فلسفة الترك

فلسفة الترك

أن تترك شيئًا ما، هو أن تعلن أنّك بحاجة إليه، لأنّ مدار الترك يشي بالاحتياج، فلو لم تكن بحاجة إليه لما تركته، لأنّ الترك بحدّ ذاته يستبطن الحاجة إلى شيء ما، والإرادة الذاتية على الاستغناء عنه ولو لفترة وجيزة. يعلن الترك في مدياته أن للإنسان إرادة على مقاومة الحاجة، تلك الحاجة التي ما تنفك ترافقنا على مدار الزمان، وأنّ تلك الإمكانية الأنطولوجية للإنسان على الترك، هو ما يخفف عنا عبء مقاومة الجسم واحتياجاته. قد نترك أشياء كثيرة في هذا العالم وفق إرادة الغير، أي بنمط من الإكراه والإجبار، آنذاك تصبح تلك الحاجة المقموعة هي أقصى ما يتأمل الإنسان الحيازة عليه وإنجازه. أما في مدار الصيام فإننا نعلن تلك الحاجة وفق إرادة الفعل ووقوعه، ومن هنا يصبح الترك ضربًا من الفعل الإنجازي المتحقق وفق سياق الفعل ذاته. فيغدو الترك فعلًا، ويصبح الفعل تركًا .

نحن نترك أشياءً ثمينة في هذا العالم لأنّنا ننظر إلى المابعد؛ إذ يشكّل ذلك الما- بعد نمط التأمل المستقبليّ الذي يفتح أمامنا كلّ جميل وجليل. فما يترك اليوم وفق إرادة اللاترك، يصبح في أفق المستقبل في دائرة الحيازة بدون عناء البحث عنه. أن تجوع هو أنّك تريد أن تشبع لأنّ مدار الشبع هو بالحقيقة صفحة الجوع الأخرى، فمن جاع فقد شبع، لأنّه لا يدرك قيمة الشبع ذاته إلا بمعرفة الصفحة الوجودية الأخرى له ألا وهي الجوع. فكلّ من جاع فهو بالحقيقة يبحث عن الشبع، إلا أنّ شكل الشبع يتغيّر ، فبدلًا من أن يكون امتلاء واكتفاء، يصبح نقص وعوز. وإنّ هذا التناقض المريب هو ما يشكل لنا دائرة الانسجام مع تغيرات هذا العالم وفق احتياجات الجسم. فمن يشبع، يخاف الجوع ومن يجوع يخاف الشبع، وأنّ هذا الخوف المتبادل هو ما يجعل من كلا الطرفين أصيل بحد ذاته .

ليس من اليسير بمكان أن يُعلن الإنسان عن حريته في هذا العالم، فكلّ ما يلفنا يفضح أساليب القمع والإجبار إلا حرية الترك. أن نترك هو أن لا نفعل شيئًا خارجًا في ذات الوقت الذي نكف فيه عن فعل شيء ما، ومن هنا لا يصبح للآخر أيّ ذريعة لمنعك. ومن هنا تتجلى مفهومية الإضراب عن الطعام عند المسجونين، فهم يعلنون الكفّ عن شيء من حقهم أن يفعلوه بدون أن يتسبب ذلك بأيّ إحراج خارجي للغير. إلا أنّ فلسفة ذلك الترك تكون أقوى وأمضى، إذ إنّ أقسى شيء يمكن أن تؤذي به الغير هو أن تكف عن فعل شيء من حقك أن تفعله، أو أنّك اعتدت الإتيان به. من هنا يكون الترك عبارة عن انزياح وجوداني لكينونتك في أفق المعننة في هذا العالم. نحن نبحث دائمًا عن معننة وجودنا في صقع هذا الطور من الخليقة، والترك أجلى مصاديق ذلك التحسس الأنطولوجي لكينونتك. فليس من الهين أن تترك، إذ من اليسير أن تفعل. يخبرنا الترك أنّنا ما زلنا على قدر الفعل وإنجازه، وأنّ مديات البحث عن الكينونة ما زالت مستمرة بشكل أصيل. فالمعنى الذي نبحث عنه لحياتنا هو معنى مرجىء إذا جاز لي استحضار دريدا هنا، هناك دائمًا يكون في أفق الارتسام. وفي ذات الوقت تدخل جدلية التكرار والاختلاف على ساحة الوجود من أجل البحث عن المختلف والمشابه. أن تترك هو أن تعلن الاختلاف، أن تنجز، هو أن تعلن التكرار. والقرار بيدك حتمًا. قليلون هم أولئك الذين يملكون إرادة الترك وفق إباحة اللاترك. إنّ فضاء الحرية المتكشف من وراء الترك يخبرنا أنّنا ما زلنا نعبأ بهذا الجسم اللطيف الكثيف، والذي لا بدّ أن نغدق عليه أشكال العناية المناسبة من أجل أن يحملنا فترة أطول في هذا العالم .

أن تترك هو أن تقول إنّني بحاجة – إلى. إنّ تلك (إلى) غير متناهية بحد ذاتها ولكنك تحصرها بنمط الترك ذاته. ولا يقف المعنى عند الشيء المتروك فحسب، بل يكون مدخلًا أو بوابة فقط لأشياء مستبطنة كثيرة عليك أن تسعى حثيثًا نحو الإمساك بها، فمن يمتنع عن شيء ما، فإنّه يخبرك أنّه بحاجة إلى أشياء كثيرة غير الشيء الممتنع عنه أو المتروك. جميلة هي الحرية عندما تفتح أمامنا منافذ الولوج إلى مقاصد أفعالنا في هذا العالم .

إنّ كلّ ترك هو بحد ذاته رسالة قصوى نحو الانفراد. فلا يتشابه الترك بين شخصين، حتى ولو تركوا نفس الشيء. فلكلّ ترك معناه، كما أنّ لكلّ نص مبناه. إنّ كل إعلان للترك في هذا العالم هو معنى دقيق منفرد بحد ذاته، لا يشهد مراميه ولا يعرف مقاصده إلا من أوتي جوامع الفطنة وحاز على مقاليد الفراسة. من هنا لا يغدو الصيام واحدًا لترك الأكل والشرب وغيره، بل هو رسالة وجودية تخبرنا أنّنا بحاجة إلى أشياء كثيرة في هذا العالم لا يمكننا الإمساك بها أو إنجازها إلا وفق هذا الشكل من الترك. فعليك أن تحدد مقصدك من الترك وإلا لم تفهم رسالتك وستكون مثل ذلك الشخص الذي يروي نفس القصة لنفسه مرات عديدة .

عليك إذن أن تحدد مقصد تركك وأنت تصوم، ولا بد لك من إدراك ماهية ذلك الترك وحدوده. فلا تترك كما يترك الآخرين بنمط من التقليد والتشابه. بل عليك أن تنفرد بذلك الترك لتمعننه بشكل جميل. فإنّ أجمل ما يمكن أن نفعله في هذه الحياة هو حرية الترك. بورك صومك ، وطوبى لك وأنت تترك بهذا الشكل الجميل.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
التركالجسمالإرادة

المقالات المرتبطة

“رسول الله إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة”

خصّص الإمام زين العابدين (ع) للنبيّ دعاءً خاصًّا باسمه صلوات الله عليه وآله، وهذا يضعنا أمام حقيقة عظمة الذات والهويّة المحمّديّة. إنها منّة الله العُظمى على أمةٍ تشرّفت بأنّها أمّة محمّد.

من هو الفيلسوف؟

هناك من يرى أنّ الفيلسوف هو من يستخدم العقل في مقام الثبوت… بينما هناك من يرى أن الفيلسوف هو من يستخدم عقله في مقام الإثبات..

النخب  الإنسانية … بين الملأ البشري والملأ الملائكي

نسمع دائمًا الحديث عن النخبة والنخب، وخاصة النخب الثقافية، في إشارة لتميز تلك النخب على باقي الشعب بالعلم الغزير والثقافة الواسعة…

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<