ليست حياة الإنسان في منطق القرآن والعترة، مجرد حياة طبيعية قائمة على تمتع المرء بعلامات الحياة من حرارة ونبض وتنفس، بل هي بلوغ الموجود المريد حدًّا من القرب من الله تعالى يجعله متمتعًا بكمالاته، وذائبًا في إرادته، ومتحرّكًا وفق مساره الذي يحدده له؛ ومن هذا المنطلق يدعو القرآن الإنسان إلى الاستجابة لدعوة الرسول التي تحمل معنى الحياة الحقيقية، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[1]، كما يصف حال المعرضين عن الدعوة هذه بالأموات: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ[2]، وكذلك حينما ننظر إلى النظام المعياري الذي أرساه أهل البيت (ع) عند مقاربة الموت، نرى النبي (ص) ينهى عن مجالسة الموتى، ولما سألوه عن مقصوده من الموتى، قال: ” كل عبد مترف فهو ميت، وكل من لا يعمل فهو ميت[3]، وكذلك نجد الإمام عليًّا(ع) عند حديثه عن الموت يشير إلى أن حقيقته مرتبطة بخيارات المرء، فيقول: “والحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين[4]، وكذلك في التعامل مع الموت، نجدهم (ع) يبنونه على مرتكزات العقيدة والمسارات التي على ضوئها يمسي الموت سعادة أو شقاء، كما في المروي عن النبي (ص) من أنه قال لأنس- لما دخل عليه وهو نائم على حصير قد أثر في جنبه -: “أمعك أحد غيرك؟ قال أنس: قلت: لا، قال (ص): اعلم إنه قد اقترب أجلي وطال شوقي إلى لقاء ربي، وإلى لقاء إخواني الأنبياء قبلي؛ ثم قال: ليس شيء أحب إليّ من الموت، وليس للمؤمن راحة دون لقاء الله[5]، وكما في المأثور عن الإمام علي(ع) من قوله: “والله لابن أبي طالب لآنس بالموت من الطفل بثدي أمه[6]، وعن الإمام الحسين(ع) من قوله: “فوالله إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا[7]، وبهذا تتضح معايير كلٍّ من الموت والحياة.

 وإن المدرسة الوحيدة التي تزخر بهذه المعايير وتجسدها عيانًا بالفعل والممارسة، هي مدرسة الإمام الحسين(ع)، وعاشوراء هي الزمن الوحيد الذي يستوقف قافلة المؤمنين عامًا بعد عام لتنهل من معين هذه المدرسة، وهي الأيام العشر التي تحتضن في التاريخ نهضة الحسين(ع)، وفي الوجدان قيامة الإنسان، وتحفر في الذاكرة مظلوميته التي تفتح بالدمع طريق النفس أمام العقل لتتنزل الفكرة منه إلى حاق القلب وتستحيل قيمة، وتستحضر من التاريخ تراث الدم المسفوح في سبيل الله تعالى، كاستعادةٍ لروح الاستشهاد في سبيل القضايا الحقة، وشاهدٍ على فعل القتل الذي يمارسه الطاغوت في حق أئمة الحق ظلمًا واستكبارًا.

وبهذه المفاهيم لطالما شكّلت عاشوراء الوعي والعاطفة الرشيدة، وساهمت في صناعة النفوس الأبية، ورمت بشررها عروش الطواغيت بأخطر جمار الغضب والقيام لله تعالى، وقدّمت للعالمين نموذج الحياة الحقّة ببناء مداميك الموت المشرِّف، وبيّنت الحياة المزيفة بإبراز ملامح الموت الحقيقي، وهذه الصناعة العاشورائية للحياة الحقّة تتقوّم حسينيًّا بإبراز الجدلية بين الموت والحياة، وبتعبير آخر، كشف النقاب عن الحياة الحقيقية التي يخطو إليها الإنسان بإرادته، حينما يأخذ قرارًا حاسمًا بالثبات على الحق، ولو أدّى به ذلك إلى اقتحام الموت، وتجرّع المرارات، وتلمّس العذابات.

وما الهدف من هذه المقالة إلا استكشاف بعضٍ من هذه المداميك، وتظهير شيء من دروس عاشوراء التي تتيح لدارسيها احتراف الحياة الحقّة، وذلك من خلال العناوين التالية:

موت سعيد أم حياة مملة؟

الإنسان مفطور على حب الوجود والخلود والحياة، وهي كلها من رشحات انجذابه إلى الكمال المطلق، والحياة عنده حقيقة راجحة، إلا أن نظرته إليها تتأثر بالرؤية الكونية التي يحملها، فإذا كان يراها مرهونة بسعادته الحسية، ومقرونة حصرًا بعافيته البدنية، فإن حرصه سيكون منصبًّا على تحقيق ما يجلب له المنفعة واللذة، ويدفع عنه المضرة والألم، ولو كان ذلك في عبودية الهوى والانسياق خلف الرغبات والخضوع للظالم، طالما أن ذلك يجنبه التفريط -من منظوره- بحظِّه من سعادته الدنيوية المدَّعاة، أما إذا كان يرى حياته الحقة في بعده الروحي والقلبي، وفي مدى اتصاله بمن يتصف بالحياة الحقيقية الواحد الأحد، فإنه بالإضافة إلى حرصه على حياته المادية، سيحرص بنحو آكد على حياته الروحيه والمعنوية، فيجلب لها ما يحييها من طاعة الإله، والاتصاف بصفات الإنسانية، ويجنبها ما يميتها من المعصية والإعراض عن الحق؛ وانطلاقًا من ذلك فإن الإنسان الحقيقي يرى الحياة في دائرة الظلم والابتعاد عن الفطرة، والإعراض عن الله تعالى، والركون إلى إرادة الشيطان، حياةً مملَّة، فاقدة لشروط التكامل، ومشتملة على عناصر الابتعاد عن الهدف، وبالموازاة من ذلك فإنه يرى الموت الذي من شأنه أن يضع حدًّا لهذه المراوحة العبثية سعادةً ما بعدها سعادة، وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين (ع) بقوله: “ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برمًا[8]؛ ويتضح عند التأمّل في هذه الرواية، أن سمة الحياة التي يحكمها الظالمون الابتعاد عن العمل بالحق، وعدم التناهي عن الباطل، وبتعبير آخر، افتقاد الغيرة على الحق، وتطبيع الباطل واستحالته إلى واقع عادي لا يستفز أحدًا، ولا يلفت انتباه أحد للتحرك نحوه ومحاولة تغييره.

الموت أحلى من العسل.

متى يصبح الموت أحلى من العسل؟ حينما يكون نتيجة قرار واع بالتمسك بالحق، والثبات مع إمام الحق، وأيضًا حينما تمسي الحياة أمرَّ من العلقم، نتيجة التخاذل والركون إلى الباطل، والتثاقل عن نصرة الحق، وأحسب أنكم استحضرتم في أذهانكم صاحب هذه المقولة، عنيت به القاسم بن الحسن(ع)، حيث ورد في الأخبار أنه بادر عمه الإمام الحسين(ع) بالسؤال فقال: “وأنا فيمن يقتل؟ فأشفق عليه الإمام، وقال له: يا بني كيف الموت عندك؟ قال: يا عم فيك أحلى من العسل، فقال: إي والله فداك عمك، إنك لأحد من يقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم…”[9].

وكلمة “فيك” تحمل سرَّ الحلاوة، والسببَ الذي لأجله يغدو الموت أحلى من العسل، فـ”فيك” تعني أن تجعل موتك قتلًا في سبيل الله على بصيرة من أمرك تحت راية إمامك، وما ينتج عن ذلك من عز الدنيا وسعادة الآخرة، فكيف لا يغدو الموت والحال هذه أحلى من العسل، وهو في منطق المعصوم قنطرة عبور من السجن الضيق إلى الجنة الرحبة، ومن ذل الخنوع إلى عز القيام والنهوض، وبهذا الزخم فإن “فيك” هذه تصير الموت حياة حقيقية لا فناء فيها.

بالحق تحيا شجاعًا.

يروي المؤرخون أنه في الطريق خفق الحسين(ع)- أي نام – وهو على ظهر فرسه خفقته ثم انتبه وهو يقول: “إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين“، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين فقال: “يا أبه جعلت فداك مم حمدت واسترجعت قال: يا بني إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، فقال له: أبه لا أراك الله سوءًا، ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد، قال: إذًا لا نبالي أن نموت محقين…”[10].

يعيش الناس عادة شعور القلق والخوف من الموت، وبالخصوص أولئك الذين يرونه عدمًا، فيبث ذلك فيهم الشعور بالجبن والضعف عن مواجهة التحديات التي تهدّد حياتهم، أما أولئك الذين يجعلون الحق قبلة لحركتهم، ويرونه شعلة تسعر في قلوبهم حماسة الفداء، فإنهم لا يبالون بالموت، بل يندفعون إليه حين يغدو طريقًا لنصرة الحق، وسببًا للوفاء في البيعة، والصدق في الموقف.

لا حياة من دون عزة.

واحدة من مرتكزات الشخصية المؤمنة، العزة المستمدة من الله العزيز الحكيم، يقول تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾[11]، وهذه العزة نجدها وتدًا عظيمًا من أوتاد النهضة الحسينية، عبّر عنها الحسين(ع) بمواقفه، ومنها قوله الذي غدا شعارًا خالدًا: “هيهات منا الذلة[12]، وقوله: “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد…”[13]، كما جسَّدها بسلوكه وبفعل الجهاد والاستشهاد الذي جلّاه بدمه الشريف، حتى صح فيه قول الشاعر:

تعلمت منك ثباتي وقوة حزني وحيدًا
وكم كنت يوم الطفوف وحيدًا
ولم يك أشمخ منك وأنت تدوس عليك الخيول[14].

فالذل في منطق العقلاء عار والموت أولى منه، وقد صدح بذلك الإمام الحسين(ع) يوم العاشر من المحرم حين أخذ يدعو الناس إلى البراز، وهو يقول: “القتل أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار[15].

والحمد لله رب العالمين

[1] سورة الأنفال، الآية 24.

[2] سورة النمل، الآية 80.

[3] أبي الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، قم، مكتبة المصطفوي، الطبعة 2، 1369ش، الصفحة 271.

[4] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، قم-إيران، دار الذخائر،  الطبعة 1، 1412-1370ش، الجزء1، الصفحة 100.

[5] ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، بيروت-لبنان، مؤسسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، الطبعة 2، 1988-1408، الجزء12، الصفحة64.

[6] نهج البلاغة، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 41.

[7] ابن نما الحلي، مثير الأحزان، النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، لا.ط، 1369 – 1950م، الصفحة32.

[8] مثير الأحزان، مصدر سابق، الصفحة 32.

[9] السيد هاشم البحراني، مدينة المعاجز، قم- إيران، مؤسسة المعارف الإسلامية، الطبعة1، 1414، الجزء4، الصفحة 215. 

[10]السيد محسن الأمين، لواعج الأشجان، صيدا، مطبعة العرفان، لا.ط،1331، الصفحة 98.

[11] سورة المنافقون، الآية 8.

[12] الشيخ الطبرسي، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، لا.ط، 1966-1386، الجزء 2، الصفحة 24.

[13] أبو مخنف الأزدي، مقتل الحسين، قم، المطبعة العلمية، الصفحة 118.

[14] الشاعر مظفر النواب، قصيدة رأس الحسين بين السموات والأرض، نقلًا عن موقع: منتديات يا حسين(ع) الإلكتروني.

[15] مثير الأحزان، مصدر سابق، الصفحة 54.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Leave A Comment

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.