مفهوم الهوية
تقول إحدى الأساطير الإغريقية: إنّ سفينة توجهت من مرفأ بيراس إلى ديلوس وفي طريقها تعرضت للكثير من المحن أدت مع الوقت إلى فقدان كل المواد الأولية، التي كانت تتألف منها، واستعيض عنها بمواد أخرى. انطلاقًا من هذا الواقع، أخذ الناس يسألون:
هل بإمكاننا أن نعتبر السفينة قد تغيرت؟
وهل يجب أن نبقي على اسمها، طالما لم يبق من الأصل شيء؟
وهل السفينة المادية هي الأصل أم الماهية المحددة لها؟
وهل ماهيتها تأخذ من الهوية المجردة لفكرة السفينة؟ أم هي ماهية خاصة ناتجة عن العقل الذي أبدعها في فترة زمنية معينة نتيجة تطورات طرأت على واقع صناعة السفن؟
كثُرت الأسئلة، التي تطال هوية السفينة، وكثُرت الإجابات، ولكنّها لم تصل إلى حلٍّ حقيقي، لأنّ كلّ إجابة تستتبع أسئلة، وتأخذ الإنسان إلى آفاق جديدة تربطها بالنص المعرفي عند المجيب، هذه القصة على بساطتها تضعنا أمام حقيقة النقاش حول مفهوم الهوية، فهو نوعٌ من النقاش الذي يأخذ باتجاهات متعددة، ويؤدي إلى نتائج متناقضة ترتبط بالنسق المستخدم في عملية التحليل، من هنا اخترنا هذا المدخل لنؤسس عليه.
- تحديد مفاهيمي
قبل معالجة مفهوم الهوية الحضارية، لا بدّ من تحديد الإطار المفاهيمي لعملنا، فكلا المصطلحين يحتاجان إلى تعريف مستقل، ومن ثم إلى الربط بينهما، كي نرى مديات المفهوم الجديد، الذي نسعى إلى العمل عليه.
- الهوية
الهوية من هوى، وهو: العشق ويكون في الخير والشر. ويأتي بمعنى سقط، يُقال هوى فلان: سقط من علو إلى أسفل. ويقال للبئر العميق: “الهوية” من هَوى[1]. وهذا ما يأخذ المفهوم من الجانب اللغوي إلى الأمر البعيد الغور، الذي يتشوق الإنسان إليه ويعشقه، الأمر الذي يجعل الشخص يتوجه نحوه بشكل اضطراري.
أما على الصعيد الاصطلاحي، فالهوية هي: “الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق”[2]. فهي ما يعرف الشيء في ذاته دون اللجوء إلى عناصر خارجية لتعريفه، ويستعمل أيضًا للدلالة على الجوهر والماهية.
وعند المتصوفة هي الحق المطلق، الذي يحتوي كل الحقائق احتواء النواة على الشجرة في الغيب المطلق.
أما في المنطق فإن هذه اللفظة تشير إلى معنيين:
1- التساوي أو التشابه المطلق بين كمين أو كيفين، وهنا تعني التوافق.
2- أن يكون الشيء ثابتًا لا يتغير بما يعتريه أو يعتري ما يحيط به، وهنا تعني الثبوت.
وتقول “الموسوعة الفلسفية العربية” هي كلمة مولدة اشتقها المترجمون القدامى من الـ “هو” لينقلوا بواسطتها إلى العربية كما يقول – الفارابي – المعني الذي تؤديه كلمة “هست” بالفارسية، وكلمة “أستين” باليونانية؛ أي فعل الكينونة في اللغات الهندوأوروبية الذي يربط بين الموضوع والمحمول، ثم عَدَلُوا عنها ووضعوا كلمة “الموجود” مكان الـ”هو”، والوجود مكان “الهوية”، ومع ذلك فقد فرضت كلمة الهوية نفسها كمصطلح فلسفي يستدل به على كون الشيء هو نفسه[3].
وهذا المفهوم كما نراه يأخذ أبعادًا تتعلق بالكشف عن حقائق الأشياء على الرغم من اختلاف الأدوات والأنساق المعرفية التي تقوم بتعريفه، وهو يسعى إلى تعريف حقيقة الموجود، ولم يكن طوال تاريخه المفاهيمي يحاول الإجابة عن حقيقة الذات الشخصية أو الاجتماعية للإنسان، باعتبار الهوية كانت مشخصة في إطار مجتمعات تتماثل فيما بينها من خلال الانتماء إلى بوتقة محددة كالدين أو القبيلة أو العائلة أو القرية، ولم تطرح إشكالية الآخر إلا بحدود ضيقة.
ولكن مع التغييرات التي طرأت على المجتمعات الإنسانية ابتداءًا من عصر النهضة الأوروبية، تصاعد هذا المفهوم بمعزل عن استخدامه الأولي، حيث بدأت، تظهر معالم الهوية الإنسية للأفراد، وهذا الأمر خبأ مشكلة الهوية في باطن النزعة الفردية، فأخذ الإنسان يسأل عن أناه، فهذا الفرد الذي خرج من بوتقة القسر الاجتماعي، فَرِحَ بحضوره في العالم، وأخذ يسأل كيف يمكن التفكير في وحدة الأنا في الزمان؟ هل أنا الشخص نفسه الذي كنته قبل عشرين سنة؟ لقد اقترح لوك حل إشكال الهوية الشخصية بفكرة الذاكرة: إذا كنت الشخص ذاته الذي كان قبل عشرين سنة، فلأنني أذكر مختلف المراحل التي مر بها وعيي أو شعوري. وهذا الوعي سرعان ما أخذ يسأل عن هوية هذا الحضور الإنساني، فإذا كنت موجودًا، هل أنا معزول عن بيئة محددة، صاغت هذا الوجود، وهذا الأمر كان أكثر إلحاحًا في المجتمعات التعددية، التي تشكّل تحدّيًا للذات، ولعلّ هذا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية المكان الأنسب لظهور مفهوم الهوية على يد أريكسون عام 1933.
من هنا، أخذ ينمو هذا المفهوم في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ويأخذ إطارًا مختلفًا عن البيئة التي نشأ فيها، وبدأ يأخذ معنى الانتماء إلى سياقات محددة ترسم معالم الإنسان الفردي والمجتمعي.
ولكنّ العاملين عليه انقسموا إلى فئتين، فذهب بعض الباحثين إلى القول بالشكل الميتافيزيقي حيث تقدم الهوية باعتبارها تصوراتٍ لنماذجَ مثاليةٍ، بينما ذهب البعض الآخر إلى تحديد سوسيولوجي يرى الهوية تتغذى بالتاريخ وتشكل استجابة مرنة تتحول مع تحول الأوضاع الاجتماعية والتاريخية، وبذلك تحققُ نسبيةً تتغيرُ بتغيرِ حركةِ التاريخِ وانعطافاتِهِ.
[1] ) ابن منظور، “لسان العرب”، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1982، مادة هوى. وراجع: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، “كتاب العين”، تحقيق مهدي المخزومي وأحمد السامرائي، قم، مؤسسة دار الهجرة، 1410هـ، الجزء4، باب الثلاثي اللفيف من باب الهاء.
[2] ) الجرجاني، علي بن محمد، “التعريفات”، بيروت، دار الكتاب اللبناني، الطبعة 1، الصفحة 278.
[3] الموسوعة الفلسفية العربية، بيروت، معهد الإنماء العربي، مادة الهوية.
المقالات المرتبطة
إبستمولوجيا الوحي عند العلامة الطباطبائي
لمّا كان للخلقة غاية، وهي العبادة، فإنّ الهداية، ولا بد، ملازمة للخلقة.
الإسلاميون، مصائر شتّى
أعلن قادة حزب النهضة التونسي عن نيتهم الانتقال من كونهم حزبًا دعويًّا ليتحولّوا إلى حزب سياسي.
الصبر الزينبي والبصيرة الزينبية
هذا هو الدور الفعلي ما بين الجهاد الزينبي بدءًا من عباءة تمثّل كامل العفة والنضج، مرورًا بالدور الذي أخذته في عبادتها وثورتها ونهضتها وعلومها ومعارفها، وفي هدايتها وبلاغها، وفي تحدّيها للظالم وإحقاق الحق وإنصاف المظلومين.