سؤال الصورة في الإسلام
تنتشر الصور والنصب والتماثيل اليوم بكثرة في العالمين العربي والإسلامي، بخلاف ما عاينه الرحالة والمستشرقون في القرن التاسع عشر أبان زياراتهم للمنطقة، الأمر الذي أثار لديهم فضولًا معرفيًّا عن حال الصور (تصويرًا وتشكيلًا وفنًا)، وقلة إنتاجها لا انعدامها والموقف منها في بلاد يطغى عليها الدين الإسلامي.
قد يظن المرء في القرن الحادي والعشرين، عصر الصورة بامتياز، أن الجدل حول موقف الإسلام من الفنون، فنون السماع والغناء والموسيقى وفنون التشكيل والنحت والتصوير، قد انحسم لمصلحة هذه الأخيرة. غير أن أطرافًا في الحركة الإسلامية المعاصرة حكموا بحرمة هذه الفنون، وكما يقول المفكر الإسلامي المصري محمد عمارة، هناك بيوت حُرّمت فيها الأغاني وحطّمت الصور، وهناك نفر من غلاة الإسلاميين نزعوا من بطاقات الهوية صورهم الشخصية.
وحادثة تحطيم تماثيل بوذا في باميان (أفغانستان) عام 2001 لا تزال حاضرة في الذاكرة. لا يبدو مستغربًا، والحال هذه، أن تعاود الأستاذة الجامعية في جنيف سيلفيا نايف، طرح “سؤال الصورة في الإسلام؟” (باريس، منشورات بايو، 2004)، من جهة الإباحة والتحريم. وفي عرضنا هذا لكتابها سنكتفي بالمقاربة النظرية التي حكمت رؤيتها للموضوع.
هل الصورة محرّمة في الإسلام؟ المقصود بالصورة تلك التي تمثل كائنات حية تملك روحًا (أو نفسًا)، أي البشر والحيوانات، ولا تدخل ضمنها النباتات والأشياء الجامدة.
في القرآن والسنة
في العودة إلى النص القرآني، وإلى الآية التي أمكن الاستنتاج أنها تفيد منع الصور (المائدة/90)، تجد الباحثة أن المنع يطاول عبادة الأوثان والأنصاب. أما كلمة صورة تحديدًا فترد مرة واحدة (الانفطار/82) بمعنى خلق الإنسان، أي بمعنى تصويره وإعطائه شكلًا، ويشير فعل التصوير (يرد 4 مرات) إلى فعل الخلق من جانب الله.
النص القرآني إذًا لا يأخذ موقفًا محددًا من الصورة، فكيف أمكن منعها؟ لا بدّ من مراجعة كتب الحديث الستة (المدونة بين القرنين التاسع والعاشر) عند السنّة، والكتب الأربعة عند الشيعة الإمامية الاثني عشرية (الموضوعة بين القرنين العاشر والحادي عشر) التي لا تحوي أحاديث الرسول فحسب لكن أقوال الأئمة أيضًا، للوقوف على ما تفصح عنه في شأن الصورة.
تبدأ الكاتبة بـ”صحيح البخاري” (القرن التاسع) الأكثر استخدامًا عند السنّة، وهو يضم نحو سبعة آلاف وثلاثمئة حديث، مرتبة في سبعة وتسعين فصلًا وفقًا للموضوعات. ولا يوجد بينها واحد مخصص لمسألة الصور، بل هي مبثوثة في فصول عدة ذات صلة بالثياب والصلاة. الأمر نفسه نجده في كتب الصحّاح الأخرى. ما يمكن استخلاصه الآتي:
أن الصور غير طاهرة، وتاليًا لا تتوافق مع ممارسة الصلاة: “لا تدخل الملائكة منزلًا فيه كلب ولا فيه صورة”، (البخاري، الموضوع 77 و87). تقترب الصورة هنا من الوثن فلا يمكن قبولها في مكان الصلاة. ويروي الطبري (توفي 923) أن الرسول محمد في فتح مكة (630) دمّر نحو 360 صنمًا قبل أن يستطيع تأدية الصلاة.
كتب الحديث الشيعية تطرح المسألة في عبارات مماثلة كما يشير إلى ذلك معنى هذا الحديث: “قلت [للإمام الخامس، محمد الباقر] عندما أصلي، يوجد أمامي تماثيل وأنظر إليها. فأجابني: لا ضرر في ذلك إذا غطيتها بثوب. لا ضرر إذا كانت على يمينك أو يسارك، خلفك أو فوق رأسك، إذا كانت في اتجاه القِبلة. ضع عليها غطاء وصلّ”. (الطوسي، الاستبصار، الفصل 233، 1502/1). الخوف من العودة إلى الوثنية واضح هنا، فالمنع لا يتعلق بوجود الصور في ذاتها، لكن في إمكان أخذها موضوعًا للعبادة. الطابع المدنس للصور يبدو أكثر وضوحًا لدى الشيعة حيث يرد عند الكليني في الكافي (باب تزويق البيوت) أن الإمام علي بن أبي طالب “يكره الصور في المنازل”.
إن للمكان الذي توضع فيه الصورة أو الحامل لها، دورًا في جعلها حرامًا أو حلالًا. ففي أحد الأحاديث أن عائشة (زوج الرسول) صنعت ستائر باستخدامها قماشًا فيه تصاوير لكائنات حية، فلما رأى الرسول ذلك كره ما صنعت، فبادرت إلى صنع وسائد منها فلم يقل شيئًا، ورأته عائشة “متكئًا على إحداهما وفيها صورة”. (البخاري، الموضوع 77، 91). التصاوير المعلقة إذًا ممنوعة لكن يمكن وضعها على الأرض. أما عند الشيعة، فإن التصاوير على الوسائد أو السجاد مقبولة طالما أنها “أشياء تداس بالأقدام”، كما يُنقل عن جعفر الصادق (الكليني، تزويق، 6). وهناك رواية أخرى للحديث نفسه ترى أنه مكروه وليس حرامًا الصلاة على سجادة فيها تصاوير. (الطوسي، الاستبصار، فصل 233، 1503/2).
وتشير الكاتبة إلى أن التراث اليهودي يحوي تفسيرات مشابهة لما ورد. فإحدى نسخ التوراة في الآرامية تفسر المقطع (26/1 اللاويين) الذي يمنع السجود أمام الأوثان على النحو الآتي: يمكنكم أن ترصفوا موزاييك يُمثل أشكالًا وصورًا على أرض معابدكم (…) ولكن لا لتركعوا أمامها.
إن الذين يصنعون الصور سيعاقبون في الآخرة، حيث سيجبرهم الله على نفخ الروح في مخلوقاتهم (الله وحده الخالق)، وحين يخفقون يكون مصيرهم نار جهنم.
أصل ذلك أن كلمة مصوّر تعني الرسام والخالق في آن واحد. والخالق أحد أسماء الله الحسنى. والرسام في عمله (يصنع بريشته كائنات تريد أن تشبه التي يخلقها الباري) يقترب من ملامسة حقل مخصص للألوهية.
أخيرًا، من المسموح به رسم صور، شرط ألا تقلد الحياة البشرية أو الحيوانية. ويروى أن رجلًا من أهل العراق، كان يحترف التصوير جاء إلى عبد الله بن عباس، فقال له: “يا ابن عباس، إني رجل أصور هذه الصور، وأضع هذه الصور، فافتني فيها؟”… فقال له ابن عباس: “أنبئك بما سمعت من رسول الله (ص). سمعت رسول الله يقول: كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفسًا تعذبه في جهنم”! … ثم استطرد ابن عباس فدعا الرجل إلى أن يصور ما لا حياة فيه. فقال للرجل: “… فإن كنت لا بدّ فاعلًا، فاجعل الشجر وما لا نفس فيه”. (صحيح مسلم، 37، 99).
في شكل عام، نصوص الحديث السنية والشيعية واضحة إذًا في منع التصوير التشبيهي، وإن كان ثمة تيار يقبل به في ظل ظروف وشروط محددة.
موقف العلماء في العصر الكلاسيكي
قدم بعض علماء المسلمين في العصر الوسيط تفسيرًا مختلفًا لنصوص الحديث، منهم أبو علي الفارسي (901 979)، والقرطبي (توفي 1272 أو 1273). بالنسبة إلى الأول وهو لغوي قريب من المعتزلة، يتعلق التحريم في تمثيل الله “في شكل جسدي”. أما القرطبي فيؤكد في تفسيره القرآن أن عددًا من العلماء أباح الصور استنادًا إلى مقطعين قرآنيين يقبل فيهما نبيان بوجود صور ثلاثية البعد. في النص الأول (قرآن، سبأ/13)، أنشأ النبي سليمان قصرًا مليئًا بالمحاريب والتماثيل، ساعده الجن في بنائه. النص الثاني عن عيسى بن مريم (قرآن، المائدة/ 110) الذي صنع طيرًا من الطين ثم نفخ فيها حياة.
من هذه الأمثلة يستنتج الباحث بشر فارس وجود “جدل حول الصور” في الإسلام أثارته فرقة المعتزلة.
والحال، ثمة بعد آخر شغل علماء الكلام في تلك الفترة. فالتصاوير أشياء مترفة لا تتناسب مع مثال التواضع الذي يجب أن يكون المؤمن عليه، تأسيًا بالرسول نفسه الذي لم يمتلك سوى القليل من متاع الدنيا. كما تشي مقاطع كثيرة في “إحياء علوم الدين” للغزالي (توفي 1111) بكره للترف. ففي فصل مخصص لآداب الأكل ومن ضمنه باب “آداب الضيافة” يقول أبو حامد: “أن يمتنع من الإجابة [إجابة الدعوة] إن كان الطعام طعام شبهة، أو الموضع أو البساط المفروش من غير حلال، أو كان يقام في الموضع منكر من فرش ديباج أو إناء فضة، أو تصوير حيوان على سقف حائط…”. (الأحياء، ج2، ص 16). وفي مقطع لاحق يؤكد أن “فرش الديباج واستعمال أواني الذهب والتصوير على الحيطان…” هي من المنكر. كذلك، يذهب النووي (الشافعي المذهب، 1233 – 1277) إلى اعتبار وجود سرير من الحرير أو صور في غرفة طعام شيئًا منكرًا. أما تصوير الشجر والجبال والأرض وكل ما لا يتضمن صورة حيوان، فأمور مباحة.
سؤال الصورة
توقف علماء الدين المسلمون عند ثلاثة مبادئ في شأن الصورة وجدوها في كتب الحديث: تحريم عبادة الأوثان، ومقولة عدم الطهارة (النجاسة)، وفكرة الامتناع عن الخلق لأنها مهمة الله.
دان العلماء في غالبيتهم الصور، لكن هل انشغل هؤلاء بموضوع الصور في شكل محدد كما حصل الأمر في المسيحية؟ في نظرة عن قرب، ترى الباحثة أن السؤال لم يكن محوريًّا، إذ جرى تناوله في سياقات أخرى وضمن موضوعات مختلفة (الثياب، الصلاة، الآداب)، فلا توجد معالجات أو رسائل مخصوصة حول الصور. وهذا ربما يفسر لماذا لم يتعرض المسلمون في العصور القديمة للصور المسيحية إلا نادرًا. فبخلاف ولاية يزيد الثاني الأموي (720 – 724) لم يدمر المسلمون أي أشكال تصويرية، في حين أنهم كانوا يجادلون ضد العقائد المسيحية وخصوصًا التثليث ولم يتعرضوا للصليب رمز هذا المعتقد.
لم تؤدّ الآراء السلبية في شأن الصورة إلى المنع التام، لكنها أثرت في استخدامها، فاستبعدت الأشكال التشبيهية من الفضاء المقدس مثل الجامع ومن أمكنة الصلاة ومن الحيز العام.
الصورة غير طاهرة، وللطهارة دور رئيسي في الممارسة الدينية، وهي تشمل الفرد المسلم والمكان أيضًا. وبالتعارض بين الطاهر والنجس يميز الإسلام بين المقدس والمدنس، فقدسية المكان يحددها غياب الأشياء التي تعد مدنسة. من هنا استخدام سجادة في الصلاة تحدد للمصلي محيط المكان الطاهر.
أضحى الفن التشبيهي إذًا، فنًا دنيويًّا، بخلاف المسيحية التي جعلت منه موضوعًا رئيسيًّا مرتبطًا بالعبادة، أقله حتى وصول البروتستانتية. ويقترب الموقف الإسلامي كثيرًا بحسب نايف من موقف اليهودية، حيث لا يرتبط المنع بالتعبير الفني، بل بالممارسة العبادية المرتبطة به.كأن الإسلام، خاتم الأديان التوحيدية، أراد رد الاعتبار إلى التوحيد الذي أتى به إبرهيم، فدان الصورة في توافق تام مع النص في العهد القديم (سفر الخروج 20/4) والذي يفيد: “لا تضع صورة منحوتة، لا شيء يشبه ما هو في السماء، أو في المياه أو تحت الأرض”.
جذور رفض الصورة
ترى الباحثة أن ثمة مشكلة في نسبة الموقف من الصورة إلى الإسلام التوحيدي والتنزيهي. فالقرآن لا يدين التصوير في شكل واضح، بينما حسمت كتب الحديث الأمر لجهة المنع (التحريم). لكن ومن زاوية نظر تاريخية، جمعت كتب الحديث في أوقات لاحقة على الأحداث التي ترويها، أي في القرون الأولى للإسلام. فكيف نفسر إذًا بناء مسجد قبة الصخرة في القدس (نحو 691 – 692)، والجامع الأموي في دمشق (706 و714 – 715) بعد الفتح العربي في بلاد تقطنها غالبية مسيحية من دون تصاوير تشبيهية؟ المثير للعجب أيضًا أن الرؤية الهندسية في المكانين، في الأسلوب وتقنية التزيين (الموزاييك) تعود إلى التراث البيزنطي. مع العلم أن الفنانين الذين عملوا فيهما إما مسيحيون وإما من السكان المحليين الذين تحولوا حديثًا إلى الإسلام.
كيف نفسّر إذًا غياب التصاوير التشبيهية في حين أن قصور الخلفاء الأمويين المشيدة في الصحراء السورية وفي العصر نفسه مزينة بالجداريات التي تمثل الكائنات الإنسانية والحيوانات (قصر عمرة على سبيل المثال)؟ فهل من الجائز أن تكون الإدانة القرآنية للأوثان قد جرى فهمها على أنها منع (كامن) لكل تصوير تشبيهي؟ وفي محاولة للإجابة، طرح كثير من المستشرقين ومن أجيال عدة، عددًا من الآراء منها حجة تقول بنوع من “نفور سامي” aversion sémitique من الصورة، نفور يفسر غياب الصورة في الإسلام كما في اليهودية (وفي الحالين الأمر غير صحيح). والبعض الآخر يبيّن أن الصور التشبيهية في قصور الصحراء أنجزت في أماكن مدنسة مثل الحمامات (تقول الحفريات الأثرية غير ذلك).
فرضيات
تبقى أكثر إقناعًا في نظر الباحثة الفرضية التي قدمها عام 1973 في جامعة يال أوليغ غرابار في كتابه “تشكيل الفن الإسلامي” (ظهر بالفرنسية عام 1987)، وفيها أن غياب الرموز الواضحة والتي يمكن أن تفهم من الجميع وتستطيع أن تنافس في مواجهة محيط مسيحي يمتلك أيقونوغرافيا لا لبس فيها، هو ما رجح وجود علامات بعيدة من الأيقنة Signes Aniconiques كي تطبع الوجود الرسمي للإسلام. وعلى هذا النحو قام الخليفة الأموي عبد الملك (685 -705) الذي عرّب الإدارة بصك نقود لا تحوي إلا كتابة تعلن الإيمان بالله ورسوله، مستبعدة بعض المحاولات الأيقونية في هذا الشأن. وفرضت الكتابة العربية نفسها على السلالات الحاكمة كافة، وحتى اليوم، كسمة مميزة للنقود بكونها رمزًا “أيقونوغرافيًّا” فعليًّا.
ويؤكد غرابار “أننا نقدر في شكل عام (…) أن المذهب (أو أقله العناصر المكونة) الذي يقول بمعارضة الفن التشبيهي قد تبع بالأحرى ولم يسبق التخلي الجزئي عن مثل تلك التمثيلات”. هذا الاقتراح من غرابار يلتقي مع الشرح الذي قدمه ت. ماتينجر عن النفور الإسلامي في الصورة، في أطروحته التي خصصها لليهودية البدائية. يقول إن غياب التصوير التشبيهي للإلوهية ظاهرة منتشرة بكثرة عند الشعوب السامية الغربية وعند العرب قبل الإسلام. هكذا، ففي الإسلام كما في اليهودية، كان القصد غياب أوجبته الممارسة الدينية المحلية والتي لا تعرف الصورة موضوعًا للعبادة. تأتي إدانة الصورة إذًا وتندرج في موقع لاحق على غيابها.
تخلص الكاتبة إلى أن المماثلة بين الإسلام واليهودية في هذه المسألة تعود في درجة أقل إلى صلة نسب بين الديني (كما أشار إلى ذلك باحثون عديدون) بقدر ما تعود إلى تطور مواز في سياق ثقافي متشابه، وحيث تمارس حضارات أخرى عبادات لا صورة فيها، حول أحجار غير منحوتة، الأمر الذي يلتقي مع فرضية قدّمها المستشرق فان غرنباوم مفادها أن معاداة الصورة، البيزنطية والمسلمة، لا تعود إلى تأثيرات متبادلة لكنها جزء من خلفية ذهنية مشتركة في المنطقة.
المقالات المرتبطة
موقف لوي ماسينيون من الإسلام
شكَّل الإسلام محورَ حياة المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (1883–1962)، باحثًا ومحقّقًا ومدرِّسًا ولغويًّا وعالمَ اجتماع، وموظفًا عموميًّا في خدمة دولته ومصالحها،
قراءة في كتاب تأسيس مشهد ديني: التعليم العالي الشيعي في الدولة الصفوية
كيف استطاعت أمة ذات أغلبية سنية أن تصبح شيعية بمعظمها في غضون قرنين فحسب؟ كيف ساهم الباحثون في تأسيس مجتمع مختلف؟
شارات المُلك في قصور الحمراء
حدّثنا العلامة ابن خلدون في مقدّمته عن الشارات الخاصة بالملك والسلطان فقال: “أعلم أن للسلطان شارات وأحوالًا تقتضيها الأبهة والبذخ