علم الاجتماع: بين خبير في تحصين النظام وباحث في تغييره
جريدة السفير
من الضروري، بداية، أن نُذكِّر بأن التزام عالم الاجتماع باستكشاف فرص التغيير بات اليوم أكثر إلحاحًا، في ظل التوسع المتواصل لسياسات العولمة التي تتضافر في فرضها، على البلدان الفقيرة، برامج المراكز الدولية المتحكمة بمستويات التبادل غير المتكافـﺊ، إلى جانب تحكمها بالبورصات وبمراقبة أسواق النقد. إن كشف مضامين تلك السياسات وهذه البرامج التي يُفرض أن يشارك في بلورتها “خبراء اجتماعيون” في التنمية يهندسون أشكال تقبُّل وتكيف ضحاياها معها، بات يُشكل اليوم تحديًا لتحرير علم الاجتماع من زيف أدعيائه. ولهذا يُشكل الفهم السياسي لمرامي هذه السياسات هاجسًا لكل باحث يميل إلى الارتقاء بأخلاقيات علمه الاجتماعي، أيًا كان حقله الأكاديمي، من خلال الإسراع باستكشاف ارتداداتها التي لا تصل إلا متأخرة إلى وعي الجماعات المستهدفة بها.
ولهذا يصبح إعراض المتخصص، في أي علم من علوم المجتمع، عن تحليل الارتدادات الاجتماعية لهذه السياسات والبرامج النيوليبرالية، بحجة الحيادية “المهنية” في وصف وظائفي ترويجي لمردوداتها المباشرة، إعراضًا يفصل بين هذا الوصف الناتج من أسئلة واستقصاءات تمويهية لأهداف البرامج، وبين تحليل النتائج الفعلية لاستهدافاتها الاجتماعية التي يمكن أن تحرك وعيًا معارضًا لجماعات معينة.
إن الإعراض الذي يتقصده خبير الدراسة الميدانية، عبر أسئلة دون غيرها، يأتي بأجوبة سريعة – واعية وغير واعية – عن البرنامج أو السياسة موضوع الدراسة، ملائمة لمنطق ترويجهما وبأرقام حاسمة (أوليست الأرقام في الثقافة الشائعة هي دلالات علمية تكرس مظالم “علمية”؟).
وإذا كانت مرحلة العمل التجريبي أو الوصفي الميداني (السوسيوغرافي) تكتسي أهمية لا يجوز تجاوزها، إلا أن هذه المرحلة قد لا تؤدي غرضها العلمي في توفير قاعدة معطيات واقعية عن العلاقات الأساسية بين المتغيرات المتحركة في ظرف الدراسة. وهي ثقافة وخبرة ترتقي دلالاتها أو تتبدّل، وفقًا لمستوى التأهيل الثقافي والمنهجي والتحليل النقدي للباحث وخبراته عن الجماعة والمجتمع المدروس قبل النزول الميداني إليه. وهو مستوى تنطلق منه جهود الباحث السوسيولوجي في المرحلة التنظيرية، المُستكشفة لمآلات الظواهر والأوضاع في النظام الاجتماعي المدروس. وجدير بالتذكير أن مثل هذا المستوى من التأهيل لدى الباحث السوسيولوجي لا يستديم لديه إلا مقترنًا بهاجس متابعته للمواجهة القائمة دائمًا، بين سياسات العولمة المتواصلة الارتدادات والمحركة للانفعالات السياسية والسلوكية للنخب والجماعات المعنية بها.
إن مثل هذا التأهل الالتزامي العلمي، والسياسي حكمًا، يجعل البحث السوسيولوجي موضوع مواجهة بين أفراد الجماعة العلمية. ويصبح حضور الباحث المؤهل ثفافيًا ومنهجيًا ملتزمًا متابعة محطات هذه المواجهة، بعيدًا عن التنبؤ والوعظ. وهو في هذا الموقع والدور يفترض به أن “يتبنى دورًا صعبًا يتمثل بالإصغاء والبحث والاكتشاف وبمساعدة المنظمات التي تتبنى مهام المواجهة، وهي منظمات تراخت مع الأسف، بما فيها النقابات، عن مواجهة السياسة النيوليبرالية”، في الوقت الذي زاد فيه التزام كثير من خبراء العلوم الاجتماعية في خدمة الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية.
وبفعل هذا الدور البحثي التشاركي مع الجماعات المحلية والمناطقية، الملتزم بكشف آليات ومكامن ضعف النظام في تعويق مصالحها، يستطيع عالم الاجتماع أن يكتشف فرصًا ملائمة لتعاون فئات معينة والتفاؤل بفُرص تجاوز هذا التعويق، وفرص ملائمة لتجاوز مضائق الزبائنيات والعصبيات الطوائفية المتواطئة. كما يستطيع استكشاف فرص للتحول باتجاه تأسيس أطر اجتماعية نضالية تعاونية أو نقابية، في قطاعات ومناطق عملت أجهزة النظام طويلًا على تيئيس الناس من زبائنيتها وفساد طائفيتها.
يعمل عالم الاجتماع على التحسيس بالفروق بين خطاب النهوض بالمصالح المشتركة والتساوي بالكرامات في أطر نضالية موحدة وبين كل من:
- الخطاب العصبوي القائم على الاشتباه المزمن بنيات مزعومة لدى عصبيات الطوائف الأخرى، وعلى شد عصبية الطائفة بفعل الإفراط في تقديس شعائرها. هذا الإفراط الذي يزيد في غربة تدينها عن أشكال تدين الطوائف الأخرى، ويزيد في تقديس الولاء لزعيم الطائفة، وهو تقديس يتشرعن شكلًا بالانتخابات البرلمانية ويوفر له شرعية التمثيل في الارتهان لقوى إقليمية ودولية ارتهانًا تستعصي محاسبته على سلبياته التي تعطل مؤسسات الدولة.
- الخطاب “التنموي التشاركي” الذي يُروّج له الكثير من الخبراء النيوليبراليين في المنظمات الدولية والمنظمات المانحة بتمويل من الدول الغنية، تحت شعار “الحكمة المدنية” أو “التضامن المدني”، للتخفيف من الفقر وليس لمواجهة أسباب الإفقار والتعوق البنيوي. وتعمل هذه المنظمات على تنبيه الحكومات على أخطار تفاقم الأوضاع المعيشية للجماعات المعرّضة للبطالة، بفعل توسع أشكال إغراق أسواقها المفتوحة على جميع مصادر المنافسات العالمية لتسويق وتصدير منتجاتها المحلية. هذا فضلًا عن تنبيهها الى ضرورة العمل لتخفيف ما يقترن بهذه المخاطر من أشكال الاستبعاد الاقتصادية ـ الاجتماعية والتهميش المتفاقمة، لا سيما بعد التخلي التدريجي للحكومات المديونة فيها عن التزاماتها بالإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية. ويتوجه ايديولوجيو تخفيف هذه المخاطر أحيانًا الى تحميل المهمشين مسؤولية تعوقهم عن خلق فرص عمل بفضل ما توفره لهم من أشكال متناثرة من التدريب المهني والإقراض الصغير لتمويل مشاريع حِرَفية وتجارية صغيرة، كثيرًا ما تصطدم منتجاتها بالمنافسات الصعبة للمستوردات من البلدان التي تنخفض فيها أجور العمالة وأكلافها إلى أكثر بكثير مما هي عليه في لبنان.
وقد اقترنت هذه المخاطر المتفاقمة بتراجع أدوار الحكومات في الحد من البطالة وإغراق أسواق العمل المحلية، وبظواهر ضمور الأطر النقابية والحزبية واليسارية المتصدية لحماية الأسواق وتفريعات الحماية الاجتماعية، وبانجذاب الكثير من كوادر هذه الأطر النضالية للعمل كناشطين اجتماعيين في إدارات ومشروعات المنظمات المانحة. وقد وجدت هذه المنظمات في عروض المتخرجين والباحثين السوسيولوجيين الجدد، خلال الثمانينيات خاصة، ما تحتاج إليه منهم باعتبارهم «يملكون» منهجيات الاستقصاء لأولويات الحاجات والتدخلات الملحة في المجتمعات المحلية، إلى جانب مهاراتهم العائدة لتحسساتهم بخواص الثقافات للجماعات المعرضة للإبعاد والمعارضة على أنواعها.
وكان شرط التعاقد مع المنظمات المحلية لتنفيذ المشاريع الممنوحة هو أن يكون بين أوائل الفريق العامل على تصميم تنفيذ وعلى تقييم جدوى مشاريعها في البلدان الفقيرة اختصاصي اجتماعي ـ اقتصادي. وقد صادف أن تبلور طلب المنظمات المانحة في مطلع الثمانينيات، حيث توسع الإقبال على الكليات والمعاهد التي تُدرّس موضوعات العلوم الاجتماعية والعمل الاجتماعي والتنمية المحلية. لكن تلبية طلب المنظمات الدولية والأجنبية المانحة ظل يميل لاسقطاب المتخرجين ممن يتقنون اللغة الإنكليزية المطلوبة في التقارير المرفوعة إلى الجهات الممولة.
وشكل هذا الطلب المغري في مكافآته وغير المتطلب لجهة مستوى التأهيل الثقافي والمهني السوسيولوجــي فُرصًا مباحة ومستجدة لتوسيع بازار علوم المجتــمع، وفرصًا مرغوبة لتحول الكثير من الناشطين الاجتماعيـــين في النقــابات والأحزاب المعارضة خاصة للعمل في تلك المنظمات المانحة. وكان أن غلب على مفهــوم البحث السوسيولوجي في لبنان وعلى نهج التدخـــلات الميدانية منذ أكثر من ثلاثة عقود، العمل السوســيوغرافي الوصفي الذي لا ينطلق في مرحلته التجريبــية الأولى من ثقافة متخصصة عالية، ولذلك لم ينــتهِ غالبًا من هذه المرحلة الوصفــية الأولى إلى خلاصــات تنظــيرية، تضيف إلى ثقافــة الانطــلاق الأولى إضافات تصوّب المقاربات والفرضيات، وتنتهي إلى بلورة معالجات ذات جدوى اجتماعية وتنموية مستديمة.