قراءة في رسائل نابليون في مصر 1
صحيفة المصري اليوم
على مدى التاريخ انشغل الباحثون بعدد من القادة العسكريين، الذين أيًا كان عددهم فسوف يكون نابليون بونابرت بالتأكيد أحدهم، إن لم يكن أهمهم. وقد لعب نابليون دورًا أساسيًا في تاريخ مصر بسبب غزوته لمصر التي لم يكن يقصدها طمعًا فيها، وإنما لمجابهة بريطانيا، العدو الأكبر للفرنسيين في ذلك الوقت، والسيطرة على الطريق إلى الهند للقضاء على مصالح بريطانيا التجارية هناك. فلولا بريطانيا ما فكر نابليون في غزو مصر، ولولا أن السلطان العثماني، الذي كانت مصر في ذلك الوقت ولاية تتبعه، بعث يطلب معونة الولايات الأخرى، التابعة له، لمحاربة نابليون، لما جاء محمد على إلى مصر، ولكنه بدلًا من محاربة نابليون حكم مصر!
ومن حسن حظ مصر أن نابليون لم يكن قائدًا عسكريًا يحصر اهتمامه في كسب المعارك بصرف النظر عن أي اعتبار آخر، بل كان باعتباره مهتمًا بالعلوم وعضوًا في الأكاديمية الفرنسية للعلوم، مقدرًا لتاريخ وحضارة مصر التي كان كل تعدادها في وقت الحملة عام 1798 لا يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة. ولهذا نجد أنه ضم في حملته 167 عالمًا من علماء الرياضيات والبيئة والكيمياء والآثار والمعادن والجغرافيا والطب وغيرهم.
وإلى جانب قوة ضخمة ضمت 36 ألف مقاتل استقلت “عمارة من السفن” ضمت 300 سفينة يحرسها 55 سفينة حربية، وقع اختيار نابليون على صفوة القادة الذين اختارهم، وسبق أن تجلت خبرتهم في حروبه السابقة في إيطاليا وحرب الراين، مما جعلنا نقرأ أسماء برتييه، وكافيريللى، وكليبر، ورينيه، وديزيه، ودوجا، وفوبوا، وبون، وغيرهم من ألمع القيادات العسكرية في ذلك العصر.
هذه الحملة أقلعت من طولون يوم 10 مايو 1798، وانضمت إليها سفن أخرى قدمت من جنوا وأجاكسيو، ورست كلها في جزيرة مالطة يوم 9 يونيو بعد شهر. وكان يحكم هذه الجزيرة (نقلًا من كتاب المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى الجزء الأول من تاريخ الحركة القومية/ إصدار دار المعارف) طائفة من الرهبان يعرفون بفرسان القديس حنا، ثم عرفوا بفرسان مالطة. وكان موقعها على جانب كبير من الأهمية الحربية، فاحتلها نابليون وأقام بها عشرة أيام، ومنها تحركت الحملة تجاه الإسكندرية فوصلتها أول يوليو 1798، أي بعد شهر من إقلاعها من طولون.
مقدمة لرسائل نابليون اليومية
أكتب هذا كمقدمة سريعة للحديث عن واحد من أعظم الأعمال الثقافية والعلمية التي قام بها مؤخرًا المجمع العلمي المصري، الذي سبق أن احترق في فوضى الأحداث التي عشناها بعد يناير 2011، ومن حسن الحظ تمت إعادة إصلاحه وترميمه وتولى رئاسته رجل من أفاضل العلماء، هو الراحل الدكتور إبراهيم بدران، يساعده أمين عام على درجة بالغة من العلم والإخلاص هو الأستاذ الدكتور محمد عبدالرحمن الشرنوبى. وقد كان آخر إنتاج المجمع مجلدين فاخرين كل منهما في أكثر من 500 صفحة تحت عنوان الأوامر العسكرية اليومية لنابليون بونابرت في مصر بين 1798 و1799، وهذه الأوامر تمثل- في رأيى- يوميات نابليون يومًا بيوم طوال أيام الحملة.
قام بترجمة العمل الكبير في فترة تجاوزت سنة كاملة الأستاذ الدكتور أحمد يوسف، الأستاذ بالجامعات الفرنسية، وعضو المجمع العلمي المصري، والكاتب القدير بصحيفة الأهرام. وقد سبق أن تعرض لأزمة صحية أحاطته فيها قلوب محبيه الذين يقدرون علمه وأخلاقه، ومن حسن حظنا أن أنعم الله عليه بالشفاء ليقوم بهذا العمل الضخم في ترجمة رسائل نابليون، بعد أن أفرجت عنها وزارة الدفاع الفرنسية منذ عشر سنوات، وأصبحت وثائق ناطقة بالمشاعر والحقائق كما عبر عنها صاحبها في وقتها وليس عن طريق المعلقين وأصحاب الرأي. فلأول مرة من خلال هذه الأوامر تتكشف شخصية نابليون بمختلف أوجهها، حتى وإن بدت متناقضة بين القائد العنيف الذي يصدر أمره بحرق قرية كاملة، والقائد الذي يتتبع أخبار رقيب أبلى في الحرب ويهتم بترقيته.
يقول الدكتور أحمد يوسف، في مقدمة موجزة للعمل الضخم: أعتقد جازمًا أن هذه الترجمة ستغير ليس فقط من نظرتنا إلى الحملة الفرنسية ككل وكمشروع استعماري مبكر سيكون نموذجًا فيما بعد لهجمات استعمارية أوروبية أخرى على مصر والعالم العربى، بل ستغير أيضًا نظرتنا إلى شخصية نابليون بونابرت المعقدة والمركبة، والتي يرى الكثيرون، ومنهم المؤرخ الكبير “جان تيولار”، أن هذا القائد الشاب، والذي احتفل في القاهرة بعيد ميلاده التاسع والعشرين، قد انتابته طموحات الإمبراطورية عندما كان مجرد حاكم، وأنه لو لم يكن حاكمًا على المصريين لما أصبح إمبراطورًا على الفرنسيين.. وللحديث بقية.
(( غزوته لمصر التي لم يكن يقصدها طمعًا فيها ))
لو لم يكن طامعا بها، لما حرص في رسالته الأخيرة إلى (كليبر) أن يرسل “جوقة ” تمثيلية قائلا: “للبدء في تغيير تقاليد البلاد !!”
ولما حرص على استرسال 500 من الممالك إلى فرنسا ليتعرفوا على “عظمة الأمة الفرنسية” ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، فإذا عادوا إلى مصر يكون لنا منهم حزب يضم إليهم غيرهم “.
من ترجمة أحمد حافظ عوض في فتح مصر الحديث.