عولمة الخطاب العاشورائيّ
تنظر الأديبة يمنى العيد إلى الخطاب على أنه كل ملفوظ يندرج تحت السياقات الاجتماعية ويضطلع بمهمة توصيل رسالة، وهو مغمور في الإيديولوجيا. إلا أنّ البعض الآخر يعتبر أنّ توصيل الرسالة لا يقتصر على اللفظ فقط بل يتعداه إلى كل جهد شفهي أو كتابي، سرديًا كان أو تحليليًا، أدبيًا أو نثريًا، قصصيًا أو فنيًا.
وتتعدّد أنواع الخطابات بتعدّد موضوعاتها، وهي كثيرة، منها الخطاب الديني الذي هو البيان الموجّه باسم الإسلام إلى الناس مسلمين وغير مسلمين لدعوتهم إلى الإسلام، أو تعليمه لهم، أو تربيتهم عليه عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، فكرًا وسلوكًا، لشرح موقف الإسلام من قضايا الحياة والإنسان والعالم فرديًّا أو اجتماعيًّا روحيًّا أو ماديًّا بطريقة نظرية أو عملية.
ويعتبر الخطاب العاشورائي جزءً من الخطاب الديني لأنّه يطرح نفس الموضوعات ويعمل على بثّها والترويج لها في طريقه لإيصال صوت ثورة الإصلاح والتضحيّة والإيثار، ثورة انتصار الدم على السيف. بمعنى أنّنا لا نقصد بالخطاب العاشورائي ما يتلوه قارئ العزاء أو الخطيب الحسيني عن السيرة الحسينية وإن كان جزءً أساسيًا منه، بل نقصد به كل جهد إنساني يعكس هذه النهضة وأهدافها.
فالخطاب العاشورائي يحمل أعباء سبر غور الحركة الحسينيّة الموجّهة إلى المجتمع العالمي عامة وإلى المجتمع الإسلامي بشكل خاص- والتي رفع لواءها الإمام الحسين عليه السلام عند خروجه إلى كربلاء – وفهْم أبعادها وأهدافها، ومن ثمّ اسقاطها على المجتمعات بما يتناسب مع التنوّع الكبير الذي تزخر به تلك المجتمعات من تباين ثقافي، واجتماعي، ونفسي.
فإذا كانت الحركة العاشورائيّة حركة إصلاحيّة متكاملة بامتياز وتستهدف الناس في جميع أقطار العالم، لماذا بقيت محصورة بالشيعة دون غيرهم؟ ولماذا لم تحقّق عملية الإصلاح التي يدعو إليها الخطاب العاشورائيّ مبتغاها – والذي يتمثّل في بناء الإنسان على جميع الأصعدة – حتى في المجتمع الشيعي؟ وهل أنّ النقص والخلل يأتيان من نوع تناول الخطباء لتلك النصوص وفهمها وأسلوب عرضهم لها مما يؤدي إلى تعطيل دور فكر المتلقي أو تشويه الصورة المقدمة إليه؟ أم أنهما يتعلقان بشيء آخر؟
لا يمتاز المنبر العاشورائي فقط بأنّه منبر متجدّد في كلّ عام، بل إنّ قدرته على استقطاب الجماهير التي تنتمي إلى جميع الفئات العمريّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة هو ما يمكنّه من القيام بدوره في نشر الفكر الإسلاميّ الأصيل، إضافة إلى تمكينه من القيام بعمليّة إصلاحية نهضويّة واسعة إذا ما استثمر بالشكل الصحيح، خاصّة وأنّ الحقل الوجداني عند الجمهور مهيّأ لاحتضان مختلف أنواع البذور. فالعمليّة الإيصاليّة عمليّة معقّدة تشبه إلى حدّ ما تركبية ال”puzzle” في إظهارها للصورة الصحيحة، إذ تعتمد بشكل أساسي على عناصر ثلاث هي: المرسل، والمرسل إليه والرسالة.
ويشكّل المرسِل حجر الأساس في هذه العمليّة لأنّه يمثّل نقطة البداية إذ تقع عليه مسؤولية وضع محتوى الرسالة وإيصالها، وعليه أيضًا تقع مسؤوليّة معرفة ما يحتاجه المرسل إليه وسدّ تلك الحاجات بالطريقة المناسبة. استطاع العديد ممن تصدوا لهذا الأمر تحقيق الكثير من أهداف المنبر الحسيني، حيث عمدوا إلى مراعاة المراحل العمريّة والفروق النفسيّة والعلميّة وغيرها، وعكفوا على دراسة الخطوط الهامّة لعلم النفس العام والخاص، كما أنّهم استطاعوا إحياء بعض من أهداف الإمام الحسين عليه السلام من خلال ربطها بالواقع معتمدين خطابًا فكريًا نهضويًا تجديديًا عامًا، مسوغين القضايا التاريخيّة ضمن مصطلحات مستحدثة مثل: العدالة الاجتماعيّة والنسبيّة وضرورة التوزيع العادل للثروة والتنميّة المستدامة وغيرها. فكلّ مشهد يتمّ ربطه بالواقع يعود الدم ويتدفّق فيه فيحوّل بذلك كلّ أرض “كربلاء”. وهذا ما شهدناه مع جماهير المقاومة في ردّهم على جرائم التكفيريين إذ إنّ شعار عليّ الأكبر المتمثّل بمقولة أنه مادمنا على حقّ فلا يهمنّا إن وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا، خير دليل على ذلك. فتغيير الخطاب العاشورائي من عصر إلى عصر بات ضرورة ملحّة برأي هؤلاء، فكما أنّ فكرة وجود الله ثابتة في كلّ زمان إلّا أنّ الأدلّة عليها يجب أن تتغيّر بحسب المكان والزمان والخلفيّة المعرفيّة، كذلك الخطاب العاشورائي يجب أن يتلاءم مع الزمان والمكان والعقول، على قاعدة أنّه “نحن الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم” وعلى قاعدة أنّه “لكلّ مقام مقال”. فعقل إنسان القرن الواحد والعشرين محضّر لتقبل حقائق مستجدّه غيره في القرون الغابرة، إلا أنّ هذا الأمر نسبيّ يخضع للعديد من الشروط.
إذًا فمعرفة المتلقّي وخلفيّاته أمر هام جدًا وإلا انحرف الخطاب عن مقصده؛ فطرح مسألة الولاية التكوينيّة مثلًا أمام من يحتاج دروسًا في محو الأميّة العقائديّة ومن دون مقدّمات كافيّة يؤدي إلى توهين العقيدة وتضعيفها.
هذا وقد اتّسم خطاب من نجح في هذا المضمار بالبلاغة والفصاحة وبأنّه صادر عن رؤية معرفيّة شاملة، متطرقًا بالوقت نفسه إلى القضايا اليوميّة سواء كانت أخلاقيّة، سياسيّة، أم اقتصاديّة منتجًا منظومات تتعلّق بكلّ مفصل من مفاصل المجتمع كمشاكل الزواج والسكن والبيئة والغذاء، بمعنى أنّه حمل هموم الناس اليوميّة وعمل على حلّها، في الوقت الذي كان ينظر فيه إلى الكون وفلسفته الوجوديّة. فهؤلاء لم يقيّدوا الخطاب العاشورائي بمحاولة استذراف الدموع مع أهميّتها، ولم يسجنوه في غيابات التاريخ مع أنّه كنز معلوماتهم، ولم يحقنوه بمغالطات تصل إلى مرحلة الغلوّ، ولم يمتهنوه كمصدر للتكسّب. فمجلس العزاء ليس تجربة أداء الأصوات بل مسؤوليّة تبليغيّة نهضويّة يحملها على عاتقه كلّ من تصدّى لها وعليه ألّا ينوء بأعبائها، وإنّما عليه الاستفادة من كلّ وسائل التواصل الحركيّة والإيمائيّة والايضاحيّة لايصال شعار ثورة الإمام الحسين عليه السلام التي تصدح على مرّ التاريخ” إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرا ولا مفسدًا ولا ظالمًا وإنّما خرجت لطلب الاصلاح في أمّة جدّي”.
لكنّ الأمر لايقف عند المرسِل والرسالة مهما كانت مميّزاتهما، بل يتعدّاهما إلى المرسَل إليه لأنّه المستهدف الأوّل والأخير من هذه العمليّة، وله الكلمة الفصل في تحويل الرسالة من نظريّة إلى عمليّة وتسويغها، لأنّ عقل المستمع السلبي يتحوّل إلى مكب نفايات، حيث تنبت فيه أفكار السوء وتفوح منه الرائحة النتنة. فالله سبحانه وتعالى حثّ على التفكّر والتدبّر والتعقّل، ووصف من يمتاز بهذه الأفعال بأنّ له أذن واعيّة، يأخذ ما يسمعه إلى مشرحة المنطق والعقل والنقد. وبهذا يجبر قارئ العزاء على صقل أفكاره وأساليبه وتطويرها والارتقاء بمحتوى الخطاب إلى المستوى الذي يليق بفكرهم.
بالمحصّلة لقد نجح الخطاب العاشورائي في النهوض بالمجتمعات ولو جزئيًّا، ونجح في أن يصبح ملهمًا لبعض الأحرار والثوّار في العالم حيث يقول غاندي مثلًا: “تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلومًا فأنتصر”، إلّا أنّ تحقيق الهدف الكلّي لهذا الخطاب يعتمد على نجاح أقسامه الثلاث وتكاملها فيما بينها، وسبكها في سمفونيّة ابداعيّة متماسكة حتّى تستطيع أن تؤتي أُكُلها كلّ حين، وإلّا سنبقى نراوح في مكاننا ولن يتخطّى خطابنا جدران حسينياتنا وأعتاب طائفتنا على الرغم ممّا يحمله من أفكار عالميّة.
وأخيرًا نسأل: هل ستنجح محاولات القيّمين على إعداد كوادر المنابر الحسينيّة من حوزات دينيّة ومعاهد علوم إسلاميّة وغيرها من خلق النماذج اللائقة فكريًّا ولوجستيًّا لحمل هذه القضيّة وتوصيلها؟ هل سينجحون في تنقيّة الخطاب العاشورائي من الشوائب والترّهات؟ وهل أنّ المتلقين لهذا الخطاب سيتحمّلون مسؤوليتهم في صقل أنفسهم وتهيئتها لتقبله بعد شحنها بالحسّ النقدي؟!!!
المصادر
– د. خالد روسة: الخطاب الإسلامي مقاربة منهجيّة/ Almoslim. Net-
– د. حسن حنفي: تجديد الخطاب الديني
– د. ماهر أحمد راتب السوسي، عميد كليّة الشريعة والقانون بالجامعة الإسلاميّة في غزّة: مفهوم الخطاب الديني وسماته.
– مجلة بقيّة الله: قراءة في كتاب تراجيديا كربلاء
– الشيخ حسين الخشن: الخطاب العاشورائي: قراءة في المفهوم والمصادر