نشأة الباطنية وأثرها في الأديان (4)
ثالثًا: الإسلام
لم يسلم الباحثون عن الحركات الباطنية في الإسلام، من كثير من التطرّف ومجافاة الحقيقة، ذلك أنهم ربطوا نشأة الباطنية في الإسلام بالشيعة، على مختلف فئاتهم وفرقهم، مدّعين أن الباطنية قد تأسست على يد عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي أسس مبدأ التشيع بزعمهم، وابتدع فكرة الوصية لعلي بن أبي طالب (ع)، وكذلك فكرة المهدوية في الإسلام.
إنه نظرًا لأهمية هذه المسألة وخطورتها، نرى من الضروري الوقوف عند بعض المحطات الأساسية، ودراسة المفردات، ولو يسيرًا وبإيجاز، علّنا نصيب كبد الحقيقة في هذه المسألة.
ألف: أنه انطلاقًا من تعريف الباطنية المتقدم، والمشتمل على مفردة التأويل، لا بدّ من ملاحظة هذه المفردة وبيان معناها، فنقول:
التأويل تفعيل من الأول، وهو يعني إرجاع الشيء إلى أوله وبدايته وأصله، وتأويل الكلام إرجاعه إلى جذوره الأولى، وهذا الإرجاع تارة يكون منسجمًا مع دلالات الألفاظ، غير مناقض ولا مناف لظاهرها والمتفاهم منها بحسب الاستعمالات العرفية، بل يتحمل اللفظ معناها بما له من الاستعمال، وأخرى يكون منافيًا لدلالتها الظاهرة منها ومناقضًا لها.
والمحذور إنما يتأتّى من فهم التأويل بالمعنى الثاني دون الأول، لأنه بناء عليه لا يبقى للنص الشرعي أية قيمة، ما دامت ألفاظه فاقدة لمضامينها ومحتوياتها، وسيضيع ميزان التفاهم والتخاطب، والاحتكام إلى أي أصل تشريعي في مقام بيان الحق وتحديده، ويعود الميزان إلى ذات الشخص ومزاجه، لأن الباطن لا يمكن كشفه إلا من خلال القرائن والإمارات الظاهرة، والتي من أهمها الألفاظ ودلالاتها، وينقلب الموضوعي إلى ذاتي، فتتعدد الشريعة وأحكامها بتعدد الأشخاص وأمزجتهم وحالاتهم.
وهذا بخلاف التأويل بالمعنى الأول، فإنه لا يستبطن أي منافاة بين دلالات النص اللغوية وبين المعنى الذي يؤول إليه، بل إن المعنى الباطن فيه والمستفاد منه، لا يخرج عن دائرة الاستخدام والاستفادة اللغوية، وإنما هو جزء من النظام اللغوي العام في المحصلة النهائية، غاية الأمر أنه يختلف حاله باختلاف مستويات المخاطبين المعرفية، واستعداداتهم النفسية لتلقي هذه المعارف واستيعابها.
إن الجذر التاريخي للحملة على التأويل بهذا المعنى – وإن كان ذلك من الناحية النظرية فقط، وأما من الناحية العملية فهم ملتزمون به، كما يشهد به تراث أهل السنة على العموم- هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي ضرب رجلًا يقال له صبيغ حتى أدماه، لأنه كان يسأل عن مشكلات القرآن، حتى أقرّ بعدم عودته إلى مثل هذه الأسئلة، ثم طرده إلى الكوفة، وأرسل إلى عامله أبي موسى الأشعري أن لا يخالطه ولا يجالسه أحد[1].
ثم جاء التابعون والمفسرون بعد ذلك، وحاولوا تخريج هذه المسألة من الناحية العلمية والنظرية، فلم يجدوا ما يصلح سندًا لها من كتاب الله سوى قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَ أُولُو الألْبَابِ﴾[2]، حيث فصلوا بين قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ﴾، وبين ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾.
هذا مع أنهم رووا عن عدد من الصحابة والتابعين عدم الفصل بينهما، فقد كان ابن عباس يقرأ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾[3]، وكان يقول: “أنا ممن يعلم تأويله”[4].
وعن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ: “والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به”[5]، ومثله عن مجاهد[6]، بل إن أكثر المتكلمين يقرأون بوصل التأويل[7]، هذا كله مضافًا إلى روايات أهل بيت العصمة(ع).
والحقيقة أن الآية الشريفة ليس فيها دلالة على منع التأويل بهذا المعنى، وإنما هي تتحدث عن فئة من الناس “الذين في قلوبهم زيغ” فيعمدون إلى نحو من أنحاء التأويل من خلال ضرب المتشابهات بعضها ببعض، يبتغون الفتنة من فعلتهم هذا، مع أنهم ليسوا من الراسخين في العلم.
ويشهد لهذا المعنى ما ورد عن قتادة في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾… “قال طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، واتبعوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك”[8].
قال الطبرسي: “ومما يؤيد هذا القول – أي الوصل، وأن قوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ عطف على لفظ الجلالة- أن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه ولم يفسروه بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله”[9].
وقد ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري في بيان الفرق بين المحكم والمتشابه “أن المحكم ما يعلم تأويله والمتشابه ما لا يعلم تأويله”[10].
باء: من المفردات الأساسية في العقائد الباطنية مفردة “الغلو” وهي تعني مجاوزة الحد والخروج عنه، والغلو في الدين تجاوز الحد الذي حده الله تعالى بالزيادة عليه، ويقابله التقصير، ويعني الخروج عن الحد من جهة النقصان وكلاهما فساد فيه، ولذلك أكد تعالى على اتباع الحق دون إضافة فيه أو تقصير عنه، قال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[11].
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾[12].
إنه طبقًا لهذه القاعدة والقانون تدخل السنة التي استنها أصحاب الشورى واشترطوا فيها على أمير المؤمنين (ع) بقولهم: “نبايعك على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين” ورفضها علي (ع)[13]، لأن سنة الشيخين لم تكن من الدين، بل هي إضافة فيه، لأنه قد تم وكمل عند قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً[14].
وهي تندرج من ناحية أخرى تحت عنوان آخر من عناوين الغلو، وهو ما يسمّى بنظرية “عدالة الصحابة” استنادًا إلى الحديث المنسوب إلى رسول الله (ص): “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم”[15]، لأن ما لا يختلف فيه اثنان من العقلاء، وما تؤكده الوقائع التاريخية، أن الصحابة كانوا بشرًا عاديين، تتقاذفهم الأهواء والطموحات، ودارت بينهم الحروب والنزاعات، وسفكت بأيدي بعضهم دماء وانتهكت حرمات، كما أنهم كانوا على مستويات مختلفة من المعرفة والثقافة، وقد وصف أمير المؤمنين (ع) حالهم من هذه الناحية بأبلغ وصف وأدق تعبير، حين قال: “وقد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ولا ما عنى رسول الله (ص) فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله (ص) من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأله (ع) حتى يسمعوا”[16].
ومن كان حالهم كذلك، فكيف يمكنهم افتراضهم كنجوم الهداية، وقد ثبت عن رسول الله (ص) أنه لن ينجو منهم على الحوض إلا مثل همل النعم[17]، ولا مجال للبحث في الدوافع والأسباب، الداعية لهم إلى مثل هذا الاعتقاد، فإنه خارج عن موضوعنا فعلًا. إلا أنه يمكن القول على العموم، إنها وردت إلى المسلمين من مسلمة أهل الكتاب الذين كانوا من المقربين إلى الخليفة الثاني، وكانوا يحدثون في المساجد والمجالس، وينقلون عقائدهم إلى المسلمين، دون أي مانع أو رادع، بل بدعم وتأييد منه، في الوقت ضُيِّق فيه على الصحابة ومنعهم من التنقل في الأمصار ومن التحديث عن رسول الله (ص) إلا بشروط قاسية جدًّا، وهكذا أوردت أكثر العقائد الطارئة على الإسلام بعد كمال الدين وإتمام النعمة.
جيم: المفردة الثالثة من مفردات التعريف هي “الباطن”، وهي تعني داخل الشيء وحقيقته وجوهره، وهو من الكلام مضمونه ومعناه، ولما كانت معاني الكلام متفاوتة في درجة ظهورها، كان الكثير منه بحاجة إلى تفسير وكشف لمعناه، وتفاوت درجات ظهوره تابع لدرجات أفهام الناس، فقد يكون ظاهر بالنسبة لقوم باطنًا بالنسبة لآخرين، وعلى هذا يمكن حمل تعدّد البطون، فإن عدم ظهور المعنى لشخص ما، لا يعني عدم دلالة اللفظ عليه لخفاء معناه على هذا الشخص، من هنا ساوى كثير من العلماء بين التفسير والتأويل[18].
وقد قال أمير المؤمنين (ع): “وأن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي ولا تنكشف الظلمات إلا به”[19].
ونقل قريب من هذا الكلام ابن عباس قال: “إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء، وجانبوا به السفهاء”[20].
وعن علي (ع): “ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه، إلا أن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم بنيكم”[21].
وقريب منه عن النبي (ص) أنه قال: “كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الحبل المتين، وهو الذكر الحكيم، وحكم ما بينكم، الحديث”[22].
وقد ورد عن النبي (ص) ذكر البطن صريحًا، فعن الحسن قال: قال رسول الله: “لكل آية ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع”.
ومن حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعًا: “القرآن تحت العرش، له ظهر وبطن يحاج العباد”.
وعن ابن مسعود: “إن هذا القرآن ليس منه حرف إلا له حد، ولكل حد مطلع”[23].
إنه إضافة إلى ما تقدم، فما لا إشكال فيه أن القرآن الكريم قد جرى في قوانينه اللغوية على طريقة لغة العرب واستعمالاتهم، وهي مشتملة على الحقيقة والمجاز والتشبيه والكنايات والمشترك، وغير ذلك من اللطائف والنكات غير الظاهرة لجميع فئات الناس على نحو واحد، فلهذا يختلف حالهم في فهمه بحسب اختلاف معرفتهم لهذه القواعد والأحكام، وتظهر فيه معان لقوم، في حين تبقى خافية على آخرين.
وبعد، فإنه بملاحظة ما تقدم يبدو كلام الدكتور صابر طعيمة وغيره في تفسير الباطنية في غاية الغرابة، قال: “ولما كانت العقائد الباطنية تقوم على التأويل الباطني، فلا بد أن يكون لها ظاهر وباطن. والأصل في استعمال الباطن أنه على خلاف الظاهر. وقد ورد أيضًا في القرآن بما يحدّد دلالته على أنه استعمال مخالف للظاهر، يقول تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾”[24].
ذلك أن الاستشهاد بالآية الشريفة في غير محله، إذ هي لا تدل على المخالفة، لأنه لو كان كما زعم لكان اللازم أن يقول وظاهره العذاب، لا ﴿مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ وهذا ظاهر.
كما أن اللابدّية التي افترضها لا تخلو من تناس وتجاهل للروايات المذكورة، والتي تحدثت عن وجود باطن للقرآن كما له ظاهر.
دواعي التأويل بالباطن
كثيرة هي الدواعي والأسباب التي تدفع باتجاه الاعتقادات الباطنية، تختلف باختلاف الاتجاهات والمذاهب الفكرية، كما تختلف باختلاف المناشئ الثقافية، التي تأثرت بها كل فرقة وفئة.
وقد أوجز عبد الرحمن بدوي هذه الدواعي التي دعت الباطنيين إلى التحرر من قيود النص المقدس، بثلاثة دواعي هي:
1- لأجل التوفيق بينه وبين الرأي الذي يذهب إليه صاحب التأويل.
2- لأجل التوفيق بين دلالات النص ومقتضيات العقل.
3- الرغبة في تعميق صريح النص المقدس الساذج، ولهذا فإن اللجوء إلى التأويل ناتج عن الاضطرار إلى الأخذ بالنص المقدس[25].
إلا أن هذا التحليل لم يرض الدكتور صابر طعيمة، معتبرًا أن هذا التحليل لا يتفق مع الجذر التاريخي لنشوء العقائد الباطنية، والذي افترضه “مقولات ابن سبأ اليهودي التي تركزت حول الزعم بوجود علم سري عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، والآراء الأسطورية التي تقوم عليها عقيدة غلاة الشيعة الذين هم الامتداد التاريخي للحركة السبئية اليهودية التي صبغت عقائد الشيعة باعتقاد العلم السري في الإمام. كل هذه متخذة من القانون الشفهي الذي يتناقله اليهود جيلًا بعد جيل”[26].
وهكذا ألصقت الاعتقادات الباطنية بالفكر الشيعي، وأخذت الحملات العنيفة التشنيعية على شيعة علي (ع) تزداد قسوة وضراوة، دون تمحيص ولا بحث هادف وموضوعي.
ونحن هنا لا نريد تبرئة سائر الفرق الشيعية من هذه التهمة، وإنما خلافنا معهم في افتراضهم أن منشأ التأويل في الإسلام هو الفكر الشيعي، وأن مبدعه عبد الله بن سبأ اليهودي، إذ استنادًا إلى ما تقدم يمكن الجزم بأن مدرسة التأويل قد بدأت من مدرسة المخالفين لأهل البيت ولعلي (ع) بالخصوص، والتي بدأت يوم السقيفة، رغم كثرة الأحاديث الواردة عن رسول الله (ص) بشأن علي (ع) وحقه في الخلافة بعد رسول الله (ص)، والتي لا يمكنهم تجاهلها، فلجأوا إلى تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها، رغم وضوح دلالاتها على المطلوب، وهذا الأمر ظاهر بالرجوع إلى أي حديث مما رواه العامة في فضل علي(ع)، وحقه في الخلافة والإمامة، وكيفية تعاملهم مع هذه الأحاديث وتخريجهم لها وتأويلها بما يخالف ظواهرها، مخالفة صريحة وواضحة.
لقد أعطيت شخصية عبد الله بن سبأ أهمية خاصة، حتى جعلوه الأساس في نشوء الفكر الباطني في الإسلام، وأخذ المحللون يتحدثون عن تسلسل الفكر اليهودي من خلاله إلى الإسلام، رغم أن السيد مرتضى العسكري قد أثبت في كتاب خاص أنه لم يكن شخصًا حقيقيًّا، وأنه مجرد شخصية أسطورية مصدرها الطبري في تاريخه.
وسواء كان الرجل حقيقيًّا أم أسطوريًّا، فإن الطبري نفسه قد صرّح بأنه كان يهوديًّا من أهل صنعاء، أمه سوداء. وأنه أسلم زمن عثمان[27]، وهذا يعني من الناحية التاريخية أن إسلامه كان في فترة مـتأخرة، لأن انتشار الفكر اليهودي، بل فكر أهل الكتاب عمومًا، بين المسلمين قد كان قبل ذلك بزمن، منذ أطلق عمر بن الخطاب أيدي علماء أهل الكتاب من أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وأمثالهما، للحديث وتعليم المسلمين في المساجد، ومنعه أصحاب رسول الله(ص) من القيام بهذه المهمة، وهذا يؤكد ما ذكرناه قبل قليل أن مدرسة التأويل الباطني قد نشأت قبل ذلك بزمان غير قليل.
هذا بالإضافة إلى أن التشيع لعلي(ع) متصل زمانًا بعهد رسول الله(ص) نفسه، وقد تصدى علماؤنا العظام رضوان الله تعالى عليهم لبيان هذه الحقيقة وإثباتها تاريخيًّا وعلميًّا، مما يشكّل دليلًا حاسمًا ضد القائلين بأن مذهب الشيعة تأسس على يدي عبد الله بن سبأ هذا[28].
نستنتج مما تقدم أن من دواعي التأويل ونشوء الحركة الباطنية ما هو سياسي، فرضته قرارات الحكام ومن يدور في فلكهم منذ يوم السقيفة، ومنها ما هو أمني اقتضته الأوضاع الضاغطة على مخالفي هؤلاء الحكام سواء كانوا من أتباع علي(ع) أم من غيرهم، وسواء كان ناشئًا من بُعد ديني أم دنيوي سلطوي وغير ذلك، وهذا ما نراه في أثر سياسات معاوية بن أبي سفيان، حينما كان واليًا على الشام زمن عمر بن الخطاب وبعدها، ومنها ما هو نفسي نتج عن تأثيرات أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مختلطة بالحضارات الشرقية من فارسية وغيرها بعد الفتوحات الإسلامية.
وتطورت حركة التأويل، واتخذت عمقًا فكريًّا على يد الصوفية، الذين سعوا إلى تحقيق الكمال عن طريق الاستبطان الداخلي والسعي إلى الاتحاد بين الصوفي وبين الله، منذ زمن الحسن البصري، مرورًا برابعة العدوية في القرن الثاني للهجرة، والتي يقال إنها كانت من تلاميذ الحسن البصري، وإن لم يمكن التأكد من هذه التلمذة بشكل مباشر، ولكنها تأثرت به على كل حال، وصولًا إلى قمة الهرم الصوفي محي الدين بن عربي الأندلسي، الذي عمّق الحركة الصوفية، وربطها بالمفاهيم الفلسفية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وبموازاة الحركة الصوفية، نشأت حركة الاعتزال في البصرة نفسها، والتي حكمت العقل بالنصوص الشرعية تحكيمًا تامًا، وذهبت إلى ضرورة تأويل النصوص الشرعية التي تبدو مخالفة لأحكام العقل.
وغير خفي أيضًا أن حركة الاعتزال قد نشأت هي الأخرى بين طلاب الحسن نفسه، وفي مجلس درسه، في قصة مشهورة في التاريخ الإسلامي وحاصلها أنه جاء رجل إلى الحسن البصري وسأله عن حكم مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر، فأجابه واصل بن عطاء أنه ليس مؤمنًا ولا كافرًا[29]، واستقل عن أستاذه ثم انضم إلى حركته عمرو بن عبيد.
نشأة التصوف وتطوره
يقولون إن التصوف قد بدأ في الإسلام على صورة الزهد والابتعاد عن الاحتكاكات السياسية على يد الحسن البصري الذي كان حاقدًا على علي(ع) وأتباعه، وتولى أعمالًا في بلاط الأمويين، كما ولي القضاء لهم[30].
كما أنه كان رئيس القدرية يتصنع للرئاسة، وقد ورد أن عليًّا (ع) رآه وهو يتوضأ للصلاة، وكان ذا وسوسة فصب على أعضائه ماء ًكثيرًا، فقال له أرقت ماءً كثيرًا يا حسن، فقال ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر، فقال علي(ع) أوساءك ذلك، قال نعم، قال فلا زلت مسوءًا، فما زال الحسن عابسًا قاطبًا مهمومًا إلى أن مات[31]. ولعل مظهر الحسن البصري العابس هذا، هو الأساس في مسحة الحزن التي طبعت مظهر المتصوفة، بحيث صار صفة لازمة لهم، وجزءًا من سلوكهم وشخصيتهم.
ورغم أنه مات في زمن الإمام الباقر (ع) سنة 110هجرية إلا أنه لم يرد له أي رواية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام.
ولد الحسن البصري سنة 21 للهجرة، في أواخر خلافة عثمان، وكان أبوه يسار نصرانيًّا سباه المسلمون سنة 12 للهجرة[32]، وعاش القسم الأكبر من حياته في البصرة، التي كانت من المراكز المهمة للمسيحيين آنئذ، وقد بلغت من الأهمية أن أبرشيتها كانت تشارك في انتخاب البطريرك المسيحي في زمن لم يكن يحق لجميع الأبرشيات أن تشارك في انتخابه[33]، وبعدما فتحت في عهد عمر بن الخطاب سنة 14 للهجرة مصرها وأقطع سوادها القبائل العربية التي نزلت فيها بعد تقويض الدولة الساسانية الفارسية[34].
من هذا يتضح أن الحسن البصري عاش وترعرع بعيدًا عن مدرسة أهل البيت وتعاليم علي(ع)، متأثرًا بل داعيًا لمدرسة المخالفة لهم، ممزوجة بالتعاليم والتقاليد المسيحية التي كانت منتشرة في البصرة، فصقلت شخصيته على هذه التعاليم، ونشأ على بغض علي (ع) ومخالفته، كما حفلت المصادر التاريخية بالشواهد على ذلك، ولذلك نلاحظ أن كثيرًا من سلوكياته ووصاياه، بل طريقته في التعامل مع القضايا والثقافة الإسلامية، جاءت ظاهرة التأثر بالأفكار والنظريات المسيحية، وحتى في سلوكياته لم يكن بعيدًا عن هذه الآراء وليس أقلها قوله: “إذا أراد الله بعبده خيرًا في الدنيا لم يشغله بأهل ولا ولد”[35]، حتى أنه جعل العزوبية شرطًا من شروط التقوى والزهادة الحقة[36].
وعلى الرغم من إنكاره لعلم الفقهاء، واحتقاره لهم، وعدم إقراره لهم بالفقاهة[37]، وكذلك ادعاءه علمًا غير مأثور ولا معروف عن رسول الله (ص) أخذه عنه بواسطة حذيفة بن اليمان[38]، وليس هذا العلم سوى التأويل والتصرف في التراث الإسلامي المعبر عنه بالتصوف، إلا أننا نجد علماء العامة يمتدحونه بما لم يمتدحوا به غيره، قال ابن سعد: “وكان الحسن جامعًا عالمًا عاليًا رفيعًا ثقة مأمونًا عابدًا ناسكًا كبير العلم فصيحًا جميلًا وسيمًا[39]“، ولا ندري إن كان لهذا المدح والثناء صلة بانحرافه عن علي (ع) أم لا.
ونما التصوف واشتد ساعده على يد رابعة العدوية، التي كانت من تلاميذ الحسن البصري والمتأثرين به كما في بعض الروايات التاريخية، التي أشرنا إليها قبل قليل، إلا أن هذه التلمذة لم تثبت، إلا أنه لا يمكن التشكيك بتأثرها به، سواء عاصرته أم لا، والتي تتحدر من أصول مسيحية عاشت عليها وظلت معتنقة لها حتى بعد تحررها من الرق[40]، فأنتجت ما يسمّى بالحب الإلهي، وغيره من المظاهر الصوفية المستوردة من المسيحية من قبيل اللباس والرهبنة والطعام وغير ذلك، وتجلى الحب الإلهي عندها في القصيدة المشهورة عنها، والتي تقول فيها:
عرفت الهوى مذ عرفت هواكا | وأغلقت قلبي عمن عداكا |
وقمت أنـاديك يـا مـن ترى | خفايا القلوب ولسنا نراكا |
أحبـك حبيـن حـب الهـوى | وحبًـا لأنـك أهـل لذاكـا |
فأما الـذي هـو حـب الهـوى | فشغلي بذكرك عمن سواكا |
وأمـا الـذي أنـت أهـل لـه | فكشفك للحجب حتى أراكا |
وقد بلغ التطرف عند رابعة أنهم قالوا إنها رأت النبي (ص) فقال لها: “أتحبينني يا رابعة؟ فقالت من لا يحبك يا رسول الله، ولكن قلبي مليء بحب الله فلا مكان لك فيه”[41]، وهذه الرواية وردت عنها بصورة السؤال والجواب[42].
ولا زالت حركة التأويل والتصوف تتكامل وتقوى على يد الكثير من المتصوفة حتى بلغت ذروتها على يد محي الدين بن عربي الذي أعطاه بعدًا فلسفيًّا، وربط نفسه برسول الله (ص) الذي زعم أنه تلقاه منه (ص) مباشرة كما ذكره في مقدمة فصوص الحكم والفتوحات المكية، وتجلت اعتقاداته في أن: الله –تعالى على ذلك- يتجلى أعظم تجلي في صورة أنثى ينتهبها ذكر، وأن العاشقين لذلك وهما يتضاجعان طوال الليل هو نوع من العبادة، والعاشق عابد لا تستغرقه اللذة بأنثى، بل بالرب المتجسد في الأنوثة، وأن ليس الرب إلا مادة ولا يرى إلا في مادة”[43].
وفي مقام الغزل الإلهي، وعدم الفرق بين إيمان المؤمن وكفر الكافر يقول:
لقد صار قلبي قابلًا كل صورة | فمرعى لغزلان ودير لرهبان |
وبيت لأوثان وكعـبة طـائف | وألواح توراة ومصحف قرآن |
أدين بدين الحب أنّى توجهت | ركائبه فالحب ديني وإيماني[44] |
حركة الاعتزال
قلنا إن مذهب الاعتزال قد نشأ وترعرع في مدينة البصرة نفسها، مستفيدًا أولًا وبالذات من مدرسة الحسن البصري، ومتأثرًا بآرائه ومواقفه من الدين، والتعامل مع الآيات القرآنية المباركة، والأحاديث النبوية الشريفة.
يمكن القول على العموم: إن مدينة البصرة تشكل في الأساس المعسكر المخالف لمدرسة علي وأهل بيته عليهم السلام، ويكفي للدلالة على ذلك أن نلاحظ رجال البصرة اللامعين، وموقعهم في التاريخ الإسلامي من أمثال الجاحظ، والحسن البصري، والأصمعي، وإبراهيم بن سيار النظام، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والقاضي عبد الجبار، والجبائيين وغيرهم من رجال الاعتزال.
وإذا أضفنا إلى قائمة هؤلاء معبد الجهني الذي كان من أوائل متكلمي البصرة، وكان من أصحابه الحسن البصري وأثر فيه، وكذلك الجعد بن درهم الذي كان مواليًا لآل مروان من بني أمية، والجهم بن صفوان القائل بالجبر والتأويل العقلي، وغيرهم من أعلام الاعتزال والانحراف عن علي(ع)، تبين أن هذه المدرسة أيضًا تابعة في طراز تفكيرها لمخالفي المذهب الشيعي.
هذا في مدينة البصرة، وأما في بغداد فلم يكن الحال أحسن منه في البصرة، حيث حاضرة سلطان العباسيين في الفترة الثانية للفكر المعتزلي، والذي نال حظوة حكام بني العباس من المنصور والرشيد والمأمون، المعروفين بعدائهم الشديد لأئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، ولو كان للمعتزلة أي تشيع لأهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ما كانت لهم هذه المكانة في نفوس العباسيين كما لا يخفى.
وبعد كل ما تقدم، ولا يبقى أي مبرر لهؤلاء القوم من نسبة الحركات الباطنية إلى شيعة علي (ع)، فهي قد نشأت ونمت وترعرعت بعيدًا عن مدرسة علي (ع)، وشيعته، وقد يكون القصد منها شدة النكاية، لهم وإبعادهم عن ساحة الأحداث، وهناك اشتد عودها وقامت قوائمها.
إلا أن ذلك لا يمنع من تأثر بعض الفرق الشيعية بهذه المذاهب نتيجة العوامل المتقدم ذكرها، من ظلم الحكام، وخوفهم على أنفسم، ورؤيتهم مقام علي (ع) في أنفسهم فانعكس مغالاة فيه، كما غالى غيرهم بقداسة الصحابة، وقد اشتهر عنه (ع) قوله: “هلك في اثنان محب غال ومبغض قال”.
[1] جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، طبعة دار الكتب العلمية، الجزء2، الصفحة12.
[2] سورة آل عمران، الآية 7.
[3] الدر المنثور، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 10.
[4] المصدر نفسه، الصفحة11.
[5] المصدر نفسه، الصفحة11.
[6] المصدر نفسه، الصفحة 13.
[7] الفخر الرازي، التفسير الكبير، الجزء7، الصفحة 176.
[8] الدر المنثور، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 13.
[9] الطبرسي، مجمع البيان، الجزء1، الصفحة 528.
[10] الشيخ الطوسي، التبيان، الجزء2، الصفحة 395.
[11] سورة النساء، الآية 171.
[12] سورة المائدة، الآية 77.
[13] ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، الصفحة 26؛ وابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء3، الصفحة 71.
[14] سورة المائدة، الآية 3.
[15] ميرزا محمد تقي الأصفهاني، مكيال المكارم، الجزء2، الصفحة 293.
[16] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الجزء2، الصفحة 190.
[17] الشيخ علي الكوراني العاملي، ألف سؤال وإشكال، الجزء 1، الصفحة 233.
[18] راجع: جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، الجزء2، الصفحة 346.
[19] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الجزء1، الصفحة 55.
[20] الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 367.
[21] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مصدر سابق، الجزء 2، الصفحة 54.
[22] الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 298.
[23] المصدر نفسه، الجزء2، الصفحة 366.
[24] صابر عطية، العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها، الصفحة 11.
[25] عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين، الصفحة 754.
[26] العقائد الباطنية وحكم الإسلام فيها، مصدر سابق، الصفحة21.
[27] مذاهب الإسلاميين، مصدر سابق، الصفحة 761.
[28] لاحظ مذاهب الإسلاميين، الصفحة 761.
[29] المسعودي، مروج الذهب، الجزء5، الصفحة 22.
[30] الكامل في التاريخ، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 129.
[31] الشيخ عبد الله المامقاني، تنقيح المقال في علم الرجال، الجزء1، الصفحة 270.
[32] الكامل في التاريخ، مصدر سابق، الجزء2، الصفحتان 387-388.
[33] قدسية الإسلام، الصفحة 15.
[34] المصدر نفسه، الصفحة 20.
[35] نيكولسن، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة: أبو العلا عفيفي، الصفحة 56.
[36] قدسية الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 47.
[37] موسوعة الصوفية، الصفحة 157.
[38] المصدر نفسه، الصفحة 156.
[39] ابن سعد، الطبقات الكبرى، الجزء7، الصفحة 80.
[40] قدسية الإسلام، مصدر سابق، الصفحة51.
[41] قدسية الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 273.
[42] المصدر نفسه، الصفحتان 218-219.
[43] الموسوعة الصوفية، مصدر سابق، الصفحة 407.
[44] الموسوعة الصوفية، مصدر سابق، الصفحة 46.
المقالات المرتبطة
إيقاعٌ بعدَ هُدوء
يجدر بنا توضيح الأسلوب الفني في قراءة هذا المقال بالنسبة للقارئ الكريم، أنَّ (الفعل بصيغة الجمع)، و(ناء الدالة على الفاعلين) يرجع “لكاتبة المقال”
لمعة في علم التفسير
يُعَدّ علم التفسير ميدانًا حديثًا نسبيًّا بين الميادين العلميّة الإنسانيّة، بعد أن وُضِعَت له قواعد، وجرت فيه أبحاث ومناظرات، وخاض
الإبستيمولوجيا في الفلسفة الإسلاميّة
صنّف الفلاسفة المسلمون الوجود إلى قسمَين: الوجود العيني (الخارجي) والوجود الذهني (النفساني).