في إطار البحث الإسلامي المعاصر يبرز الإمام الحسين (ع) كواحد من أهم المحطات التاريخية والروحية التي أثّرت في مسار الإسلام وبقائه بعد نبوة ورسالة النبي الأكرم (ص). يستكشف هذا النص البعد العرفاني لشخصية الإمام الحسين (ع)، في محاولة للكشف عن العمق الديني والرمزي الذي انعكس في تحول مسار التاريخ الإسلامي بعد النبوة، وكيف كان العاشر من المحرم تجذيرًا للإسلام الذي بدأ بالانحراف بعد النبوة؟ وكيف جددته عاشوراء؟ صعودًا إلى فهم عاشوراء وكربلاء وفق رؤية عرفانية تأخذنا إلى تتبع البعد العرفاني في شخصية الإمام (ع) وتجسيده لرحلة الإنسان الكامل نحو الله. من ثم يتطرق النص إلى فلسفة الشهادة في كربلاء وانبثاقها من الفعل إلى المقام، وأنها شهادة أنطقت التاريخ وكسرت الزمن. وأن فلسفة الحضور في كربلاء هي حضور مقابل غياب.
أولًا: العاشر من محرم وكربلاء تأصيل وتجذير الإسلام وبقاؤه.
أ. الانحراف بعد النبوة وتجديد الأصل.
بعد وفاة النبي محمد (ص)، دخلت الأمة في مرحلة حاسمة، حيث برز انحراف عن المسار النبوي الذي أرسي خلال فترة الرسالة، فبدأت التيارات السياسية والدينية بالتفرع إلى توجهات متباينة. في هذا السياق، يعتبر حدث عاشوراء وكربلاء علامة فارقة في تجديد الأصل الإسلامي؛ إذ إن استشهاد الإمام الحسين (ع) في ميدان كربلاء لم يكن مجرد نزاع سياسي، بل كان حدثًا ذا بعد رمزي عميق أظهر مبدأ التجديد في ظل الانحراف. فعندما تباينت الخلافات وصارت الفصائل تتجادل حول من هو الوريث الحقيقي للإسلام، كان لشهادة الإمام الحسين (ع) دورٌ في تجسيد رمز الحق المستقل عن مصالح السلطة، وإعادة التأكيد على القيم الأخلاقية والروحية التي جاءت بها الرسالة النبوية.
إن الانحراف السياسي والاجتماعي الذي تبلور بعد النبوة دفع بفكر كثير من المتعصبين نحو تكريس مفاهيم السلطة والتوزع الزمني للمصالح، مما أدّى إلى تراجع المعاني الأصيلة للإسلام. وعلى النقيض، كان لمأساة كربلاء دورٌ رائد في إعادة النظر إلى الأصل، وتحقيق تجديدٍ روحي يغذّي النفس الإسلامية بقيم الحق والعدالة والتضحية. وهكذا، يمكن القول: إن عاشوراء كانت بمثابة نقطة تحول مفصلية أعادت إلى الأذهان الأصول التي نسيت في زحمة الانحرافات.
ب. عاشوراء وكربلاء في الرؤية العرفانية
من منظور عرفاني، يكتسب العاشر من محرم وكربلاء أهمية تفوق السياق التاريخي والسياسي، إذ ينظر إليها العارفون كنقطة التقاء بين العالم المادي والباطني. ففي هذه الرؤية، تُعد عاشوراء تجسيدًا للحالة الروحية العابرة للكتمان والظهور، حيث تتجلى فيها معاني الزهد والتضحية والفناء في سبيل الحقيقة. ومن هنا، تتحول المأساة إلى رمزٍ كوني، يتجاوز حدود الزمان والمكان، ليصبح نبراسًا للبحث عن المعاني السامية والوجودية.
يرى العرفاء أن معركة كربلاء لم تكن مجرد أحداث دموية، بل كانت بمثابة تجسيد للمعركة الأزلية بين الخير والشر، بين الحق والباطل، مما أكسبها بعدًا روحانيًّا يتجاوز التفسير الحرفي للأحداث التاريخية. وهكذا فإن النظر إلى الخطب الجلل في ضوء العرفان يساعد على استيعاب الحدث بطريقة تتداخل فيها مسارات الروح والحقيقة الإلهية، فتظهر كرمز مُستتر يحمل في طياته رسالة تطلق العنان لمفاهيم الوحدة الكونية والتواصل مع الخالق.
ثانيًا: البعد العرفاني في شخصية الإمام الحسين (ع).
يمثل الإمام الحسين (ع) أنموذجًا عرفانيًّا متكاملًا يجسد الأبعاد المتعددة للفداء واليقين. فمن الناحية التاريخية فإن شهادته كانت تعبيرًا عن موقف لا يتجزأ من المطالبة بالعدل وإعلاء كرامة الإنسان، لكن من منظور عرفاني، تحمل شخصية الإمام الحسين (ع) بعدًا أعمق يتجاوز الوقوف عند الحدث نفسه. فهو رمز للإنسان الذي يستطيع تجاوز ظلمات الدجال والرباط الزائف الذي يحاول أن ينقبض على حرية الفكر والروح.
وفي الفلسفة العرفانية، يصبح الإمام الحسين (ع) صورةً للروح الكاملة التي لا تخشى المجهول ولا تنحني أمام التقلبات الدنيوية، بل تظل متشبثة بما هو أسمى وأعظم.
إن ما يميز شخصية الإمام الحسين (ع) هو صوابه الروحي وقدرته على تحويل ألم الفقدان إلى نور يهدي الأنفس الباحثة عن الحقيقة، ولا يمكن فصل أبعاده الروحية عن جوهر رسالته؛ فهو يمثل الأنموذج الذي تمظهرت فيه ثلاثة محاور: الوفاء للقيم النبوية، الثبات على المبادئ الأخلاقية، والتجلي الإلهي الذي يخترق أنسجة الجسد والزمن.
ثالثًا: الحسين (ع) والإنسان الكامل.
يرتبط مفهوم “الإنسان الكامل” في الفكر الإسلامي بشكل وثيق بشخصية الإمام الحسين (ع)، فالحسين (ع) يمثل الكمال في التضحية والعمل على تجسيد القيم الإلهية في الحياة اليومية. يُنظر إليه باعتباره المثال الأعلى في الاتزان بين الروح والجسد، بين الفكر والعمل، مما يُتيح له الوصول إلى درجة الكمال الإنساني التي يسعى إليها كل باحث في الميدان العرفاني.
يُفسر هذا الكمال بأنه حالة من التجلي الروحي والأخلاقي الذي يجعل من الفرد جسرًا يصل بين العالم المادي والعالم الروحي، وبين الواقع والماوراء. ففي شخصية الإمام الحسين (ع) نجد تجسيدًا لهذا المفهوم، إذ إنه لم يكن مجرد قائد تاريخي أو سياسي، بل كان رمزًا إنسانيًّا يحقق التكامل بين جميع الجوانب الحياتية؛ العاطفية، الفكرية، والروحية. ويكتسب الإمام الحسين (ع) بذلك صفة “الإنسان الكامل” الذي لا يقتصر دوره على مواجهة التحديات الزمنية فحسب، بل يقوم بتوجيه الأجيال نحو البحث عن الذات الإلهية والوجودية التي تتخطى حدود المادة.
وبذلك تصبح شخصية الحسين (ع) أنموذجًا يحتذى به في كيفية مواجهة العذاب والتحديات، حيث يظهر أن الكمال الإنساني لا يُقاس بمدى قوة العضلات أو الذكاء العقلي فقط، بل بقدرته على تحويل الألم إلى فكر نير، والنضال إلى وسيلة للوصول إلى الحقيقة. وهذا يشكل الأساس الذي ينبثق منه مفهوم الكمال في العديد من التيارات العرفانية، إذ يُنظر إلى الإمام الحسين (ع) كمرجعية روحية تقف على مفترق طرق بين الواقع والرمزية العليا.
عندما نتناول الإمام الحسين (ع) من منظورٍ عرفاني، لا نتعامل مع شخصية تاريخية فحسب، بل مع تجلٍّ لنورٍ ربانيٍّ تمثّل في صورة بشرٍ يسير في الأرض، لكن قلبه معلّقٌ بالسماء، وروحه ممتزجةٌ بالحقيقة المحمدية العليا. في الرؤية العرفانية، الإمام ليس فقط إمامًا للناس، بل هو قطبٌ للوجود، مركزٌ تتوجه إليه أنوار الرحمة، وتجري منه أنهار الهداية. وهذا ما يجعل من الحسين (ع) ـ في السياق العرفاني ـ أحد أبرز مظاهر الإنسان الكامل، الذي يُشكّل مرآةً لله في الوجود.
العارفون بالله يرون أن كل إمام معصوم هو مظهر من مظاهر “الوجه الإلهي”، لكن الإمام الحسين (ع) يتفرّد بأنه مظهر التجلي في “حال الفداء”، أي في تقديم الذات قربانًا للحقيقة. لم يكن الحسين (ع) طالب سلطة أو حاكمًا يبحث عن مُلك، بل كان سالكًا في درب التوحيد، لا يرى غير وجه الله في كلّ ما يواجهه. ولذلك، فإن خطابه في كربلاء، ومواقفه في مواجهة الظلم، تنبع من شعورٍ حضوريٍّ عميق بالاتصال بالله، لا من منطلق سياسي أو اجتماعي.
في المدرسة العرفانية، يُقال إن الإمام الحسين (ع) وصل إلى مقام “الفناء في الله والبقاء بالله”، وهو المقام الذي يُصبح فيه العارف لا يتحرك إلا بإرادة الحق، ولا يرى في فعله إلا مظهرًا من مظاهر المشيئة الإلهية. ولذلك قال بعض العارفين: إن الحسين (ع) حين خرج إلى عاشوراء وكربلاء كان قد حسم أمره بالاستشهاد منذ البداية، لا لأن النصر مستحيل، بل لأن الفداء هو عين النصر، لأنه يكشف الحقيقة ويجردها من الزيف.
ويتجلى هذا المقام العرفاني بشكل واضح في خطب الإمام قبل المعركة، وفي وقوفه وحده في أرض كربلاء، مطمئن القلب، ثابت الجَنان، وكأنه يرى ما لا يراه غيره. إن هذه الطمأنينة ليست عاطفة نفسية، بل هي أثرٌ من آثار “اليقين” الذي عبّر عنه أمير المؤمنين علي (ع) بقوله: “لو كُشف لي الغطاء ما ازددتُ يقينًا“. والإمام الحسين (ع) كان في هذا المقام، بل يُمكن القول: إنه كان في مقام الكشف التام، يرى الدنيا على حقيقتها، ويعلم أن القتل في سبيل الله هو عين الحياة، وأن الشهادة ليست موتًا، بل عبورٌ إلى التجلي الأعلى.
وقد عبّر الإمام (ع) عن هذه الرؤية العرفانية بعبارات تُعدّ مفاتيحًا لفهم مقامه، مثل قوله: “رضًا برضاك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين“. هذا التسليم التام، وهذا الرضا العميق، هو ما يجعل الحسين (ع) عند العارفين ليس فقط شهيدًا، بل وليًّا عارفًا قد بلغ غاية السلوك، حتى صار قتله حياة، وصمته صرخة، وموته خلودًا.
ولعلّ أهم ما يميز الإمام الحسين (ع) في السياق العرفاني هو قدرته على تحويل الألم إلى نور، والدم إلى كلمة، والمأساة إلى طريقٍ نحو الحقيقة. فهو القُربان الذي فُدي به الإسلام، كما فُدي إسماعيل في قصة الذبح، لكنه فداء من نوعٍ آخر، فداء ليس فيه كبشٌ ولا غنم، بل هو الفداء بالحقيقة ذاتها، وتجليها الأعظم.
إن الإمام الحسين (ع) في ضمير العرفاء ـ هو مرآة الله في الأرض، لا لأنه إلهٌ يُعبد (والعياذ بالله)، بل لأنه عبدٌ لم يرَ لنفسه وجودًا، فصار مظهرًا للوجود الحق. وهكذا تجتمع في شخصه صفات النبي، ونور الولاية، وعزيمة الأوتاد، وفهم العارفين. ولقد نظر العرفاء إلى الإمام الحسين (ع) لا كفاعلٍ في التاريخ فقط، بل ككائنٍ يتجاوز التاريخ، لأنه ارتبط بالحقيقة المطلقة، وعبّر عنها بدمه وفعله وصبره وبصيرته. وهو، في هذا، شبيه برسول الله (ص) في ميدان الدعوة، وشبيه بالإمام علي (ع) في ميدان القتال.
رابعًا: سير الإمام الحسين (ع) نحو كربلاء: رحلة الإنسان الكامل إلى الله.
إذا كانت سيرة الأنبياء تمثل مراحل من سلوك الإنسان نحو الكمال، فإن سيرة الإمام الحسين (ع) تمثّل اكتمال تلك الرحلة في بعدها العملي والعرفاني. فقد خرج من مكة، مهد النبوة، إلى كربلاء، مهد الشهادة، وكأنه يتحرك من عالم الصورة إلى عالم المعنى، من الذات إلى الفناء، من الإمكان إلى الوجوب.
في الطريق إلى كربلاء، لم يكن الحسين (ع) فقط يسير بقدميه، بل يسير بروحه نحو مقام “التحقق الكامل”، وكأن عاشوراء وكربلاء كانت النقطة التي تُختم بها رحلة الإنسان الكامل في الزمان، ليبدأ منها وجوده في عالم الحقيقة.
مرّ العرفاء في سلوكهم بعدة مقامات: التوبة، الزهد، الخوف، الرجاء، الفناء… وهي مقامات تُعاش في باطن النفس. أما الإمام الحسين (ع) فقد جسّد هذه المقامات في أفعاله: توبته كانت في نهضة الأمة من غفلتها. وزهده كان في رفضه للملك والسلطة الظالمة. وخوفه كان من الله لا من السيوف. ورجاؤه كان في لقاء الله من خلال الشهادة. وفناؤه كان في كربلاء، حيث لم يبقَ من ذاته شيء، بل بقي الله فقط.
خامسًا: فلسفة الشهادة في كربلاء.
تمثّل عاشوراء وكربلاء ذروة الموقف الإنساني والروحي في مواجهة الباطل، ولعلّ أبرز تجلياتها في الرؤية العرفانية تتمثل في مفهوم الشهادة، لا بوصفها موتًا جسديًّا فحسب، بل عبورًا إلى مقامٍ عرفاني أرفع، حيث يصبح الفعل التاريخي لحظة انكشاف للحقيقة، والقتل بابًا للفناء في الله والبقاء بالله.
أ. الشهادة في الإسلام: من الفعل إلى المقام.
في التصور الفقهي العام، الشهادة هي قتل المؤمن في سبيل الله، أما في التصور العرفاني فهي مقام من مقامات التوحيد، يصل إليه العارف حين يُفني إرادته في إرادة الله، ويُذيب ذاته في بحر الجلال والجمال الإلهي.
الشهيد في هذا السياق لا يموت، بل يُبعث إلى الحياة من جديد في عالم النور. والقرآن الكريم أشار إلى هذا المعنى بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ (سورة البقرة، الآية 154).
في فلسفة الشهادة، تتحول الشهادة من “فعل” إلى “مقام“، ومن تضحية جسدية، إلى تحقّق روحي بالحقيقة الإلهية.
ب. الإمام الحسين(ع) والشهادة: الموت الذي أنطق التاريخ.
لم تكن شهادة الإمام الحسين (ع) حدثًا عابرًا، بل كانت نقطة تحوّل كسرَت صمت التاريخ. لقد أنطق دمه الحقيقة، وخلخلت شهادته بنيان الباطل، وكأنها أرادت أن تقول للأمة: إن الحياة الحقيقية ليست في البقاء الجسدي، بل في الوقوف مع الحق.
لذلك، قال الحسين (ع) في كلمته الخالدة: “إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا“. هذه ليست كلمات ثائر فقط، بل كلمات عارف بالله يرى الوجود بمنظار الحقيقة، ويُدرك أن الموت في سبيل الله ليس نهاية، بل هو تحقّق بالخلود.
لقد أعاد الإمام الحسين(ع) تعريف الموت، فجعله ناطقًا وجوديًّا للحق، وصار دمُه لسانًا أبكم كان ينتظر من يحرّكه، فحرّكه الحسين لا بالكلام، بل بالفداء.
ج. الشهادة والحقيقة المحمدية.
في الرؤية العرفانية، الشهادة التي وقعت في عاشوراء وكربلاء ليست منفصلة عن جوهر النبوة، بل هي تجلٍّ نقيّ للحقيقة المحمدية. الحسين (ع) هو استمرار للرسالة، بل هو “روح محمد في ثوب الحسين”، وكلما ضرب السيف جسده، كانت الرسالة تنكشف من جديد.
يقول بعض العرفاء: إن النبي محمدًا (ص) أظهر الحقيقة بالكلمة، لكن الحسين (ع) أظهرها بالدم. ومن هنا، فإن الشهادة كانت لا من الحسين (ع) فقط، بل من الحقيقة المحمدية ذاتها.
د. كربلاء: اللحظة التي كسرت الزمن.
في المنظور التاريخي، عاشوراء وكربلاء حدث وقع في سنة 61 للهجرة، لكنه في المنظور العرفاني لحظة أبدية كسرت الخط الزمني. فكل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء، وكل ضمير يستيقظ على صوت الحسين (ع) هو امتداد لتلك اللحظة. وهنا يصبح الحدث العاشورائي وكربلاء تجلّيًا لاسم الله “الحق” الذي لا يُطمس، ولا يقبل أن يُختزل في سياسة أو سلطة. وتبرز وصية الإمام (ع) لأخيه محمد الذي قال فيها: “بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي“، كنداء متجدد في ضمير كل الإنسان، وتتمظهر عاشوراء وكربلاء في كل عصر، لا كمأساة تُبكى، بل كمعركةٍ تُخاض في كل لحظة ومع كل إنسان حق.
تمثّل كربلاء، في البعد العرفاني، ليس مجرد حدث تاريخي مضى، بل حضورًا مستمرًّا في ضمير الزمان والإنسان. فالحسين (ع) لم يُغِبْه السيف، ولم يُخمد صوته التراب، بل ظلّ حاضرًا، يجلجل في الضمائر، وينير للعارفين دروب الحقيقة.
ه. الحضور مقابل الغياب.
في الفهم الظاهري، الموت يعني الغياب؛ غياب الجسد والصوت والحركة. أما في الرؤية العرفانية، فالموت في سبيل الله لا يُفضي إلى الغياب، بل إلى حضورٍ أعلى، يتجاوز المادّة ويستقرّ في القلب والروح.
الحسين (ع) حاضر في كل صلاة تُقام، وفي كل وقوف للحق، وفي كل ثورة على الباطل. إن الحسين (ع)، بحسب هذا التصور، لم يُقتل بل تجلّى، ولم يُقطع بل تجذّر، حتى صار كيانه المعنوي منسوجًا في وعي الأمة الإسلامية، وخصوصًا في وعي أولئك الذين ينشدون الحقيقة.
و. الحضور العرفاني: الإمام مرآة للحق.
الحضور العرفاني ليس فقط استمرارٌ للذكرى، بل هو تحقّقٌ بالحق في مرآة الإمام. العارف لا يرى في الإمام الحسين (ع) مجرد رجل استُشهد، بل يرى فيه الوجه الإلهي الظاهر في الإنسان الكامل.
يقول العارفون: إن الإمام هو “عين الله الناظرة”، و”لسان الله الناطق”، و”يد الله الباسطة”. ولذلك فإن حضوره لا يُقاس بالزمن، بل يُقاس بشدة إشراقه في الضمائر والقلوب.
حين يذرف العاشق دموعه في زيارة الأربعين، فهو لا يستذكر ماضٍ غابر، بل يتصل بحقيقةٍ نورية ما زالت فاعلة في الوجود. ومن هنا، يُصبح البكاء، والمشي إلى الحسين (ع)، ومجالس الذكر، أدواتٍ للوصال الروحي والتجلّي العرفاني.
ز. الإمام الحسين (ع) كوعيٍ حيّ: الحضور في التاريخ والضمير.
لا يمكن فهم الحسين (ع) بمعزل عن الأثر الذي تركه في التاريخ، لكن الأهم هو أثره في الضمير الإنساني. لقد ظل الحسين (ع) حيًّا في كل صوت يرفض الذل، وفي كل إنسان يسعى لتحقيق العدالة الإلهية.
إنه ليس فقط ذكرى، بل ضميرٌ حيّ، يتجدّد في كل قلب عرف الله وأحب نوره. وقد عبّر الكثير من العارفين عن هذا الوعي الحيّ للحسين بأنه شعور دائم بوجود الحق بيننا، فحيث يكون الحسين (ع)، يكون الله، وحيث يُذكر الحسين (ع)، تُذكر الكرامة والعدل والنور.
خاتمة.
من أعظم ما في عاشوراء وكربلاء أنها لا تزال تتمدد فينا، في وعينا، وفي سلوكنا، وفي طريقتنا في فهم الدين. يقول العرفاء: إن كل من يحب الحسين (ع) حبًّا صادقًا، ويتفاعل معه وجوديًّا، يصبح جزءًا من كربلاء، حتى لو لم يكن في زمانها أو مكانها.
نحن امتداد كربلاء، لا حين نبكي فقط، بل حين نحيا بروح الحسين (ع) فنرفض الظلم، ونطلب الحقيقة، ونمضي نحو الله بشجاعة ونختار الله على أنفسنا، والحقيقة على السلامة، والمبدأ على المصلحة، لنصبح ورثة تلك الدماء الطاهرة التي روت تراب كربلاء.
وهكذا، يبقى الإمام الحسين (ع) مرآةً حية للحضور الإلهي، يضيء للمؤمنين نهج السبيل، وللعارفين درب الوصول، ويجعل من الشهادة، والفداء، والحب، والإرادة، مقامات في طريق العروج إلى الله.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.