاخبة، لكن ولاءاتهم الدينيّة “المولودة ثانية” كانت تعكس اطمئنانًا في أغلب الأحيان. وقد تعرَّض كثيرون لألم الشعور بالذنب والخوف، لقد كانوا رأسماليّين صالحين، وعلماء فاضلين، لكن تأثيرات النعمة Grace كانت تتلاشى، حيث عانى البيوريتانيّون (الطهرانيّون) من انتكاسة مَرَضِيَّة، فكانوا يسقطون في حالات إحباط مزمن، وفي أحيان معيّنة كانوا ينتحرون[18].
كان الصاحبيّون (QUAKERS) في الأساس مجموعة دينيّة متطرّفة منشقُّة، تعود جذورها إلى القرن السادس عشر، وما زال الجدل يحتدم حول طبيعة الأيّام الأولى لنشوء هذه الطائفة، لكنّ المعلومات التاريخيّة تُرَجِّح ظهورها بشكلها المعروف والحقيقيّ في شخص جورج فوكس في الأربعينات من القرن السابع عشر، ثمّ تطوّرت خلف قيادة ويليام بن في الستينات من ذلك القرن وما بعد ذلك، وكانت الطهرانيّة ذات تأثير قويّ على التجربة الفرديّة لقلب الإنسان، وهي تشقّ طريقها نحو السموّ. كان الصاحبيُّون هم المجموعة التي حملت هذا الاتجاه إلى ذروته، وخلال انتفاضتهم على كلّ ما هو بابويّ (كاثوليكيّ)، مثل الرداء الكهنوتيّ، والفنون، والاحتفالات، والمواعظ المُحْكَمة، والموسيقى، ركَّزوا على مبدأين لهما صلة ببعضهما؛ لقد فصلوا بشدّة بين الإنسان السلبيّ تمامًا، وبين الله صاحب القدرة الكلّيَّة الحقَّة. وطبقًا للنمط الكالفينيّ، ركَّز الصاحبيّون على الهوّة الشاسعة بين الإنسان والله، وأنكروا فائدة المواثيق الدينيّة الطهرانيّة، كذلك ركّزوا على الفرق بين ما هو جسديّ وما هو روحيّ، وأنكروا قدرة المدارك الحسّيَّة، أو دراسة الطبيعة على إطلاع الإنسان على أيّ شىء يخصّ الله؛ إذ لا تستطيع ذلك إلا الروح الداخليّة للمسيح، وهم بهذا يكونون قد قلّلوا من أهمّيّة الكتاب المقدّس والمواعظ المدروسة، فالمسيح موجود في القلب أكثر من كونه مُضمَّنًا في التاريخ أو في كتاب، وتشابهت أفكارهم تشابهًا شديدًا مع أفكار آن هتشنسون التي كنّا أتينا على أفكارها الثوريّة الإصلاحيّة في سياق هذا الفصل. غير أنّ فوكس الذي ظهر في لندن بادئ الأمر كباحث عن الحقيقة، ثمّ تحوّل إلى “صاحبِّي” معروف، فقد تمحورت أفكاره الإيمانيّة على “النور الداخليّ” الذي يستطيع الإنسان من خلاله العثور على الله. وحثَّ الناس على تجاهل المناصب والكهنوت والكنائس، كما دعاهم إلى التخلّي عن السخف ونبذ اللّامساواة الاجتماعيّة والممارسات الظالمة، وفي الخمسينات من القرن السادس عشر، عمل أتباعه على تخليص اللغة من التمايزات الطبقيّة، ورفضوا حلف الأيْمان، وتجنّبوا استخدام الأسماء الوثنيّة للدلالة على الأيام أو الشهور، ونظرًا لاعتقادهم بأنّه لا أحد أفضل منهم، فإنّهم كانوا يرفضون رفع قبّعاتهم إجلالًا للآخرين، وعلى الرغم من أنّهم اعتبروا الحكومات والكنائس بحكم الساقطة، إلّا أنّهم رفضوا حمل السلاح لمهاجمتها أو الدفاع عنها. وكانوا يشبهون “الطهرانيّين” في نظرتهم إلى المسائل الجماليّة، كما شعروا بالإهانة جرّاء التحرّر الناشىء عن ملهاة عصر النهضة، والإقبال على قصائد الحب، فعارضوا كلّ الفنون التي لا يركِّز العقل فيها على أمور خالدة[19].
هنا تجدر الإشارة إلى ثلاثة منجزات واضحة حقَّقها الصاحبيّون. فعلى عكس “الطهرانيّين”، تمكن “الصاحبيّون” من بناء علاقة جيّده مع الهنود، وكان بن نفسه يتعامل معهم بعدل، وثمّة وفرة من الدلائل التي تُظهر أنّ حالةً من الودّ قد سادت بين الأجناس، وهي حالة غالبًا ما افتقدتها العلاقات الأميركيّة اللاحقة على طول الحدود. ومن الناحية الدينيّة، فقد عطّل جوُّ من الرفض المهذّب- بسبب عدم القدرة على الاستيعاب- محاولات إقناع الناس باعتناق مبادىء “الصاحبيّة”، وقد حقّق مستوطنون آخرون، مثل الموراف (M ORAVIANS) في فترات لاحقة نجاحًا أكبر في هذا المجال.
في تلك اللحظات كانت قضيّة العبوديّة أكثر أهمّيّة، وشهدت الحقبة التي عاش فيها جون وولمان (1720- 1772)، مفكّر الصاحبيّين الأوّل بعد بن، اهتمام الطائفة الكبير بالعبيد، والتزامها المتزايد بتحريرهم، وقد ورث “الصاحبيّون” مشكلة العبيد، حيث كان الاتجار بهم سائدًا في ذلك العصر، وقليل من الناس كانوا يحتجّون على وجودهم في بنسلفانيا ونيوجرسي المجاورة، ولكن منذ أيّام جورج فوكس الأولى التي أثار فيها شكوكهم حول ما إذا كان من اللَّائق الاحتفاظ بأناس في الأسر، وهذا الموضوع أخذ يُطرح بتكرار في اجتماعات الصاحبيّين. وفي الوقت الذي بات فيه من السهولة بمكان أن يسجّل المرء اعتراضه على المتاجرة بالعبيد، ولكنّ امتلاكهم كان قضيّة أكثر تعقيدًا، فكثير من الصاحبيّين ورثوا العبيد أو تزوّجوا ملاّك عبيد. وأسهمت قوانين الإرث في صعوبة تحريرهم، كما أنّ بعض الأراضي الشاسعة كانت غير قابلة للتشغيل دون الاستعانة بهم، وعلى غرار العديد من الصاحبيّين، فقد كان وولمان يمقت الحلول الوسط في القضايا الأخلاقيّة، من منطلق أنّ المسيحيّ الجيّد لا يتساهل إزاء الخطيئة، وتحت إلحاحه أمكن الوصول باجتماعات الصاحبيّين إلى نتيجة قوامها أنّه لا بدّ من تحرير العبيد، ولكن بحلول عام 1758 بات الصاحبيّون الذين لا يعملون لتحقيق ذلك الهدف مهدّدين بالطرد من الطائفة، وهكذا وكما حدث غالبًا في سنوات لاحقة من التاريخ الأميركيّ، فقد كان شخص أو أكثر يخرج بفكرة إصلاحيّة ويسعى لإقناع إحدى المجموعات الدينيّة بتبنّيِها، ثم تبدأ المجموعة بالدفاع عن هذه الفكرة إلى أن تثير مناقشاتها الرأي العام، فتنشأ بالتالي قضيّة سياسيّة. وعلى هذا النسق ظلّت العبوديّة تُطرح قضاياها وأسئلتها على المجتمع في تلك المنطقة لفترة قصيرة من الزمن، إلى أن اختفت بالقانون، في حين أدّى انتشار الحرّيّة هناك، إلى الحرب الأهليّة في وقت لاحق[20]، وهذه نقطة إشكاليّة سوف تبسط نفسها ضمن مساحات النقاش بين المؤسّسين حول ماهيّة الدستور الديمقراطيّ، وشكل ممارسته اللاَّحقة في المجتمع والدولة.
“البراغماتيّة” بما هي لاهوت سياسيّ
مع التطوّر المعقَّد للحركة الدينيّة في مجتمعات المستوطنين الأميركيّين الأوائل سوف تنشأ مفارقات لا سابق لها في الحضارات الحديثة، فهناك منطقة معرفيّة وُلدت من الرحم الحارّ للمسيحيّة البروتستانتيّة، وسيكون لها أثر حاسم في الفلسفة السياسيّة لأميركا المعاصرة، إنّها “البراغماتيّة”، أو “المذهب العمليّ” ـ حسب التوصيف المستمدّ من الأخلاق البروتستانتيّة، لكنّ الحجّة في مثل هذا التوصيف هي أنّ المذهب البراغماتيّ يتّخذ من النتائج العمليّة معيارًا لتحديد صحّة الأفكار أو بطلانها، وتُظهِرُ الوقائعُ على الجملة أنّ نشوء البراغماتيّة الأميركيّة جرى وسط حقل دينيّ وثقافيّ وسياسيّ مكتظٍّ بأسئلة المكان والزمان.
لكن ظهور المصطلح في البيئة الثقافيّة الأميركيّة، سوف يعبر زمنًا معقّدًا وطويلًا وعسيرًا من قبل أن يرى نور الولادة، فقد اجتمع نخبة من أكبر المفكّرين في الولايات المتّحدة الأميركيّة لدراسة احتمالات تطوّرات العالم المستقبليّة، ودور أمّتهم الفتيّة، وتطلّعاتها لتسلّم الريادة ووجوب استخلافها للإمبرياليّات المتهالكة، وتحديد مصير بلدهم في العالم. من أبرز منظِّري البراغماتيّة تشارلز ساندر بيرس، وشونسي رايت، ووليم جيمس، وهو عالِم طبيعيّ وفيلسوف وعالِم نفسانيّ، وأوليفر وندل هولز، وهو محامٍ ومنظِّر تشريعيّ، وجون فيسك المؤرّخ المعروف، والمؤرّخ فرانسيس أبوت من كبار رجال اللّاهوت، وكان محور الحلقة الفكريّة هو الجواب على السؤال الآتي: كيف يمكن أن تصبح الولايات المتّحدة الأميركيّة “الامتداد الحصريّ للإمبرياليّات الأوروبيّة السابقة”، وذلك من خلال وضع إطار فكريّ لبرامج بعيدة المدى على جميع الأصعدة الثقافيّة والفكريّة والتربويّة والفنّيّة، (وكانت هذه هي المرحلة الأولى للذرائعيّة الأميركيّة من الناحية التنظيريّة).
تمخّض عن هذه الندوة توصيات بقيت في الأرشيفات المتخصّصة في المعاهد والجامعات، وقد لخَّصها المؤرّخ الأميركيّ جون فيسك في كتابه “أفكار أميركيّة في السياسة”، ثم صاغها على شكل قصّة خياليّة تقع أحداثها في باريس، حيث اجتمع ثلاثة مغتربين أميركيّين في حفل عشاء، وقدّم المتحدّثون أنخاب بلدهم العظيم، فقال أوّلهم: “إليكم نخب الولايات المتّحدة الأميركيّة التي تحدّها أميركا البريطانيّة شمالًا، وخليج المكسيك جنوبًا، والمحيط الأطلسيّ شرقًا والباسيفيك غربًا…”، وقال الثاني: “لا يا صاح، إنّك تنظر نظرة محدودة للغاية؛ إذ يجب علينا ونحن نعيد حدود بلدنا أن ننظر إلى المستقبل العظيم، الذي يشير إليه “المصير الظاهر” أو “القَدَر المتجلِّي” للجنس الأنغلوساكسونيّ، (ويلاحظ هنا حتميّة التحالف البريطانيّ – الأميركيّ في كلّ العمليّات العسكريّة مستقبلًا)، ويكمل قائلًا: هاكم نخب الولايات المتّحدة الأميركيّة التي يحدُّها القطب الشماليّ شمالًا، والقطب الجنوبيّ جنوبًا، وشروق الشمس شرقًا، وغروبها غربًا، فثارت زوبعة من التصفيق تحيّة لهذه النبوءة الطموحة، وهنا انبرى متحدّث ثالث من أقصى القاعة، وهو أميركيّ تبدو عليه حكمة وصراحة وهدوء راعي البقر الآتي من الغرب البعيد، فقال هذا الأميركيّ الغيور: “إذا كان لنا أن نضع التاريخ بماضيه وحاضره، ونضع موضع الاعتبار “مصيرنا الواضح”؛ إذًا فلماذا نحصر أنفسنا داخل هذه الحدود الضيّقة التي عيَّنها رفيقانا.. إليكم نخب الولايات المتّحدة التي يحدُّها الفجر القطبيّ شمالًا، وتقدّم الاعتداليّين جنوبًا، والعماء البدائيّ شرقًا، ويوم الدين غربًا”[21].
هذا هو الحلم الأميركيّ كما حدَّده المفكّرون الأميركيّون مؤسّسو “النادي الميتافيزيقيّ الأميركيّ” منذ العشرينات من القرن التاسع عشر، على هذا النحو ستنشأ الفلسفة البراغماتيّة كحصيلة جهد مشترك لهؤلاء الرجال، كلٌ في مجال تخصّصه، ثم قولبوها في نظام شموليّ، يشمل اللاَّهوت، والتاريخ، والتربية، والاقتصاد، وعلم النفس والفلسفة، حيث أعاد صياغتها تشارلز بيرس ضمن خلاصة مؤدَّاها أنّ الفكرة قد تكون حقًّا بالنسبة لغيري، وقد تكون صادقة الآن، وباطلة في موقف آخر، وذلك على ضوء المصلحة الذاتيّة، ومن ثمّ فعلينا أن نعيش اليوم مع الفكرة التي نراها صادقة الآن، وأن نكون على استعداد بأن نسلِّم يقينًا بزيفها ما دامت تعارض مصالحنا، أمّا حجر الزاوية في هذه الفلسفة كما يقدِّمها وليم جيمس فقوامُهُ ما يلي:
ـ إنكار الحقيقة الموضوعيّة التي تتميّز بوجودها المستقلّ عن الذات والخبرة البشريّة، وتنعكس في وعينا عن طريق الحواس.
ـ إنكار للضرورة الموضوعيّة العلميّة.
ـ الإيمان بأنّ الوجود هو اعتقاد، والنجاح هو معيار الحكم على الحقّ والباطل.
وعلى الرغم من أنّ الأدلّة عليها كانت شحيحة، فقد بدأت البراغماتيّة تترسّخ عبر اجتماعات متفرّقة كان يعقدها “النادي الميتافيزيقيّ” في الحرم الجامعيّ لـ (هارفارد) في منطقة بوسطن في العقدين الأوّلين من القرن التاسع عشر. وكان العضو الأهمّ في المجموعة هو تشارلز ساندر بيرس نجل بروفيسور الرياضيّات والفلك في هارفارد، ومن بين الأعضاء الرئيسيّين، كان هنالك ويليام جيمس نجل مفكّر تأثّر بسويدنبورغ، وكان صديقًا لـ (إمرسون) وأوليفر ويندل هولمز الابن، نجل كاتب وطبيب معروف. وكما استذكر بيرس بعد سنوات، فإنّهما التقيا في أوائل السبعينات من القرن التاسع عشر، واتّفقا على أنّ واجبهما الأساسيّ هو تطبيق التعريف الذي وضعه (بين) (BAIN) حول الإيمان، بأنّه “الشيء الذي يكون المرء مستعدًّا لتنفيذه”. ومن خلال هذا الطرح الذي قدّمه فيلسوف بريطانيّ، فإنّ البراغماتيّة “ليست أكثر من نتيجة طبيعية”. لا بدّ من الإشارة، هنا، إلى أنّ الجوّ كان مليئًا بالعلم واللاأدريّة في آن معًا، حين كانت الميتافيزيقيّة في حال تراجع، وأمّا اسم النادي، فكان ينمُّ عن سخرية مقصودة، حيث سمِّي “النادي المعادي للميتافيزيقيّة”، وهو اسم أكثر دقّة في الواقع، وكما أشار بيرس في وقت لاحق، فإنّ أفكاره الأولى كانت مقتبسة، حيث إنّ معظم أعضائه كانوا بريطانيّين في توجّهاتهم، رغم أنّه هو نفسه عَبَرَ بوابات الفلسفة عن طريق الفيلسوف كانط[22].
لقد سقطت البراغماتيّة المبكرة جرّاء الآلام الوطنيّة التي سبّبتها الحرب، وبالتالي التوسّع الاقتصاديّ الذي أعقب ذلك، وهكذا لم يعش أحدٌ العقد السادس من القرن التاسع عشر دون أن تكون لديه أسئلة جادّة حول طبيعة الديمقراطيّة الأميركيّة وقيمة الاتحاد. وعلى الرغم من أنّ الحرب قد سوَّت قضايا سياسيّة واجتماعيّة، إلّا أنّها لم تسوِّ قضايا فكريّة، بل إنّ كثيرًا من الشخصيّات الفكريّة المرموقة أحسّت بالانزعاج لتأثيرات أعمال التجارة والبناء الكبيرة، وأخلاقيّات الداروينيّة الاجتماعيّة على بلادهم، وأدّى الجشع المعيب لشخصيّات مثل آندرو كارنيجي وجون د. روكفلر، والفساد الصريح الذي اجتاح إدارة غرانت في واشنطن، إلى إجراء مراجعات نظريّة جدّيّة في طبيعة الديمقراطيةّ، والمجتمع، وفي مكانة أميركا من خُطَط الله لهذا الكون، فالبلاد التي كانت في معظمها من الطبقة الوسطى راحت تتّجه نحو انقسامات طبقيّة خطيرة، وكانت البراغماتيّة هي إحدى المحاولات التي استهدفت مواجهة تلك القضايا، فقد استندت على الدعوة إلى التخلّي عن الأفكار التي لا تسفر عن أيّ نتائج، كما دعت إلى إسقاط الأخلاقيّات التي لا تأثير لها على الحياة العاديّة للمواطن، وسعت لإقناع الناس بأنّ ما يفكّر به المرء ويُقْدِمُ عليه هو أمر مهمّ، وأنّ الأميركيّين لا يحتاجون إلى تدريب فلسفيّ فنّيّ شامل ليعيشوا حياة ذات معنى. في هذه اللحظات كان الأوروبيّون غارقين في أنظمة طبقيّة وميتافيزيقيّة لا تتلاءم والديمقراطيّة الأميركيّة، الأمر الذي حفَّز البراغماتيّين لبذل الجهود من أجل الوصول إلى جملة إجراءات تستطيع إنهاء تلك الأنظمة[23].
أركان الإيمان “البراغماتيّ”
كان بيرس أول من صاغ الأفكار البراغماتيّة في إطار عامّ، وذلك في سلسلة مقالات لمجلّة (Populat Science Monthly) في أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر، ومن بين مقالاته المهمّة ذات التأثير الواسع والتي ساهمت في تطوّر البراغماتيّة، “تثبيت الإيمان” (Fixation Of Belief) و”كيف نجعل أفكارنا واضحة” (How To Make Our Ideas Clear). ابتدأ بيرس عمله في مجال العلوم الطبيعيّة والنفسيّة، مستخدمًا عبارات مثل “عادة” و”عمل” لمحاربة أيّ معطيات مسبقة قد يختبر المرء على أساسها كلمة “إيمان”. وتحدّث عن كيفيّة تغيّر الأفكار العلميّة، وكيف أنّ أيّ إيمان لا يستطيع الصمود طويلًا بمفرده، ودافع عن الرأي القائل، إنّه إذا تغيّرت الأفكار العلميّة مع الوقت، فإنّ جميع أشكال الإيمان معرّضة هي الأخرى إلى الريبة والشك، فإذا اعتقد شخص ما بصحّة شيء، فإنّه سيشعر بالارتياح إزاء الفكرة التي هو بصددها، وتصبح بالتالي عادة لديه، ويتصرّف إزاءها آليًّا دون أن يشكّ في افتراضاته، لكنّه إذا ما شكّ في شيء، فإنّه سيشعر بالانزعاج وعدم الراحة؛ ذلك بأنّ الناس على فطرتهم لا يحبّون أن تعتريهم الشكوك، وهم مستعدّون لعمل أيّ شىء للتخلّص من الشكّ والعودة إلى العادات التي رافقت إيمانهم[24].
الشكّ، إذن، يحفِّز الناس إلى السعي نحو تحقيق الإيمان، حيث يتوقّف الإحساس بالضيق، وهذا الكفاح من أجل تحصيل الإيمان هو ما اسماه بيرس بـ “البحث”، فالناس يتطلّعون حولهم ويحاولون إيجاد حلول، وعندما يعثرون على حلّ، يحسّون بالارتياح ويوقفون عمليّة البحث ويقتنعون بتحقيق الإيمان الجديد، وهكذا فقد حدّد بيرس أربع وسائل لتحقيق الإيمان هي: التماسك، أي الإنكار العنيد لأيّ معلومات قد تغيّر الأفكار القائمة، والسلطة أي التوجّه نحو مؤسّسة مثل الكنيسة، والاستنتاج المسبق، وأخيرًا أسلوب العلم أو الحقيقة الذي يفضّله بيرس.
يفترض هذا الأسلوب أن “يكون الاستنناج النهائيّ لكلّ إنسان هو نفسه، أو أن يتوحّد الاستنتاج بصورة مؤكّدة إذا ما أُتيح لعمليّات البحث أن تتواصل بشكل كاف”، ولتحديد هذا الموقف بكلمات أبسط، فإنّ ثمّة – حسب بيرس – أشياء حقيقيّة، تعتبر صفاتها مستقلّة تمامًا عن آرائنا إزاءها، وهذه الحقائق تؤثّر على حواسنا طبقًا للقوانين العاديّة، وعلى الرغم من أنّ نظرتنا إلى الأمور قد تختلف من شخص إلى آخر من خلال تفسير قوانين المدارك، إلّا أنّنا قادرون على معرفة حقيقة الأمور، كما أنّ أيّ شخص ذي خبرة وتعقّل كافيَين إزاءها، سيجد أنّه متّجه نحو الاستنتاج الأوحد الصحيح، وهكذا بدأت البراغماتيّة كإنكار لأنواع معيّنة من البحث، وهي تقول إنّ المرء لا يستطيع ببساطة أن يتوقّف عن الاستماع، ويتسلّح بحقائق خالدة ومثبتة، أو يأخذ شيئًا من السلطة المؤسّسيّة، فالشخص الذي يبحث في أمر ما، يمكنه أن يشقّ الطريق العلميّ، ويتعامل مع الحقائق بعقل مفتوح، ويطلب من شخص آخر أن يقوم بالمهمّة بنفسه للتأكّد من جدواها، فهذا الشخص يكون قد حقّق الإيمان عندما قبل بعادة جديدة، ومسلك جديد؛ ولذلك فإنّك عندما تسأل شخصًا كهذا ماذا تعني فكرة ما، فإنّ الجواب سيكون وصفًا للعادات التي تنتج عنها، إذ إنّ ما يعنيه شىء ما هو العادات التي يطوّرها[25].
من تلك النقطة اتّجه بيرس إلى فكرة “التحوّل”، وهي الفكرة الكاثوليكيّة القائلة: إنّ الخمر والخبز اللذين يقدَّمان في العشاء الربَّاني هما حقًا جسد المسيح ودمه، أو أنّهما كانا كما يصرّ معظم البروتستانت يرمزان فقط إلى جسد المسيح ودمه، ويكوِّنان بالتالي وسيلة لتذكُّر تضحياته، وطالما أنّ جدلًا كهذا لا يغيّر في المسلك، وطالما أنّه لم يغيّر من عادات المسيحيّين بطريقة أو بأخرى، فإنّ الجدل يصبح آنئذٍ بلا معنى. وقد توصّل بيرس إلى استنتاج سجّله بكلمات يرجع اليها البراغماتيّون منذ ذلك الحين، فقد رأى أنَّ من المستحيل أن تكون في عقولنا فكرة لها علاقة بأيّ شيء باستثناء التأثيرات المفهومة والمحسوسة. ذلك أنّ فكرتنا حول أيّ شىء، هي فكرتنا حول تأثيراتها المحسوسة، وأنّ أيّ رأي آخر هو خداع للنفس. فالفكر – عند بيرس – له معنى فقط عندما يكون هذا المعنى مرتبطًا بالأداء، وقد أضاع الكاثوليك والبروتستانت أوقاتهم في التجادل حول قضيّة اتّفقا على أهمّيّة تأثيرها عند الممارسة.
وهكذا فإنّ البراغماتيّة أكّدت على النتائج وعلى العمل بدلًا من التفكير، ومن خلال إدراك أهمّيّتها من قِبل المفكّرين الملتزمين بعمق بنظرة علميّة إلى الكون، فقد عملت البراغماتيّة على التقريب بين نظريّات العلم والتجربة، وبين المسلك الديمقراطيّ العام، وأبلغت الناس أنّ معظم النتاج الفكريّ للماضي الأوروبّيّ هو مجرّد فتات كلام لا قيمة له في بلد مزدهر؛ فالكنيسة الرسميّة لا حقّ لها بعد الآن بأن تفرض آراءها على أيّ مواطن، مثلما لا يحقّ لأيّ حكومة أرستقراطيّة أن تفرض الضرائب، وكما أنّ أميركا كانت دولة في طور التشكُّل، كذلك كان الأمر بالنسبة للأفكار والحقائق التي غدا بمقدور أيّ شخص أن يمارسها ويساهم فيها حسب رغبته. وأضحى الأميركيّون مبتكرين وقادرين على التكيُّف، وقد أخذت ابتكاراتهم وتكيُّفاتهم تأخذ شكل مواقف فلسفيّة، حيث لم يختف الله من الكون، بل إنّه – حسب النظرة البراغماتيّة،- اتّخذ موقفًا تجريبيًّا من الحياة الإنسانيّة، ويريد من مخلوقاته أن تعمل على صياغة قيمها في عالم الحظّ[26].
جدليّة الميتافيزيقيّ – العلمانيّ
لم يكن الجدل الدينيّ في مرحلة التأسيس مباينًا للاجتماع والسياسة والفكر، كل حركة أو فرقة دينيّة كان لها حظٌ ما في الحراك المشترك بين الدينيّ والدنيويّ، بل أكثر من ذلك، فقد كان ثمّة ضربٌ من علاقة تداوليّة يتكامل فيها الميتافيزيقيّ مع العلمانيّ، رغم خطوط الاحتدام المديدة في سياق الصراع على تشكيل الدولة والمجتمع والمؤسّسات وموقعيّة الدين والإيمان الدينيّ في هذا الصراع.
لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الوضوح التاريخيّ لمصطلح العلمَنَة يتوقّف على التسليم بأنّ واقع أوروبّا خلال القرون الوسطى وفي كثير من جوانبه كان يقوم فعليًّا وذات يوم على نظام تصنيفيّ يقسم الدنيا إلى مملكتين أو نطاقين متباينين: “دينيّ” و”زمنيّ”، والفصل بين هاتين المملكتين ضمن هذا النوع من التقسيم الخاصّ غير المألوف تاريخيًّا بين المقدَّس والدنيويّ، لم يكن بالتأكيد مطلق التباين كما اعتقد دوركهايم دائمًا، فقد شابَهُ كثير من الغموض، والمرونة، والخلط، والالتباس الصريح بين حدوده الفاصلة غالبًا، ولعلّ الأنظمة العسكريّة هي مثال واضح على ذلك، أمّا ما يجب إدراكه فهو أنّ الثنائيّة قد تمأسست في كلّ أنحاء المجتمع، بحيث “تَهَيْكَل” الحيِّز الاجتماعيّ بحدّ ذاته بصورة ثنائيّة؛ لذا كان لا بدّ من وجود “سيفين”: سيف روحيّ وسيف زمنيّ، يزعم كلّ منهما امتلاك مصدره الكاريزماتيّ المستقلّ – أي شكل من أشكال السيادة المزدوجة المتمأسسة – وهو ما قد يؤدّي بالضرورة إلى كثير من التوتّر والنزاع المفتوح، فضلًا عن المحاولات الرامية لإلغاء هذه الثنائيّة من خلال تصنيف أحد هذين النطاقين تحت خانة النطاق الآخر. وقد كانت نزاعات “التكريس” المتكرِّرة هي التعبير الصريح عن ذلك التوتّر الحاضر على الدوام، فكانت المزاعم الثيوقراطيّة للكنيسة والقادة الروحيّين بالتقدّم على الحكّام الزمنيّين، وبالتالي، باحتكار الهيمنة المطلقة، وحقِّ النظر في الأمور الزمنيّة كذلك، تُقابل بمزاعم القيصر وبابوية الملوك من أجل تجسيد السلطة المقدَّسة بواسطة الحقِّ الإلهيّ.
وهكذا تأسّست بنية ثنائيّة مماثلة، تضمّنت المجال والنزعة نفسيهما للتوتّر والنزاع الفكريّين مع الجامعات الناشئة في القرون الوسطى، حيث أصبح الإيمان والعقل أساسين معرفيّين منفصلين ولكن متوازيين، يفضيان افتراضيًّا إلى حقيقة واحدة هي الله. وعلى هذا المستوى كذلك، أثارت المطالبة اللاهوتيَّة بالسلطة المطلقة مطالب مضادة لها، أولًا من جانب الفلسفة العقلانيّة الذاتيّة التي رفضت تبعيّتها للاهوت، وثانيًا من جانب العلم الحديث الذي أكَّد مطالبته بأن يُصار إلى تصنيف كتاب الطبيعة، إلى جانب كتاب الوحي، سبيلين منفصلين ولكن متساويين معرفيًّا، إلى الله[27].
مع ذلك كان لا بدَّ من تمييز التقسيم البنيويّ لـ “هذا العالم” إلى نطاقين منفصلين، “دينيّ” و”زمنيّ”، وإبقائه منفصلًا عن تقسيم آخر بين “هذا العالم” و”العالم الآخر”. وإلى حدٍّ كبير، يعتبر الإخفاق في الإبقاء على الفصل بين هذين التقسيمين مصدرًا لسوء التفاهم في السجالات القائمة حول العلمنة، وقد يرى بعضهم أنَّه لا يوجد “عالَمان” بكلّ ما للكلمة من معنى، بل ثلاثة عوالم فعليًّا: مكانيًّا ثمّة “العالم الآخر” (السماوات)، و”هذا العالم” (الأرض)، ولكن “هذا العالم” نفسه خضع للتقسيم إلى عالَم دينيّ (الكنيسة) وعالَم زمنيّ (Saeculum). زمانيًّا، نصادف التقسيم الثلاثيّ عينه بين زمن الله الأبديّ، والزمن الدهريّ – التاريخيّ، وهذا التقسيم انشطر بدوره إلى زمن الخلاص المقدَّس – الروحيّ، كما يمثِّله التقويم الكنسيّ، والزمن الدهريّ (Saeculum). وتجسيد هذا التقسيم الثلاثيّ كنسيًّا من خلال التمييز بين “الكنيسة غير المرئيّة” الماورائيّة (الشركة المقدَّسة) و”الكنيسة المرئيّة” (كنيسة روما الواحدة، المقدَّسة، الجامعة، الرسوليّة) والمجتمعات الزمنيّة، أمّا سياسيًّا، فثمّة مدينة الله المتسامية (ملكوت السماوات) وتجسيدها المقدَّس على الأرض من خلال الكنيسة ( المملكة البابويَّة)، ومدينة الإنسان (الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة وكلّ الممالك المسيحيّة. وفي إطار الفئات التصنيفيَّة الزمنيَّة الحديثة، بوسعنا القول إنَّه كان ثمَّة واقع طبيعيّ وواقع فوق طبيعيّ، إلّا أنّ الحيِّز فوق الطبيعيّ انقسم بدوره إلى واقع فوق طبيعيّ لا تجريبيّ بحد ذاته، وتجسيده الرمزيّ المقدَّس في الواقع التجريبيّ، وبالتالي يجوز لنا القول إنّ المسيحيّة السابقة للحداثة في أوروبّا الغربيّة كانت تقوم على نظام تصنيفيّ ثنائيّ ومزدوج: فمن جهة تبرز الثنائيّة بين “هذا العالم” و”العالم الآخر”؛ ومن جهة أخرى تتجلّى الثنائيّة ضمن “هذا العالم” بين نطاق “دينيّ” ونطاق “زمنيّ”، وعلاوة على ذلك، تتوسَّط بين هاتين الثنائيّتين الطبيعة “الأسراريّة” للكنيسة التي تقع في الوسط، وتنتمي بصورة متزامنة إلى العالمين، وتستطيع بالتالي التوسُّط قدسيًّا بينهما. وبالطبع، فقد قام هذا النظام التصنيفيّ على مزاعم الكنيسة فقط، وتمكّن من بناء الواقع على هذا الأساس ما دام الناس يسلّمون بهذه المزاعم. وفي الحقيقه، كان من شأن هذا التسليم أيًّا كانت أسبابه، والذي يزعم تفوّق الحيِّز الدينيّ على الحيِّز الزمنيّ، أن يسيطر على النزاعات التي تدخل في صلب مثل هذا النظام الثنائيّ[28].
مع ذلك، سنجد قراءة أخرى تحاول أن تعثر على مخارج منطقيّة لهذا اللقاء المستحيل بين الدينيّ والعلمانيّ.
لنبدأ أولًا بإعادة توصيف المعنى قبل إجراءت التطبيق على الحالة الأميركيّة:
تعني العلمنة، بوصفها مفهومًا، المسار التاريخيّ الفعليّ الذي ينهار بموجبه هذا النظام الثنائيّ انهيارًا تدريجيًّا ضمن “هذا العالم”. وكذلك ستنهار بموجب المسار العلمانيّ المشار إليه، بُنى الوساطة المقدَّسة بين هذا العالم والعالم الآخر، إلى الدرجة التي يختفي فيها النظام التصنيفيّ القروسطيّ بكامله، ثم ليُستبدل بأنساق جديدة من الهيكلة المكانيّة للنطاقين. ولعلّ الصورة المعبِّرة التي ذكرها ماكس فيبر عن “انهيار جدران الدير” لهي أفضل تعبير بيانيّ عن إعادة “الهَيْكَلة” المكانيّة الجذريّة تلك، فالجدار الفاصل بين المملكتين الدينيّة والزمنيّة داخل “هذا العالم” ينهار، والفصل بين “هذا العالم” و”العالم الآخر”، حتى الآن على الأقل، يظلّ قائمًا، ولكن من الآن فصاعدًا – أي مع الظاهرة الأميركيّة – سوف يكون ثمّة عالم واحد، و”هذا العالم”، هو العالم الزمنيّ، ولكن مع وجوب وضرورة أن يجد الدين فيه موقعه الخاصّ، ولئن كانت المملكة الدينيّة تبدو سابقًا كأنّها الواقع الجامع الذي وَجدت المملكة الزمنيّة ضمنه موقعها الخاصّ، فقد أضحى النطاق الزمنيّ هو الواقع الجامع الذي يجب أن يتكيّف معه النطاق الدينيّ، وتقوم المهمة التحليليّة لنظريّة العلمنة تحديدًا على دراسة الأنساق التصنيفيّة والتمايزيّة الجديدة الناشئة ضمن هذا العالم الزمنيّ الواحد، والموقع الجديد الذي سوف يحتلّه الدين ضمن هذا النظام التمايزيّ الجديد، إن كان الدين يحتلّ فيه موقعًا أصلًا[29].
اختراقات العلمنة
لكن كيف بدت تظاهرات الجدل ضمن ثنائيّة الدينيّ-العلمانيّ في أميركا؟
لا شكّ أنّ ثمّة أوجُهَ شَبهٍ كثيرة في سَيْريَّات التنوير الذي شهدته أوروبّا وأميركا، وقد بات معروفًا كيف ثار المثقّفون ضدّ لاعقلانيّة وعنف عهد ما بعد الإصلاح في أوروبّا، وكيف ركّزوا على الأساليب التي يستطيع من خلالها الإنسان أن يصبح أكثر ميلًا نحو الكمال عبر استخدام العقل لتطوير المجتمع، وبالتالي كيف أصرَّ هؤلاء على أنّه ليس من داعٍ حتى يكون الله غامضًا ومجهولًا إلى الحدّ الذي يعتقده كثير من المسيحيّين، وأنّ الدراسة العلميّة للطبيعة يمكن أن تكشف الحقيقة بخصوص المسائل الدينيّة. ولم يكن الملوك والقساوسة ليستحقّوا احترام الإنسانيّة ما لم يستطيعوا إيصال الأسس العاقلة لأعمالهم إلى الناس، كما أنّ الأهواء الشخصيّة لم تعد طريقة مقبولة لإدارة الكنيسة أو الدولة، وأصبحت الحرّيّة والمعرفة والإنسانيّة هي المحكّات، فالناس يجب أن يكونوا أحرارًا، ويجب أن يستعملوا حرّيّتهم للحصول على المعرفة، ويجب أن يستعملوا المعرفة لتطوير المجتمع[30].
كان الفكر التنويريّ في أوروبّا شأنًا خاصًّا يُثار في قاعات الاستقبال، وفي المراسلات الشخصيّة، حيث إنّ أيّ هجوم مُعلن على ملك أوروبّيّ يمكن أن يؤدّي إلى فرض الرقابة، أو إلى النفي أو السجن، وفي أميركا كان الملك بعيدًا جدًّا وكذلك أسقفه، أمّا رجال الدين المحلّيّون ورجال الأعمال والأكاديميّون والمهنيّون، فقد كانوا في الغالب مستنيرين، إضافة إلى أنّ امتداد حالة التنوير والمؤسّسة نفسها كان متناسقًا، وكان الوعّاظ الطهرانيّون هم أوّل مَن أعلن عن أفكار جديدة لجمهور المثقّفين. وعلى الرغم من أنّ الجزء الأكبر من جمهرة المواطنين بقي إنجيليًّا غير مدرك تمامًا للتيّارات السائدة، فإنّ الإنجيليّين والزعماء العلمانيّين كانوا قادرين على مشاركة القيم والأهداف نفسها فيما بينهم، مع تباين فيما يتمّ التركيز عليه، تمامًا مثلما استطاع توماس جيفرسون وآرون بار اقتسام التذكرة الرئاسيّة نفسها. والذين كتبوا إعلان الاستقلال والدستور كانوا شخصيّات عامّة، فلن يكون بينهم سجناء أو أعضاء في طبقة مثقّفة معزولة عن مجتمعها[31].
كانت أميركا في استنارتها أكثر عمليّة وأقلّ غموضًا، فالأوروبّيّون أمثال إسحق نيوتون، وفرانسيس بيكون، وجون لوك قاموا بمعظم التفكير الفنّيّ اللازم للإصلاح الدينيّ والسياسيّ، وهكذا فإنّ الجدل الطويل والغامض الذي دار حول عصر التنوير في أوروبّا، لم يكن له تأثير كبير على أميركا. وفهم الأميركيّون الضرائب الإنجليزيّة والتدخّل العسكريّ على أنّها أعمال استفزازيّة، ولم يفكّروا بعمق في الموضوع، إلى أن اضطرّوا لتبرير تمرّدهم بعد عام 1763. وفي غضون وقت قصير، وبصورة ملفتة، أوجدوا العلم السياسيّ الذي ساعد في تغيير نظرة الجماهير البعيدة جدًّا عن أميركا إلى حكومة ذلك البلد. وبالمقابل، فقد ساعدت أميركا الأوروبيّين في توفير مكان لأساطيرهم، فالخيالات والمُثُل تحتاج في الغالب إلى مكان معقول لإطلاق جذورها، وقد كانت أميركا هي الملعب المطلوب للخيال الأوروبيّ، ولم يكن ثمّة أرستقراطيّة حقيقيّة أو ملك في أميركا، كما لم تكن ثمّة كنيسة ثابتة حتى أواسط القرن الثاني عشر، على غرار الكنائس الأوروبيّة. كان بإمكان الأميركيّين أن يكبروا ويعيشوا حياة تتّسم بالعقلانيّة والفضيلة؛ لأنّ مجتمعهم لم يلجأ إلى قمعهم، وفي هذا الإطار، لعب بنيامين فرانكلين دوره الأساس، إذ إنّه كان في نظر أعداد لا تحصى من الأوروبيّين الذين لم يقابلوا أميركيًّا قطّ، والذين لم تُكتب لهم زيارة ذلك البلد، الإنسان المجسِّد لأحلامهم، فهذا الرجل العاقل الذي يتحدّث لغة الناس بحكمة وطيبة، وصاحب الابتكارات العلميّة، كان مؤسّسة قائمة بذاتها، لا مجرّد شخص من لحم ودم، وقد دخلت فلسفته إلى تعبيرات “الصاحبيّين”، كما أثَّر في كلّ من حوله لاعبًا دوره ببراعة منقطعة النظير. كان بنجامين فرانكلين بالنسبة للمثقّفين الأوروبيّين بمثابة الجدار العازل ضدّ تفاهات الحياة الأرستقراطيّة، والبرهان على أنّ التحرّر من الكهانة يجلب الفضيلة والتقدّم، وعندما ظهر أخيرًا هو والشاعر فولتير معًا، التقى عصر التنوُّر الجديد بعصر التنوُّر القديم، في واحدة من تلك اللحظات سريعة الزوال التي جسَّد التاريخ كمالها وجمالها في آن معًا: فها هما الرجلان الذكيّان المسنّان، والمحبّان للأساطير يثيران خيال الجمهور على أرض الواقع. كانت العقلانيّة هي أسطورة العصر الكبرى، وقدّمت أميركا قدّيسين إلى العالم، بل أنّها – وهذا ما يثير الدهشة – نصَّبتهم في مراكز عامّة مهمّة، كذلك كان التنوير الأميركيّ مشوبًا بالوطنيّة أكثر مما كان عليه في أوروبّا. ففي أوروبّا، سيأخذ كلّ من الفلسفة والأدب والعلم طابعًا عالميًّا، فالأمم عادة ما كانت تخضع لسيطرة ملوك غير عقلانيّين، ولكن أميركا كانت جديدة ومتحرّرة إلى درجة أنّه كان بمقدور الأميركيّ أن يوفِّق بيُسرٍ بين بلده، وبين أفكارٍ حول الديمقراطيّة والعقلانيّة والطبيعة وطيبة الله، وكانت أميركا هي المكان الذي يمكن لأمور من هذا النوع أن تحدث فيه، بل إنّها كانت تحدث بالفعل. وعلى هذا النسق، فإنّ مواقف فكريّة مثل حرّيّة العبادة، والحقّ في المثول أمام محاكم مشكَّلة من النبلاء، أو حقّ التصويب ارتبطت بـ “الطريقة الأميركيّة” التي حصلت على مباركة دينية، وبالمقارنة، فإنّ مثل هذه الأفكار لم تكن ذات ارتباط بالكَنَديّين والأستراليّين الذين استوطنوا أميركا في أوقات لاحقة، وتجنّبوا كثيرًا من القضايا التي أُثيرت في القرن الثامن عشر، وقد استقرّ هؤلاء في الغالب بمساعدة الأمن أو الجيش أو الحكومة، وارتبطت معاني الحرّيّة والازدهار لديهم ببلدهم الأم، إي إنكلترا، ولم يكن للدين أو للثورة مكان على الإطلاق ضمن هذا المفهوم[32].
التلفيق بين مفارقتين: التديُّن والحرّيّة
نَمَت الطريقة الأميركيّة كنسقٍ جديد يجمع في فضائه ما فرَّقه التنوير في أوروبّا. كان لدى الأميركيّين المشبعين بفنون تسييل الميتافيزيقا في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع القدرةَ على ممارسة إجراءات الوصل والفصل بين العلمانيّة وبين الدين كلّما اقتضت شرائط مشروعهم الحضاريّ ذلك.
لقد أظهرت شواهد التجربة أنّ العمليّة الحضاريّة الإنغلو- أميركيّة، جاءت بفعل تضافر مكوِّنين اثنين شديدي التمايز، ولطالما كانا في حال عداء مستحكم، وهما: حسُّ التديَّن وحسُّ الحرّيّة. ولكن التجربة في أميركا – على ما يبيِّن كثيرون – أفلحت في الوصل بينهما، وفي مزجهما على نحو مذهل، واللاَّفت – كما يُلاحظ المؤرّخ والمفكّر الفرنسيّ الكبير الكسس دو توكفيل – أنّ منشئي إنكلترا الجديدة (أميركا) كانوا، من أعتى “المتشيِّعين”، ومن أشدّ “المجدِّدين” حماسة في الوقت نفسه، وحين كانت صلاتهم الوثيقة ببعض المعتقدات الدينيّة تقيِّدُهم، كانوا في الوقت نفسه متحرّرين من كلّ الأفكار السياسيّة المسبقة. من هنا أمكن مشاهدة نزعتين مختلفتين، ولكن غير متعارضتين، لا يشقّ على الباحث أو المؤرّخ أن يقع على آثارهما في الأعراف العامّة والتقاليد، كما في القوانين[33].
وهكذا ظهرت الصورة على تمام وضوحها- كما يحلِّلُها دوتوكفيل في كتابه “عن الديمقراطيّة في أميركا” (De la Democratie en Amerique) – إذ بدل أن تفسد إحداهما الأخرى، تتوافق هاتان النزعتان المتناقضتان في الظاهر، وتبدوان قابلتين لكي تسدِّد إحداهما الأخرى.
الدين عند دوتوكفيل: يرى في الحرّيّة المدنيّة دُربةً نبيلة لملَكَات الإنسان، مثلما يرى في العالم السياسيّ ميدانًا أعدَّه الخالق لجهود العقل، والدين الطليق وذو السلطان في دائرته، الراضي بما حُبيَ به من مكانة، يُدرك ان مملكته راسخة الأسس، فلا تسود إلاّ بقواها الخاصّة، وهي تسيطرُ بلا سندٍ على الألباب، وأمّا الحرّيّة فإنّها ترى في الدين رفيق كفاحاتها، وانتصاراتها، ومهد طفولتها، والمنبع الإلهيّ لحقوقها، وهي تعتبر الدين وقاية للأعراف والتقاليد، مثلما ترى الأعراف والتقاليد ضمانة للقوانين وعربون ديمومتها. ومع ذلك، فما غاب عن بال دوتوكفيل، أنّ مثل هذا الجمع بين أمرين متعاكسين ومفارقين لم يستطع أن يسبر أغوار التفاوتات الطبقيّة والاجتماعيّة، وحتّى المعرفيّة التي حكمت الأزمنة الأميركيّة المتواترة، وحسبه أن يرى تبعًا لذلك أنّ اللوحة التي يشكّلها المجتمع الأميركيّ، هي لوحة مكسوَّة بطبقة ديمقراطيّة، وتحت هذه الطبقة تلوح بين الفينة والفينة ألوان الأرستقراطيّة القديمة[34].
مهما يكن من شيء، فلكي نفهم أميركا اليوم جيّدًا، فينبغي أوّلًا إدراك أهمّيّة البروتستانتيّة المسيحيّة في تكوين المثل الأعلى الثقافيّ الأميركيّ، ولسوف تتضاعف مثل هذه الأهمّيّة متى عرفنا أنّ إنكليز أميركا انطلقوا من فكرة أنّ مجتمعهم سيكون معروفًا كونيًّا، وهذا يعني أنّ المستعمرين الإنكليز الذين حطَّوا الرحال في إنكلترا الجديدة، ثم باتوا بعيدين عن العالم، في حين وضعوا نصب أعينهم أن يؤسّسوا لبلد سيكون مثلًا يُحتذى به لأوروبّا كلّها، وفي القرن الثامن عشر سوف يشكّل هذا المثل الأعلى الدينيّ تعبيرًا للعالميّة البروتستانتيّة. ولأسباب لا حصر لها فإنّ الأميركيّين الذين أخفوا مسافة لأنفسهم ليكونوا بمنأى عن هذه العالميّة في نهاية القرن السابع عشر، هم أنفسهم الذين تمثَّلوا رسالة التنوير. وللدلالة على هذا، لم يكن روسو، على سبيل المثال، معروفًا في أميركا عام 1770، في حين كان مونتسكيو يشكّل مرجعًا يسهم في إرساء حقوق الإنسان في إيطاليا، ومع أنّه من الصعب فهم هذا التحوّل من المسيحيّة المتديّنة إلى المسيحيّة التنويريّة، إلّا أنّه كان موجودًا بالفعل، ومنذ اللحظة التي أصبح فيها هذا التحوّل حقيقيًّا مع إنشاء الجمهوريّة الأميركيّة، برزت ظاهرة في غاية الأهمّيّة، عنينا بها مسألة العبوديّة، التي لم يكن أحد على الإطلاق يتحدّث عنها قبل حرب الاستقلال، لقد غَدَت هذه المسألة حاضرة في كلّ مكان داخل المجتمع الأميركيّ، من هنا ستدور الأسئلة الكثيفة مدار هذا المركَّب العجيب من التديُّن والعلمانيّة، الذي سوف يصل شيئًا فشيئًا إلى بلورة ما يسمّى بـ “الدين المدنيّ”. أمّا عن ماهيّة وطبيعة العلمانيّة الأميركيّة التي ستتمخّض عن هذا التركيب، فغالبًا ما تُحال الإجابة إلى دائرة الكلام على تغاير المسارات المجتمعيّة في كلٍّ من أميركا وأوروبّا، فقد حصلت في العام 1830 ثورة ثقافيّة جديدة في أميركا، حيث كانت المرحلة الأولى متمثّلة في نشوء جمهوريّة أميركيّة ستبدو من الآن فصاعدًا علمانيّة. تلا هذه الثورة حقيقة أنّ الأميركيّين الذين كانوا في الأعوام 1830- 1840 لا يزالون يعتبرون أنفسهم قبل 1770 مجرّد طوائف آتية من الريف الإنكليزيّ، باتوا يشعرون بأنّهم أميركيّون حقًّا، ثم راحوا يبتدعون صورة مخصوصة لما هو أميركيّ، ثمّ أنتجوا أدبًا ذا بعد عالميّ لتصدير هذه الرؤية الجديدة. وعلى ما يتبيَّن للمفكّر الفرنسيّ باتريس هيفونيه، فإنّه لا يمكن لأميركيّ إلّا أن يكون ديمقراطيًّا وعصاميًّا أيضًا في مرحلة الولادة والتكوين، ويقرّر أنّه في ذلك الوقت تمّ إرساء دعائم فكرة أنّ أميركا ديمقراطيّة. أمّا أوروبّا، وفرنسا على وجه الخصوص، فستظلّ تُعتبر بلادًا تحنُّ إلى الأرستقراطيّة، وعلى ما يلاحظ هيفونيه، فإنّ الفرنسيّين يخضعون للدولة، وهم ليسوا بطليعيّين ولا بعصاميّين، ولا يفقهون شيئًا في الفرديّة؛ ذلك أنّ فرديّة الفرنسيّين مشوّهة الشكل وملتوية، ويقفون على هامش المجتمع، في حين أنّ الأميركيّ يؤثِّر في المجتمع وعليه، ويضيف في هذا السياق أنّ المواطن الأميركيّ ليس في حاجة إلى الدولة التي يرى فيها عدوًّا له، أو أنّها آلة لجباية الضرائب تمنعه من القيام بتحقيق طموحاته[35].
خاتمة نقديّة:
سوف نرى كيف انداحت الأطروحة الأميركيّة إلى أقصى آماد حضورها الأيديولوجيّ حين دخل التديّن السياسيّ كعامل مقرّر وحاسم في دفع لاهوت القوّة والعنف إلى ذروة الاستخدام، فقد كشف استطلاع للرأي أجرته مجلّة تايم وشبكة (سي.أن.أن) العام 2000 “أنّ نحو ستين في المئة من الأميركيّين مؤمنون بأنّ التنبّؤات في سفر الرؤيا سوف تتحقّق؛ لذا تأتي كلمة (Apocalypse) ومعناها: دمار العالم ونهايته، مرادفةً لكلمة (Revelation) الرؤيا، ويؤمنون أيضًا بأن هذا العالم وهذا الزمان ينتهيان عندما يعود المخلّص ابن الله ليحمل البرَرَة الصالحين المسيحيّين المولودين من جديد إلى الجنّة، ويلقي بالخطّائين الآثمين (باقي شعوب العالم) في نار جهنّم الأبديّة”.
ولبيان آليّة توظيف هذا الاعتقاد الدينيّ في حقل الممارسة السياسيّة نشير إلى أنّ ثمّة لاهوتيّات وطوائف عديدة ومتشعّبة تؤمن بهذه الفلسفة الانقضائيّة التدميريّة، لكن الأكثر نفوذًا على الصعيد السياسيّ هم أولئك المعتنقون لأفكار اللّاهوتيّ الأنجلو إيرلنديّ جون نيلسون داربي الذي نشر في منتصف القرن التاسع عشر فكرة التفسيرات الحرفيّة للكتاب المقدّس، وهي التفسيرات التي قدّمت ترتيبًا زمنيًّا مفصّلًا لنهاية العالم الوشيكة. لقد قسم داربي التاريخ إلى مرجعيّات تحدّدها كيفيّات التدخّل الإلهيّ. وأعطى سفر الرؤيا في العهد الجديد أهمّيّة لم يعرفها من ذي قبل. كما بشّر بقرب تحقيق النبوءات لجهة عودة اليهود إلى فلسطين والمجيء الثاني للمسيح الذي يليها.
لم ينأَ فريق المحافظين الجدد عن هذا اللّاهوت، فثمّة كثيرون منهم يؤمنون بذلك، ويزعمون أنّهم باعتماد استراتيجيّة “الفوضى الخلّاقة” إنّما يمهّدون السبيل للقيامة الكبرى للمخلّص، ومنهم من ذهب إلى مخالفة داربي واتهامه بأنّه يحرّف النصوص الكتابيّة ويشوّهها.
هؤلاء الذين خالفوا داربي سمّوا بـ”إعاديّي البناء”، وبـ “السياديّين”، وهم لا يبنون إيمانهم بعودة المسيح على أساس النبوءات الكتابيّة، وإنّما على الفعاليّة السياسيّة، ففي رأيهم أنّ المجيء الثاني للمسيح لن يحدث، قبل أن يهيّئ العالمُ مكانًا له.
يرى “الإعاديّون” – الذين يتمثّل الحكّام الحاليّون للولايات المتّحدة كثيرًا من آرائهم الميتافيزيقيّة – أنّ الخطوة الأولى لتهيئة العودة (عودة المسيح) هي “مَسْحَنة” أميركا، وبالتالي “مَسْحَنة” العالم كلّه، ويقول أحد كبار منظّريهم وهو جورج غرانت: إنّ النيّة الرئيسة للسياسات المسيحيّة هي ضمان الغلبة على الأرض لملكوت المسيح. ويتّفق الأميركيّون المناهضون والمعادون لمثل هذه المبادئ على أنّ الحركة المعروفة باسم اليمين المسيحيّ أو “المتديّن”، تمثّل أكبر خطر منفرد على قضيّة الفصل بين الدين والدولة؛ ذلك لأنّ منظّمات هذه الحملة اللّاهوتيّة الأيديولوجيّة الشرسة تسعى جاهدة إلى فرض الآراء المسيحيّة الأصوليّة عبر إجراءات حكوميّة على جميع الأميركيّين، وتاليًا على قطاعات كبيرة في العالم. فتحقيق السيادة المسيحيّة يتطلّب إلغاء الفصل الدستوريّ بين الدين والدولة، والاستعاضة عن النظام الديمقراطيّ بحكومة ربّانيّة (ثيوقراطيّة) تحكم بالقانون التوراتيّ، كما يُوجِبُ إنهاء جميع البرامج الاجتماعيّة الحكوميّة، لكي تتولّى الكنائس هذه الرعاية. يقول غرانت استطرادًا: “إنّ فتح العالم هو ما كلّفنا المسيح بإنجازه، علينا اكتساب العالم بقوّة الإنجيل، وعلينا ألاّ نقبل بأيّ شيء أقلّ من ذلك؛ إذ فقط عندما يتمّ الفتح الشامل يمكن للمسيح أن يعود”.
هكذا تبدو أميركا اليوم، مسحورة بنفسها إلى حدود الغواية القاتلة، وحتى الذين نظّروا لها بوصفها الدولة الكاملة، أو الدولة العالميّة المنسجمة بحسب التعبير المستعار من هيغل، سيكون لهم غير باب مفتوح على التشاؤم. صحيح أنّها ستكون بفضل قوّتها واقتدارها وعظمتها آمنة، لكنّها ستفقد روحها، وستكفّ أميركا عن أن تكون “المدينة الواقعة على جبل” كما يقول تشارلز وليام ماينـز، وسوف تصبح بدلًا من ذلك ـ كما يضيف ـ أمّةً مرقّعة تقسمها الولاءات والأعراق، يسكنها شعب يفزعه السفر إلى الخارج، ومغادرة البيوت داخل الوطن”…
هل يعني هذا أن يدخل الأميركيّون عصرًا جديدًا من التشاؤم؟
سؤال أخذ يحفر مجراه العميق بعدما بلغت نظريّة “الفوضى الخلّاقة” شوطًا بعيدًا مع المحافظين الإنجيليّين الجدد، وبعد زلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر لم يعد السؤال مجرّد افتراض، لا بل إنّ أميركا المحافظة الجديدة حتى وهي تتطيّر من نشوة نصرها في الحرب الباردة، لم يغب عن نفسها المشحونة بالقلق وارد التشاؤم، والهلع، من اليوم التالي.
المصادر والمراجع العربية
- مجلة لوغوس، العقل الأوّل (كائن يفصل بين الخالق والكون في الأفلاطونيّة الحديثة). كلمة الله.
- باتريس هيفونيه، من حوار أجرته معه مجلّة “إيستوريا” الباريسيّة عام 2005. أيضًا يمكن مراجعة تعريب د. منصور حديفي لهذا الحوار المنشور في مجلّة “مدارات غربيّة”، العدد السابع، صيف 2005.
- خوسيه كازانوفا، الأديان العامّة في العالم الحديث، المنظّمة العربيّة للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت 2007، ترجمة: قسم اللغات الحيّة في جامعة البلمند.
- روبرت م- كروندن، موجز تاريخ الثقافة الأميركيّة، ترجمة: مازن حمّاد، مراجعة أحمد يعقوب المجدوبة، الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، الأردن، 1995.
- شوقي ريّاشي، البراغماتيّة الأميركيّة، حين يغدو انتصارها على العالم أشدّ إيلامًا، أسبوعيّة “الشمس”، العدد التاسع والأربعون، السبت 4 آب/أغسطس 2007.
- كارين آرمسترونغ، النزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ترجمة: محمد الجورا، دار الكلمة، دمشق 2005.
- الكسس دوتوكفيل، عن الديمقراطيّة في أميركا، ترجمة: بسام حجَّار، معهد الدراسات الاستراتيجيّة، بغداد- بيروت، الطبعة الأولى 2007.
- نيكول غيتان، نشأة النزعة القوميّة الأميركيّة ومصادرها، مجلّة “مدارات غربيّة”، العدد السابع، صيف 2005، ترجمة: جورجيت حدّاد، العنوان الأصليّ للمقال: Genese et Sources du Nationalisme Americain
المصادر والمراجع الأجنبية
- Winthrop Hudson/ Nationalism and Religion (1) in America. New York, Harpers and Row. 1970.
* مفكّر وأستاذ محاضر في الفلسفة وعلم اجتماع الدين ـ لبنان.
[1] Logos: العقل الأوّل (كائن يفصل بين الخالق والكون في الأفلاطونيّة الحديثة). كلمة الله.
كارين آرمسترونغ، النزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ترجمة: محمد الجورا، (دمشق: دار الكلمة، 2005)، الصفحة 19.
[2] الكسس دوتوكفيل، عن الديمقراطيّة في أميركا، ترجمة: بسام حجَّار، (بغداد- بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجيّة، الطبعة الأولى، 2007)، الصفحة61.
[3] ألكسيس دوتوكفيل، عن الديمقراطيّة في أميركا، مصدر سابق، الصفحة 68.
[4] المصدر نفسه، الصفحة 69.
[5] نقصد منها الحركة الجوهريّة في الاجتماع البشريّ. وسيكون لنا مجال آخر في تعريف هذا المصطلح، وتفصيله وبيان دلالته المعرفيّة والفلسفيّة. (المؤلف).
[6] روبرت م- كروندن، موجز تاريخ الثقافة الأميركيّة، ترجمة: مازن حمّاد، مراجعة أحمد يعقوب المجدوبة، (الأردن: الدار الأهليّة للنشر والتوزيع، 1995)، الصفحة 15.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 15.
[8] موجز تاريخ الثقافة الأميركيّة، مصدر سابق، الصفحة 17.
[9] موجز تاريخ الثقافة الأميركيّة، مصدر سابق، الصفحة 18.
[10] نيكول غيتان، نشأة النزعة القوميّة الأميركيّة ومصادرها، مجلّة “مدارات غربيّة”، العدد السابع، صيف 2005، ترجمة: جورجيت حدّاد، العنوان الأصليّ للمقال: Genese et Sources du Nationalisme Americain.
[11] نيكول غيتان، نشأة النزعة القوميّة الأميركيّة ومصادرها، مصدر سابق.
[12] Winthrop Hudson/ Nationalism and Religion (1) in America. New York, Harpers and Row. 1970- p.55.
[13] نيكول غيتان، نشأة النزعة القوميّة الأميركيّة ومصادرها، مصدر سبقت الإشارة إليه.
[14] نشأة النزعة القوميّة الأميركيّة ومصادرها، مصدر سابق.
[15] كارين آرمسترونغ، النزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحة 94.
[16] كان الصاحبيّون (Quakers) في الأساس مجموعة دينيّة متطرّفة منشقَّة تعود جذورها إلى القرن السادس عشر، وما زال الجدل يحتدم حول طبيعة الأيّام الأولى لنشوء هذه الطائفة، ولكنّها ظهرت بشكلها المعروف والحقيقيّ في شخص جورج فوكس في الأربعينات من القرن السابع عشر. ثم تطوّرت هذه المجموعة خلف قيادة ويليام بن في الستينات من ذلك القرن وما بعد ذلك. وكانت الطهرانيّة ذات تأثير قويّ على التجربة الفرديّة لقلب الإنسان وهي تشقّ طريقها نحو السموّ، وكان الصاحبيُّون هم المجموعة التي حملت هذا الاتجاه إلى ذروته.
[17] كارين آرمسترونغ، النزعات الأصوليّة في اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، مصدر سابق، الصفحة 95.
[18] كروندن، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحة 58.
[19] كروندن، مصدر سابق، الصفحة 61.
[20] المصدر نفسه، الصفحة 61.
[21] شوقي ريّاشي، البراغماتيّة الأميركيّة، حين يغدو انتصارها على العالم أشدّ إيلامًا، أسبوعيّة “الشمس”، العدد التاسع والأربعون، السبت 4 آب/أغسطس 2007.
[22] كروندن، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحة 201.
[23] كروندن، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحة 202.
[24] المصدر نفسه، الصفحة 203.
[25] كروندن، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحة 204.
[26] المصدر نفسه، الصفحة 206.
[27] خوسيه كازانوفا، الأديان العامّة في العالم الحديث، ترجمة: قسم اللغات الحيّة في جامعة البلمند، (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربيّة، 2007)، الصفحة 28.
[28] خوسيه كازانوفا، الأديان العامّة في العالم الحديث، مصدر سابق، الصفحة 209.
[29] المصدر نفسه، الصفحة 30.
[30] روبرت كروندن، مصدر سابق، الصفحة 62.
[31] ر. كروندن، مصدر سابق، الصفحة 63.
[32] كروندن، مصدر سابق، الصفحة 64.
[33] ألكسس دوتوكفيل، عن الديمقراطيّة في أميركا، مصدر سبقت الإشارة إليه، الصفحتان 85 و87.
[34] المصدر نفسه، الصفحة 89.
[35] باتريس هيفونيه، من حوار أجرته معه مجلّة “إيستوريا” الباريسيّة عام 2005، أيضًا يمكن مراجعة تعريب د. منصور حديفي لهذا الحوار المنشور في مجلّة “مدارات غربيّة”، العدد السابع، صيف 2005.
المقالات المرتبطة
التأويل السياسي للتنزيل الديني، قراءة في أنماط وثقافة الحركات التكفيرية المعاصرة
البحث يدور حول أنماط فكر وثقافة جماعات الإسلام السياسي، وكيف استخدموا التنزيل الديني لخدمة الغرض السياسي، وكيف تلقفت الدوائر المخابراتية العالمية تلك الجماعات لتفكيك البلاد، خاصة بعد الحراك الشعبي في الدول العربية،
التفلسف على ضفاف علم الكلام
فيما يلي محاولة لاستحضار خلاصة مكثفة عن التصور، الذي يراد له أن يسود عن علم الكلام وتاريخه وارتباطاته العقلية والفلسفية. …
الفكر العربي الحديث والمعاصر | أركون قارئًا للتراث الإسلامي
عَمِل أركون على تطبيق منهجيته على التراث الإسلامي عبر الاستراتيجية التفكيكية التاريخية، التي تعمل على إعادة النظر في العناصر المقدسة،