نحو تجاوز “الإسلاموفوبيا”
كما احتاج شفاء المريض بالخوف من اللون الأحمر إلى محلّل نفسي يكشف له عن الأسباب الحقيقية والعميقة والمنسبة لمرضه، فإن على المعنيين بالإسلاموفوبيا وتجاوزها أن يقدموا تحليلًا عقلانيًّا وواقعيًّا للأسباب البعيدة والحقيقية، والأسباب المباشرة الناتجة لفهم تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا بشيء من الموضوعية والعمق، وهذا ما حاولنا القيام به تحت عنوان: “أسباب تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا”.
غني عن البيان، أن هذا التحليل شرط ضروري، ولكنه غير كاف، فكما في حالة المريض المصاب بالخوف من اللون الأحمر، لا يكفي أن يكشف له الأسباب ليشفى، بل ينبغي للمريض أن يقتنع بهذه الأسباب لكي يتحقق لديه الشفاء من المرض الذي يعاني منه، كذلك الأمر في حالة الإسلاموفوبيا يكون على المعالجين أن يقنعوا المصابين بأسبابها الحقيقية والمباشرة، وعلى المرضى أن يقتنعوا بهذه الأسباب تمهيدًا لتجاوز ما يعانون منه.
لكننا في حالة الإسلاموفوبيا، ينبغي لنا أن نميّز بين من يسعى لإشاعة هذا المرض بوعي خدمة لأغراض واعية ومقصودة، وبين من يتأثر بهذه الإشاعة ويصاب فعلًا بهذا “المرض”. ويقوم بالتصرّف على أساسه.
يمكن أن يستنتج من هذا التحليل الذي قمنا به لأسباب تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا أن من يعمل لإشاعة هذا المرض بوعي ولأغراض واعية ومقصودة هم العاملون في خدمة قوى الاستحواذ في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والتربوية… وأن المتأثرين بهذه الإشاعة هم عامة الناس في بلدان هذه القوى.
ويلاحظ، في هذا المجال، أن المتطلعين لمعالجة الإسلاموفوبيا يركزّون، في معظمهم، على ما يعود لعامة الناس المتأثرين بإشاعة الأجواء المساعدة على توليد الإسلاموفوبيا لديهم من قبل العاملين لذلك بوعي. ولذلك فإنهم يتحدثون عن دور العالم الإسلامي “في مكافحة الإسلاموفوبيا على مستويين أساسيين: أولهما، تبنّي بعض البرامج العلمية المنظمة لتوعية المواطن الغربي على نطاق واسع، ومدى طويل نسبيًّا، بصورة الإسلام والمسلمين الصحيحة… وثانيهما، التعاون مع الأقليات المسلمة في الدول الغربية لتأهيل وتدريب أكبر عدد من السفراء المدنيين القادرين على تقديم صورة الإسلام الصحيحة للمواطن الغربي بشكل يومي ومحلي ومؤسّسي منظم”[1].
من الواضح أن هذا التوجه وما يماثله أو يقترب منه، وهو كثير وشائع على كل حال ينطلق من نظرة لأسباب تنامي الإسلاموفوبيا مفادها، أن الأمر يعود إلى جهل الغربيين بالإسلام. ولذا، فإن المعالجة تكون بتعريف الغرب إلى الصورة الحقيقية للإسلام التي شوهتها تصرفات بعض المسلمين المتسمة بالعداء للغرب.. ولكن على أهمية مثل هذا التوجه وضرورته، من حيث المبدأ، فإنه بذاته، غير موصل لتحقيق الهدف، لأنه لا ينطلق من مواجهة الأسباب الحقيقية، الاقتصادية والسياسية المبنية على معطيات ثقافية وحضارية، التي أوردناها في ما تقدم. والمعالجة الحقيقية والموصلة إلى هدفها، ينبغي أن تبدأ بمعالجة هذه الأسباب، وفي هذا المجال يمكن طرح المعالجات التالية:
I في ما يعود للغرب.
- تخلي قوى الاستحواذ عن مناهجها في التعاطي مع المسلمين وغير المسلمين من موقع الأنوية الاستعلائية التي تجعل الغرب وحضارته وما قامت عليه هذه الحضارة من رؤى وقيم النموذج الذي ينبغي أن يسود العالم وأن يأخذ به المسلمون وغير المسلمين من أبناء الحضارات الأخرى، والقبول بواقعة تعدّد الحضارات وما تستند إليه من رؤى دينية وغير دينية، واحترام النتائج المترتبة على هذا القبول في التعاطي مع الحضارات والثقافات الأخرى. ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾[2].
- التخلي عن التصرف وفقًا لهذه الأنوية الاستعلائية في التعاطي مع بلدان العالم الأخرى، وفي مقدمتها البلاد الإسلامية، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وإعلاميًّا، واحترام حقوق هذه البلاد في ثرواتها وسياساتها وثقافاتها، وسيادة دولها في تعاطيها مع هذه الحقوق وترك الأمر لسنة التعارف (التعارف والتنافس السلمي)، لتنتج مفاعيلها على هذه الأصعدة، كما على الصعيد الثقافي- الحضاري، في أجواء من الحرية البعيدة عن الضغط والإكراه واستخدام القوة التي تلجأ إليها قوى الاستحواذ في خدمة أنويتها الاستعلائية.
- التخلي عن الكيل بمكيال المصلحة الأنوية بعيدًا عن القيم الإنسانية، بما فيها تلك القيم المرتبطة بالحضارة الغربية نفسها، فلا تكون مع الديمقراطية مثلًا، عندما تخدم هذه المصلحة، وترفضها عندما تخدم مصلحة آخرين، ولا نتصرف بالطريقة نفسها مع حقوق الإنسان والمواثيق والأعراف الدولية وغيرها.. والشواهد على التعاطي بهذه الطريقة أكثر من أن تُحصى.
- التخلي عن تعبئة وتجييش شعوبها وغير شعوبها فكريًّا وإعلاميًّا لخدمة تلك الأنوية الاستعلائية، واستغلال ردود فعل غير إنسانية لمسلمين لا يتقيدون بالتعاليم ولا بالأخلاق الإسلامية كما رأينا.
II في ما يعود للمسلمين.
بداية، لا بدّ من الإشارة إلى أن ما طرحناه من معالجات في ما يعود لقوى الاستحواذ هو عبارة عن شروط ضرورية لمعالجة الإسلاموفوبيا، ولكن هذه الشروط تبقى نوعًا من الأحلام الطوباوية إذا لم تتوفر الشروط الموضوعية التي تفضي إلى إجبار قوى الاستحواذ على الأخذ بها، وهذا ما يتطلب من المسلمين:
- التخلي عن المراهنة على تغيير مواقف واتجاهات قوى الاستحواذ، بما فيها الكيان الصهيوني، من خلال التنازلات والتراجعات والاستجابة السهلة لمطالبها ومصالحها السياسية والاقتصادية وغيرها… يستوي في ذلك المستويان الرسمي والشعبي لا سيما النخب السياسية والثقافية.
- انتهاج سياسات استقلالية في التعاطي مع مختلف الشؤون الاقتصادية والسياسية والثقافية. بالاتجاه الذي يحفظ السيادة الوطنية ويضبط العلاقات مع قوى الاستحواذ (وليس مع العدو الصهيوني) على أساس التكافؤ والاحترام المتبادل الواقعي والموضوعي، وليس الشكلي المفرغ من أي مضمون حقيقي.
إذا بدا أن هذين المطلبين طوباويان أيضًا، نظرًا لأوضاع القوى الرسمية وما تستتبعه من نخب ثقافية وسياسية، فإن هنالك نموذجين تخليا عن هذه المراهنات وانتهجا سياسيات استقلالية، أحدهما على الصعيد الرسمي متمثلًا في الجمهورية الإسلامية في إيران، وثانيهما على الصعيد الشعبي متمثلًا في المقاومة الإسلامية في لبنان، وحماس والجهاد في فلسطين… وما ماثلها في العراق وأفغانستان. هذان النموذجان، لا سيما الأول منهما وما تم إنجازه بفعل انتهاج هذه السياسات على الرغم من الجهود المبذولة ضدهما من قوى الاستحواذ والكيان الصهيوني وحلفائهما على الصعيدين الرسمي والشعبي… كل ذلك يظهر بما لا يبقي مجالًا للشك أن انتهاج هذه السياسات ممكن ولكن بعد تأمين الشروط التي أمّنها منتهجو السياسات الاستقلالية، والتي أسهمت في إنجاح هذه السياسات. وهنا يأتي دور النخب الثقافية والسياسية في تصويب مسيرة السياسات في هذه البلدان الإسلامية في هذا الاتجاه.
وإذا بدا أن العمل بهذا الاتجاه ما زال يواجه عراقيل وصعوبات تضعه في دائرة المستحيلات، فإن ما تحقق منه فعلًا يؤكد فكرة مسؤولية المسلمين وقدرتهم على إجبار قوى الاستحواذ على التخلي شيئًا فشيئًا عما أشرنا إليه تحت عنوان: “في ما يعود للغرب”.
- وفي هذا السياق يأتي ضرورة قيام العلماء وقادة الرأي المسلمين بقراءة الاتجاهات الإسلامية التكفيرية، وتقييمها على ضوء الإسلام نفسه واتخاذ الموقف الملائم من قراءتها للإسلام ومن سلوكاتها المبنية على هذه القراءة من جهة، وعلى تصرفات قوى الاستحواذ اتجاه الإسلام والمسلمين من جهة ثانية.
- السعي لإقامة علاقات مع نخب ثقافية وسياسية وإعلامية غربية، بدأت تدرك المظالم التي تقترفها الدوائر السياسية الغربية والكيان الصهيوني بحق العرب والمسلمين، لا سيما في فلسطين ولبنان… وتزويدها بكل ما يلزم لبلورة موقفها وإسناده بما يلزم من وثائق ومعلومات ورؤى وتحليلات… إلخ. وهنا يأتي دور ما اقترحه الكاتب علاء بيومي الذي أشرنا إليه.
- الحرص على التعاطي، حتى مع الخصوم والأعداء، وفقًا للتعاليم والقيم والأخلاق الإسلامية. ﴿تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾[3]، و ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ و ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[4]، و ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾[5]. ومن باب أولى تعاطي المسلمين على مختلف مذاهبهم وفرقهم وتشكيلاتهم السياسية والثقافية والاجتماعية بوحي من هذه التعاليم والقيم والأخلاق.
- الحرص على بلورة صورة واقعية لوحدة المسلمين في إطار تعدّد مذاهبهم وفرقه واتجاهاتهم تقوم على التعاون والتآزر على كل ما يحفظ حقوق المسلمين ومصالحهم على مختلف الصعد.
وإلى أن يتحقق ذلك أو بعضه ستظل “الإسلاموفوبيا” وما يمكن أن يرتبط بها من “غربوفوبيا” قائمة، وإذا سعى بعض ذوي النوايا الطيبة للتخفيف من حدّتها بفعل هنا أو قول هناك، فإن استئصال شأفتها يظل مرهونًا بالمعالجات التي أشرنا إليها.
[1] علاء بيومي، صعود الإسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية، الجزيرة نت، الصفحة 3.
[2] سورة الحجرات، الآية 13.
[3] سورة آل عمران، الآية 64.
[4] سورة البقرة، الآية 256.
[5] سورة الممتحنة، الآية 8.
المقالات المرتبطة
ما الفلسفة؟
الفلسفة، في نظر دولوز، هي فنّ اختراع الأفاهيم وابتكارها وصنعها، أو هي بالأحرى فنّ إبداع الأفاهيم. والأفهوم هو فعل فكريّ محض
معهد المعارف الحكمية يعبّر عن رؤية بدأت تتبلور لإنتاج مشروع فلسفي جديّ تحت اسم إلهيات المعرفة
في جولته على معاقل الفكر والثقافة، أجرى موقع المعارف الحكمية الإلكتروني، حوارًا فكريًا مع كبير الباحثين في معهد المعارف الحكمية الدكتور أحمد ماجد.
الحقيقة الميتافيزيقيّة بين حسّ الطبيعة وحدس الوجود
يبدو أنّه من التعسّف أن نقارب السؤال عن ماهيّة الميتافيزيقا في ظرف ملتبس لا يخلو تمامًا من الممارسة الميتافيزيقيّة، فمنذ