النمـوّ فـي المعرفــة
النموّ في المعرفة. موضوع حديثي هذا عزيز عليّ، لا لأنّي أملك نواحيه جميعًا، ولا لأنّي اطّلعتُ على أسرار المعرفة، بل لأنّه يدور حول أمر له أهميّة قصوى في حياة الإنسان المتفطّن ونتائج جمّة في توجيه مسالك البشر، ولأنّه يدور حول أمر له أيضًا أهميّة كبيرة في صياغة علاقة الجماعات والشعوب، والثقافات والحضارات بعضها ببعض.
نعرض إذن في هذا الحديث إلى قضيّة النموّ في المعرفة: النموّ في المعرفة إجمالًا، وتفصيل مجالات هذه المعرفة، وعرض نتائجها العمليّة.
عندما نتكلّم عن النموّ في المعرفة لا نقصد هنا معرفة الحقائق العلميّة، ولا معرفة الحقائق التي تنبعث من اختبار الحياة على مدى السنين، إنّما نقصد معرفة الحقيقة الدينيّة. وقد أكّدت ضرورة ذلك ضُمّة من النصوص في وثائق عقائدنا في المسيحيّة وفي الإسلام.
جاء في إنجيل يوحنّا عن السيّد المسيح قولُه: “إنّ عندي أشياء أخرى كثيرة أقولها لكم، ولكنّكم لا تطيقون الآن حملها. فمتى جاء هو، روح الحقّ، فإنّه يرشدكم إلى الحقيقة كلّها”. (يوحنّا 16: 12 – 13).
وكتب بولس الرسول إلى المؤمنين من جماعة كولسّي: “نحن لا ننفكّ… نصلّي لأجلكم، سائلين (الله) أن تبلغوا إلى معرفة مشيئته معرفة كاملة، في كلّ حكمة وفهم روحيّ… وتثمروا بكلّ عمل صالح، وتنمو في معرفة الله”. (كولوسي 1: 9 – 10). “فإنّ علمنا ناقص”. (1 كورنثس 13: 9).
ثمّ إنّ الرسل الحواريّين قالوا للسيّد المسيح بشهادة إنجيل لوقا: “زدنا إيمانًا”. (لوقا 17: 5).
وورد في القرآن الكريم عن بعضهم أنّهم سألوا النبيّ عن الروح، فأجابهم “الروح من أمر ربّي، وما أوتيتم من العِلم إلاّ قليلاً”. (الأسراء 17: 85). وجاء هذا الجواب حضًّا لهم على استكمال العلم والنموّ في المعرفة.
ثمّ إنّ القرآن يحرّض النبي محمّدًا نفسه على أن يطلب إلى الله أن “قل ربّ زدني علمًا”. (طه 20: 114).
- المنطلق يقين الإيمان
وتبدأ رحلة هذا النمو في المعرفة، رحلةً طويلة، ومنطلقها يقين الإيمان. فإنّ المؤمن ينطلق من حقيقة إيمانه الأكيدة، ولا سيّما في ما يتعلّق بعقيدة دينه المُلزمة. وهو يحيا موقنًا بأنّ ما تقبّله وأقرّ به استنادًا إلى كلام الله هو موافق للحقيقة عند الله، وفي الوقت عينه في ما يخصّ أحوال الحياة في عالم البشر. ولذلك فإنّ من حقّه، بل من واجبه أيضًا، أن يقول بحقيقة إيمانه وأن يعترف بها ويتمسّك بها ضدّ كلّ امتحان وشدّة. فإنّ محتويات الإيمان المُلزمة هي أسس استسلام عقل الإنسان وقلبه إلى الله ربّ الحقيقة والخلاص. إنّ هذه المُلزمات لا يحلّ التصرّف بها تصرّفًا حُرًّا. إنّها في جوهرها ليست موضع مراجعة وتصحيح مستمرّين أو استرجاع وإبطال.
يمكن أن تحصل فيها زيادات مكمّلة، إذ هي الأساس الذي يقوم عليه البناء كلّه. ولكن هذا التوسيع لا يعني التراجع عن الحقيقة التي تمّت معرفتها وقام الاعتراف بها. ومثل هذا الاستكمال قد يحدث عندما تستتبّ أحوال جديدة وتُطرح أسئلة جديدة تقود الإجابة عنها إلى فهمٍ أعمق لمحتوى العقيدة وتعبير أدقّ عن أشكال تطبيقها. إنّ غنى الحقيقة يمكنه أن يتوسّع وينبسط، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق التخلّي عن الحقيقة، بل استكمالها.
إنّ مثل هذه الحقيقة الملزمة لا تقبل التسامح، بمعنى أنّها تنكر ما يناقضها، وهذا ليس من باب التكبّر والغطرسة، وليس هو تشامخ من يظنّ أنّه يملك وحده الحقيقة. هذا موقف المؤمن المتواضع الذي يوقن بأنّه عليه أن يصون هذه الحقيقة ويسعى إلى تفتّحها واستكمالها، وإلى جعل مفاهيمها وثمارها تظهر يانعة في حياته الشخصيّة وفي حياة جماعته الدينيّة.
- الحقيقة هي أساسًا متسامحة ومنفتحة على الحوار
إنّ الله هو ربّ الحقيقة، وهو وحده الحقّ المطلق. ولذلك لا يعني التسامح في الحقيقة أنّه يمكن التخلّي عنها والمساومة عليها والتغاضي عنها في مجال المجاملات البشريّة. ولكن بما أنّ الله وحده هو ربّ الحقيقة، فالحقيقة الدينيّة هي من طبيعتها متسامحة. وشرح هذه المقولة في ما يلي:
- المسيرة إلى كمال معرفة ملء الحقيقة
الله هو المتعالي، والله هو الحقيقة المطلقة. فالله لا يصبر على آلهة أخرى من دونه. والتسامح الذي نحن بصدده هنا لا يتعلّق بحقيقة الله المطلقة هذه. إنّه يتعلّق بالحقيقة كما يعرفها الإنسان ويعترف بها. وهذه الحقيقة في الإنسان ليست بمطلقة، بل هي نسبيّة دائمًا؛ أي إنّها لا تزال ناقصة، بحاجة إلى الزيادة والاكتمال. إنّها ليست بمطلقة، ولو كان محتواها يتعلّق بالله وحقيقته المطلقة. إنّها ليست بمطلقة لأنّها يُنظَر إليها هنا بالنسبة إلى الإنسان الذي يعرفها ويعبّر عنها.
فالله وإن أوحى بحقيقته، يظلّ متعاليًا، أي فوق مقدرة الإنسان على الاستيعاب وفوق المفاهيم البشريّة وكلام البشر.
علينا إذن، أن ننمو في المعرفة. هذا يعني أنّ جماعة المؤمنين المسيحيّين مثلًا عليها أن تسلك سبيل البلوغ إلى كمال معرفة حقيقة المسيح، وعليها أن تتقدّم في مراحل هذا السبيل، وتنمو في هذه المعرفة. ومن وسائل هذا النموّ التنبّه لما تحتوي عليه الأديان الأخرى من حقيقة وخير. وجماعة المسيحيّين عليها أن تسعى في سبيل البلوغ إلى كمال المعرفة لتحيط علمًا بملء غنى حقيقة المسيح، وقدر اكتمال هذه المعرفة يتمّ البلوغ إليه في آخر الأزمان، وحتّى ذلك الأوان يقود الروح القدس الكنيسة، جماعة المؤمنين، ويرشدها إلى الحقيقة كلّها، كما ورد في إنجيل يوحنّا (16: 13).
فطالما أنّ الكنيسة تسير على هذا الدرب، فلا يسعها أن تقابل الأديان الأخرى بمطالبة التفرّد بامتلاك الحقيقة كلّها، وبعدم تسامح صارم، بل عليها بالعكس أن تقابلها بانفتاح واسع، وباستعداد لاكتشاف وتقصّي أبعاد عمل روح الله في تاريخ البشر، ذلك الروح الذي لا تقيَّد حريّته، والذي يهبّ حيث يشاء (كما جاء في إنجيل يوحنّا 3: 8). ومن ثمّ عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الجادّ عناصر الحقيقة والخير التي يُنبتها الروح في هذه الأديان، وأن تعترف بها وتعزّزها وتتقبّلها في تراثها الخاص.
- فيضُ غنى الحقيقة
إنّ الله المتعالي هو موضوع الحقيقة الدينيّة الأوّل. فالإنسان إذن عاجز عن البلوغ إلى معرفة تامّة لحقيقة الله المتسامية، ولذلك يجب على الإنسان أن يتّصف بالتسامح في علاقته مع الذين يؤمنون بالله ويلتمسون حقيقته. وبالنظر أيضًا إلى غور غنى حقيقة الله اللامتناهية، تتّضح حدود طاقة الإنسان على تفحّص هذه الحقيقة. فإنّه ليس من أحدٍ يقدر على سبر غور حقيقة الله، “وليس أحد يعرف ما في الله إلاّ روح الله”، على ما كتب بولس الرسول (1 كورنتس 2: 11).
إنّ حقيقة الله ليست فقط لامتناهية تعدو طاقة الإنسان على الفهم، بحيث إنّ الإنسان إنّما يتنبّه لطلائع غناها أكثر من مقدرته على إدراكها. وإلى ذلك فإنّ حقيقة الله هي في مضمونها الذي يعتلن للإنسان كثيرة الجوانب، بحيث إنّ الإنسان يُضطرّ إلى البحث المتواصل لكي يبلغ إلى تفحّص عناصرها وفهمها فهمًا أقرب وأوضح، وإلى إدراك فروعها والتعبير عن لطائفها.
فالتاريخ، كلّ التاريخ في عرضه وطوله، إنّما هو زمن صبر الله وزمن رحمته وحلمه؛ أي إنّ التاريخ موطن تفتّح حقيقة الله في معرفة البشر وحياتهم، أفرادًا وجماعات. فإنّ هذه الحقيقة، وفقًا لما نعرفه منها اليوم وفي أُفق اختبارنا، ليست وثيقة أوامر أزليّة صيغت مرّة واحدة في عبارات وقواعد ثابتة. إنّها تُهيب بنا أن نتلمّس محتوياتها ونطّلع على مواقع تطبيقها، بشكل متواصل، على ضوء تاريخنا المتسلسل.
فالواقع ليس أنّ المؤمنين يملكون الحقيقة ولهم حقّ التصرّف بها. الواقع أنّ المؤمنين يُفسح لهم المجال لأنّ تمسّهم الحقيقة وأن يُنعم الله عليهم بشذرات من كنوزها. فلا داعي لأن يستكبروا تجاه الآخرين ويقابلوهم بالغطرسة، بل عليهم في تواضع عميق أن يُنصتوا إلى وقع خُطى الله ويتتبّعوا آثاره في إيمان البشر وحياتهم. وهم يأملون أن تقود أشعّة حقيقة الله، التي يمكن الاستدلال عليها استدلالًا متكرّرًا في تراث الشعوب الدينيّ، أن تقود إلى بناء جسر ثابت يربط مؤمني الجماعات كلّها بعضهم ببعض، ويرشدهم جميعًا إلى السبيل المؤدّي إلى وحدة دينيّة أوسع.
- ضرورة الحوار
من هنا تتّضح ضرورة الاطِّلاع على خزائن المعرفة والروح عند الأديان كلّها، بما تحتوي عليه من أنواع اختبار الله، وألوان معرفته، وأشكال عبادته.
وإليكم نظرة سريعة على مستويات هذا الحوار وأهدافه.
- هناك “حوار الحياة”، حيث يعمل الناس على أن يعيشوا معًا بروح انفتاح وحسن جوار، يشاطر بعضهم بعضًا الأفراح والأحزان، ويعالجون في تضامن نصوح مشاكلهم ومشاغلهم اليوميّة.
- هناك “حوار الأعمال، حيث يتعاون المسيحيّون والآخرون في سبيل تنمية كاملة وتحرّر للإنسان غير منقوص”.
وهذان الشكلان يقابلان ما نسمّيه “العيش المشترك. وهما يعبّران عن إرادة البلوغ إلى حوار أخويّ وعلاقات صداقة وولاء بين المسيحيّين وغير المسيحيّين. فإنّ صِلات الحياة اليوميّة والالتزام المشترك بالعمل تفسح المجال للعمل معًا على تعزيز القيم الإنسانيّة والروحيّة”.
ومثل هذا الحوار على مستوى الحياة والأعمال المشتركة، أي في نطاق العيش المشترك، يؤكّد أهميّة “التنمية التامّة والعدالة الاجتماعيّة وتحرير الإنسان”، فعلى جميع الفئات “أن تجنّد طاقاتها في سبيل حقوق الإنسان وأن تجاهر بمتطلّبات العدالة وأن تندّد بالمظالم، ليس فقط عندما تطال أبناءها، ولكن في غير اكتراث بالانتماء الدينيّ لضحايا هذه المظالم. كما يجب أن يتكاتف الجميع ليحاولوا أن يَحُلّوا المشاكل الصعبة التي يواجهها المجتمع والعالم اليوم، وليشجّعوا التربية على العدالة والسلام”.
وهناك مجالٌ خاصّ يجب الانتباه إليه، وهو مجال الثقافة.
- حوار التبادلات اللاهوتيّة حيث يعمل أصحاب الاختصاص على تعميق الفهم للعقيدة الدينيّة والتراث الدينيّ، وتقدير القيم الدينيّة والروحيّة الخاصّة بكلّ من الأطراف.
ومثل هذا الحوار في العقيدة يقتضي من علماء الدين “موقفًا متّزنًا”. “عليهم ألاّ يكونوا مغفّلين ولا شديدي الانحياز إلى النقد، بل أن يكونوا ذوي انفتاح وحسن تقبّل. فالتجرّد والإنصاف، وقبول الاختلافات الممكنة “هي من مبادئ الحوار السليم. هذا لا يعني أنّ المتحاورين ينسون عقيدتهم وتراثهم ويقينهم الخاصّ، بل هذا يعني أنّ عمل الله في حقيقته الشاملة وخيره السامي قد تتّضح معالمه بشكل من الأشكال لمؤمني الدين الآخر”.
وفضلًا عن ذلك، فإنّ كمال الحقيقة التي تلقّاها المسيحيّون حسب إيمانهم، أو غير المسيحيّين حسب معتقدهم لا يعني أنّ مؤمني هذا العصر قد استوعبوا هذه الحقيقة بجميع معطياتها وأبعادها وتفرّعاتها. إن البحث عن الحقيقة – أي في النهاية إنّ البحث عن الله – عمليّة لا نهاية لها لأنّ الله لا تُسبَر أغواره ولا توصف أبعاده وصفًا تامًّا. فهو العليّ المتعالي، وابتغاؤه مشروع لا ينتهي.
ثمّ إنّ الحوار في العقيدة لا يرمي في هدفه الأخير إلى التوفيق الشامل بين العقائد المختلفة والقناعات المتناقضة. فالمتحاور عليه أن يحترم أمانة المتحاور معه لدينه الخاص. إنّ الحوار يساعد على التغلّب على أشكال سوء الفهم وسوء التفاهم التي تراكمت عبر القرون، وعلى إزالة الأحكام المسبقة المرتكزة غالبًا على عدم المعرفة والتسرّع في الحكم. وهكذا بالحوار الرّصين وتبادل الفكر الناضج والبراهين المحكمة والاعتراضات التي تبحث عن مزيد من الفهم والمعرفة يمكن أصحاب العلم أن يصلوا إلى تحديد دقيق لعناصر الاتفاق ومواضع الاختلاف في العقيدة.
وهناك أيضًا نتيجة لا يستهان بها لهذا النوع من الحوار الرصين الصافي وهي إنشاء جوّ تفاهم واستعداد للتقرّب بين المحاورين، وفي كثير من الأحيان تنشأ بينهم مودّة وصداقة وأخوّة… وهذا ما اختبرته أنا شخصيًّا في مدّة قضيتها في الحوار مع بعض المسلمين تزيد على ربع قرن.
- وهناك شكل آخر من الحوار ولعلّه أعمق تبادل بين المؤمن (المسلم) والمؤمن (المسيحيّ)، وهو تبادل الخبرة الروحيّة، وأحوال العبادة والتماس وجه الله… وكم من مرّة ارتاحت نفسي أنا شخصيًّا إلى حديث روحيّ جرى بيني وبين صديق لي من المسلمين الأتقياء، حين كان يبادلني حديثه مع ربّه في صلاته ودعائه. وكم من دعاء بين الأدعية التي جمعتُها من التراث الروحي الإسلاميّ وترجمتُها إلى الألمانيّة ونشرتها، ذكّرتني بنفحات الروحانيّة المسيحيّة، واطمأنّ لها قلبي. ولا عجب، فإنّ قرابة الروح بين الإسلام والمسيحيّة أوثق ممّا يظنّ البعض، وأشدّ ممّا يتوهّم البعض الآخر.
النمو في معرفة سعة رحمة الله
الرحمة من صفات الله التي يرد ذكرها في آيات كثيرة جدًّا في الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، وفي القرآن الكريم.
نقرأ مثلًا في صلاة صاحب المزمور: “وأنت أيّها السيّد رحيم، حنون، طويل الأناة، وافر الرأفة والأمانة. (مزمور 86: 15؛ ومثلها مزمور 103: 8). إنّ الله يسكب من رحمته على عباده في شتّى أحوال حياتهم، مهما تعدّدت، ويقابلهم بالغفران إذا تابوا، مهما تكاثرت آثامهم.
ورحمة الله في الإنجيل تشمل الجميع. فإنّه كما يقول السيّد المسيح، “يُطلع شمسه على الأشرار والصالحين، ويُمطر على الأبرار والظالمين”. (متّى 5: 45). وهو “يرفق بالجحودين والأشرار”. (لوقا 6: 35)، وينتهي النصّ في إنجيل لوقا بوصيّة السيّد المسيح لتلاميذه: “فكونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم”. (لوقا 6: 36).
ونقرأ في القرآن الكريم قوله: “ربّنا، وَسِعتَ كلّ شيء رحمة وعلمًا”. (من دعاء الملائكة: غافر 40: 7). وأيضًا: “ربّك الغني ذو الرحمة”. (الأنعام 6: 133). وأيضًا: “كتب على نفسه الرحمة”. (الأنعام 6: 12 و45). ويقول الله نفسه في القرآن: “وسعت رحمتي كلّ شيء”. (الأعراف 7: 156).
إنّ سعة رحمة الله منبسطة إلى أبعد ممّا يبلغ إليه إدراك الإنسان. هو وحده يملك خزائن رحمته، يقول القرآن (راجع سورة ص 38: 9). فمن يقدر من ثمّ أن يعدّ مراحم الله الواسعة، ويطّلع على قدر خزائن رحمته هذه. فإنّ كلّ يوم يأتينا باختبار جديد لهذه الرحمة، ومهما تكدّست هذه الاختبارات، فلن تبلغ بنا أبدًا إلى أوّل آفاق هذه الرحمة الإلهيّة، ناهيك عن أقصى أبعادها السحيقة.
ومن وسائل النموّ في معرفة مدى رحمة الله وتذوّق أبعادها الجهد في الاقتداء بها. روى لنا السيّد المسيح في أحد أمثاله في الإنجيل المقدّس ما يلي: (راجع متى 18: 23 – 35). كان لسيّد عبد يدين له بمال كثير. فترك له الدين، إذ سأله أن يمهله. وهذا العبد نفسه قبض على أحد رفقائه العبيد الذي كان له عليه دين يسير وأخذ بخناقه، ولو أنّ ذلك طلب إليه هو أيضًا أن يمهله. فغضب سيّدهما على ذلك العبد القاسي القلب، الذي لم تجد الرحمة إلى قلبه سبيلًا. لأنّه لم يَعِ أنّا جميعًا علينا دين بعضنا لبعض ولله، وأنّ رحمة سيّده وهو هنا يمثّل الله تعالى – تلك العدالة، عدالة المحبّة التي يعاملنا بها هي مثال علينا جميعًا أن نقتدي به.
تطبيق هذا من باب التخلّق بأخلاق الله، كما ورد في الحديث الشريف. وهذا دربٌ منفتح لا يصل سالكه إلى نهايته.
وعندي بعض الأمثلة العمليّة على المجالات التي تُفقد فيها الرحمة ويستشري فيها الظلم، لعلّ في ذكرها هنا بعضَ الفائدة والعِبرة.
1) نبتعد عن الرحمة ونقترف الظلم بالفكر
عندما يدور البحث عن حلّ لمسائل معقّدة ولا نصبر على الفكر لنتعمّق في التفكير ونتوسّع ونبحث عن الحلول الموافقة حقيقة.
عندما نرفض الفهم، ولا نريد أن نعلم ما يؤمن به الآخرون، وما يفكّرون فيه ويعلمون به. وعندما لا نريد ولا نحاول الاطلاع على السبب الذي يحدوهم على ذلك الموقف الفكري والعمليّ.
عندما نتشبّث بآرائنا المسبّقة.
عندما نقابل الآخرين بتحفّظ وابتعاد، ونواجههم بالبغض والاحتقار.
وأيضًا عندما نقابلهم باللامبالاة.
عندما لا نبدي أيّ استعداد للبحث عن السبل التي تفتح مخرجًا من مآزق الفكر، وعندما لا نتألّم من أنّ الآخرين لا يجدون مخرجًا ويتخبّطون في الظلمة.
عندما لا نقبل بالواقع الذي يقرّ أنّ جميع البشر تربطهم بعضهم ببعض صلات نسب، وعندما لا نظهر أي عزم على إقامة عيش مشترك وناجح.
2) نقترف الظلم بالقول ونبتعد عن الرحمة
عندما يخيّم رفض الفهم والقدح على أشكال اتصالنا الكلامي.
عندما لا نجتهد في الوصول إلى دقّة التعبير، حيث من الضروري أن تكون هناك معرفة قائمة على التمييز وأحكام مرتكزة على التمييز.
عندما نرفض الحوار ونفضّل التهجّم على عقائد الآخرين وآرائهم.
3) نقترف الظلم بالفعل ونبتعد عن الرحمة
عندما لا نظهر في معاملتنا للآخرين الاحترام والتقدير لشخصهم وهويّتهم.
عندما يسود الخصام بدل السلام.
عندما نرفض إشراك الآخرين في الخيرات الماديّة والمعنويّة والروحيّة أو عندما نهمل القيام بذلك.
عندما نرفض التسامح، تسامح الأكثريّة اتجاه الأقليّة، وتسامح الأقليّة اتجاه الأكثريّة.
عندما نعطّل إرادة الاشتراك في العمل في سبيل المصلحة العامّة في المجال الاقتصادي والسياسي.
عندما نرفض التعاون بين مختلف الفئات والجماعات والشعوب.
عندما لا نفسح المجال للآخرين لتأدية مساهمتهم في الفكر والتعبير والقول والعمل.
عندما يكون محرومون أو معذّبون عديدون أو فئات كاملة من السكان، أو حتّى بلاد بمجملها مطروحين عند بابنا تنهكهم الفاقة، ونحن ننعم برغد العيش طائشين متجاهلين مترَفين، ونحمي أموالنا وغنانا بإقامة حواجز رفيعة، فلا نأبه للمعوزين وأصحاب الفاقة ولا نقدّم لهم معونة فعّالة.
من تأمّل في هذه اللائحة وتبصّر في أيّ مجال نصادف الظلم وأنواعه، لا يعجب من بعد أن يقرأ في أحد المزامير وعند بولس الرسول: “إنّه ليس بارّ ولا أحد… ليس من أحد يعمل الصلاح، ولا واحد”. (مزمور 14: 1 – 3؛ رومة 3: 12).
أمّا كيف تمكن إزالة الظلم بأشكاله المختلفة، فهذا ما يعود في كثير من نواحيه إلى اختصاص علماء الحقوق والاجتماع والاقتصاد والتربية. أمّا أنا فأشتغل في علوم الأديان وقضايا اللاهوت المسيحي. وأودّ أن أعرض نظرة قد يصنّفها البعض في باب الخياليّات. ولكنّها في نظري نقدٌ بنّاء للتقصير في الوضع، ونداء ملحّ للنهوض والسعي المثابر إلى الوصول إلى مثال أعلى. وهذا المثال لا يجوز فهمه كأنّه فكرة نظريّة، بل هو حقيقة تطالِب. حقيقة تطالِب ومرجع حاكم، لأنّها مصدر حياتنا البشريّة وتاريخنا البشري، وغايتهما وديّانهما، لأنّها هي الله نفسه. إنّي أنادي بإقامة عدالة أخويّة مرتكزة على التضامن الشامل والمحبّة الشاملة.
النموّ في معرفة محبّة الله
يسأل بولس الرسول الله أن يجعل المؤمنين ينمون الفهم، بعرضه وطوله، وعلوّه وعمقه، وأن يجعلهم “يدركون تلك المحبّة التي تفوق كلّ إدراك فيمتلئون هكذا من كلّ ملء الله”. (أفسس 3: 18 – 19).
إدراك المحبّة، ومعرفة المحبّة، ليس من نوع المعرفة العقليّة بالتحليل الدقيق والبراهين والاستدلال. إدراك المحبّة ومعرفة الرحمة معرفة من باب الاختبار. وإدراك المحبّة الذي نتوجّه إليه في هذا القسم الثالث من العرض هو نوع من الحدس والاستسلام.
عندما ارتقى الرسول يوحنّا الحبيب في معارج العرفان إلى إدراك المحبّة الإلهيّة، لم يتمالك أن يكتب في رسالته الأولى إلى المسيحيّين ويصف ذات الله بقوله: “الله محبّة”. (1 يوحنّا 4: 8، 16).
إن كان الله محبّة، فهذا يعني أنّه أينما اشتعلت ومضة من المحبّة، فهي قبس من محبّة الله.
إن كان الله محبّة، فلا تسع الكونَ رحمته فقط، بل هو يسبغ أمطار محبّته على العالم والبشر.
إن كان الله محبّة، فلا قدرة لنا نحن البشر أن نقيس مقدار بذل محبّته. فإنّ المحبّة – حتّى عند الناس – لا تكتفي بالقليل – فكيف حالها في الله؟ المحبّة تطمع بالكثير، المحبّة تُغالي في العطاء. المحبّة لا تعرف الحدود الضيّقة.
المحبّة أوسع ما تكون السعة في القلب والإدراك، والبذل والتسليم… ولا أعذب.
من ذاق طعم محبّة الله وذاب مرّة في عشقه، لا يني يلتمس الله ويرجو سكبًا من محبّته. هو يرتقي قلبه في معارج الروح، حاملًا معه البشر وهمومهم وآلامهم، في رحلة طويلة إلى عند الله.
من أنعم الله عليه بنشوة من طعم المحبّة، لا يهدأ به دافع المحبّة. رحلته إلى الله طويلة لا تنتهي. ومتى وصل إلى عند الله – إن وهبه الله أن يصل إلى عنده – ومتى وصل إلى عند الله، انطلقت رحلته الأبديّة، الأعمق والأطول، رحلته في الله، كما يقول أهل العرفان، رحلته في الله… ولا نهاية!
إنّ أحوال العارف والعاشق والمحبّ متنوّعة. نموّه في محبّة الله ورحلته إلى قرب الله تعتريهما أحيانًا حالات التخلّي. فيشعر كأنّ الله بعيد عنه. والله في الواقع هو البعيد القريب، أو قل، كما تشاء، هو القريب البعيد. فحين يختبر السالك البعد يشعر بنفسه كأنّه يسلك في نفق الظلمة. ولكنّه واثق أنّ الله لا يتخلّى عنه، بل نفق الظلمة هو شكل من أشكال الامتحان، لكي يعلم المحبّ أنّه ليس بقدرته الشخصيّة يحبّ الله، بل أنّ الله هو أحبّنا أوّلًا بلا حدّ، ولا رجعة، وبه وبنعمته نستطيع نحن أن نصبو إلى حبّه ونحبّه، حتّى ولو مرّ سيرنا في أنفاق من الظلمة والتخلّي. فكما أنّ محبّة الله لا رجعة عنها، فكذلك تكون محبّتنا له… ولا رجوع!
خاتمة
يطيب لي أن أختم هذا العرض بمقتطفات من دعاء للإمام زين العابدين، عنوانه: مناجاة المحبّين:
إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلًا،
ومن ذا الذي أمسى بقربك فابتغى عنك حِوَلا؟
إلهي فاجعلنا ممّن اصطفيته بقربك وولايتك، وأخلصته لِوُدِّك ومحبّتك، وشوّقته إلى لقائك… ومنحته بالنظر إلى وجهك… وخصّصته بمعرفتك… وهيّمت قلبه لإرادتك… واخترتَه لمناجاتك، وقطعت عنه كلّ شيء يقطعه عنك…
أسألك حبّك وحبّ من يحبّك، وحبّ كلّ عمل يوصلني إلى قربك وأن تجعلك أحبّ إليّ ممّا سواك، وأن تجعل حبّي إيّاك قائدًا إلى رِضوانك. وشوقي إليك ذائدًا عن عصيانك. وأمنُن بالنظر إليك عليّ، وانظر بعين الودّ والعطف إليّ، ولا تصرف عنّي وجهك. واجعلني من أهل الإسعاد والحظوة عندك، يا مجيب، يا أرحم الراحمين (الصحيفة السَّجّاديّة الجامعة، دار الصفوة، بيروت 1422ﻫ – 2001م، ص 413 – 414).
ثمّ أزيد بعض آيات من رسالة القدّيس يوحنّا الأولى، من العهد الجديد في الكتاب المقدّس.
“من لا يحبّ لم يعرف الله، لأنّ الله محبّة… على هذا تقوم المحبّة: لا أنَّا نحن أحببنا الله، بل هو نفسه أحبّنا… ونحن قد عرفنا المحبّة التي لله فينا، وآمنّا بها. إنّ الله محبّة: فمن ثبت في المحبّة ثبت في الله، وثبت الله فيه”. (1 يوحنّا 4: 8، 10، 16).
المقالات المرتبطة
علم الوجود عند الملّا صدرا
المصطلح الأول كلمة «الوجود» في الفلسفة الإسلامية. مفهوم «الوجود» أمر ذهني يقف على الجهة المعاكسة لمفهوم «العدم».
الروحانية وعلم النفس(8)*
كان البحث عن معنى للحياة بعيدًا عن الدين وبمعزل عن الروح هو أزمة العلمانية الكبرى خلال قرونها الثلاثة الأخيرة، فسعت لملء الفراغ بالأشياء المادية
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه -6 –
يرى العديد من المفكّرين والباحثين الإسلاميين أن أساس الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي -وعلى أساس ما جاء في القرآن الكريم- هو الفطرة..