أقام معهد المعارف الحكمية وضمن برنامجه الدوري “المنتدى الفلسفي” لقاءً فكريًّا مع الأستاذ الدكتور محمد علي العريبي، وذلك نهار الاثنين الواقع في 25/8/2025، الساعة 4:00 عصرًا تحت عنوان: “الأخلاق بين الثبات والنسبية”. في مقر المعهد في منطقة سان تيريز. حضر هذا اللقاء مجموعة من المثقفين والمهتمين.

بدأ اللقاء بكلمة ترحيبية لمدير الجلسة الدكتور سمير خير الدين، طرح فيها مجموعة من الأسئلة تتعلق بالأخلاق وكيفية مقاربة مفهومي الثبات والنسبية فيها، وتطرق إلى مجموعة من النقاط، فقال: هل يُنتج مفهوم الأخلاق فلسفة أخلاقية، أم فعلًا أخلاقيًّا؟ ثم أضاف متسائلًا هل للأخلاق منشأ ثابت يجعلها ثابتة، أم هي اعتبار إنساني؟ وبعد أن طرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية، انتقل وعرّف بالدكتور العريبي، فقال: “هو أستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية، متعاقد مع المعهد العالي للدكتوراه، متعاقد مع جامعة القديس يوسف، أستاذ زائر وإشراف في جامعة الكويت، له العديد من المؤلفات: المذاهب والمناهج الفكرية والعلوم عند العرب، المنطلقات الفكرية عند الإمام الفخر الرازي، ابن رشد وفلاسفة الإسلام، الأديان الوضعية في الشرقين الأدنى والأقصى، المختار من الفلسفة، الأخلاق في الفكر العربي والإسلامي، تحقيق وتقديم أساس التقديس في علم الكلام للفخر الرازي”. ثم أعطى الكلام للدكتور العريبي.

بدأ الأستاذ الدكتور العريبي محاضرته بالكلام عن الأخلاق كفرع من فروع الفلسفة، ثم تطرق إلى أصول اللفظ في القرآن الكريم، فأشار إلى أنّ هذه الكلمة لم ترد بالجمع فيه، إنّما استخدم في صيغته المفردة في موضعين للإشارة إلى الرسول (ص) والحديث عن العادة، وبعد هذا العرض السريع، قال إنّه لن يتطرق إلى هذا البعد في محاضرته، إنّما سيتحدث عن الأخلاق المتعلقة بالحياة، والمرتبطة بالمجتمع المدني الذي نشأ مع نشأة ما سُمي بالإقطاع وإيجاد المحراث، حيث أدى هذا التحول إلى ضرورة إيجاد قواعد سلوكية تضبط الحياة الاجتماعية في المدينة، حيث إن أقدم نص في هذا المجال هو قوانين حمورابي، وهذا الأمر ليس غريبًا، فالكثير من القواعد الأخلاقية تحولت لتصبح دساتير، فالأخلاق انطلاقًا من هذه الرؤية أشد فروع الفلسفة قربًا من الحياة. فهي تهتم بتقييم أنماط المواقف التي يتخذها الإنسان من الموضوعات الحياتية المثارة، مثل: ما هو موقفنا الأخلاقي من ما توصلت إليه الصين من إنتاج روبوت أنثى ذات رحم تستطيع أن تحمل، وهذا الأمر تنتج عنه مواقف أخلاقية، تتعلق بالمولود ونسبه، وإذا أخطأ الروبوت هل يسجن؟ 

بعد هذه المقدمة، عاد وأشار إلى أن الأخلاق نشاط فكري، في التعليم الأكاديمي تمّ التمييز بين ما هو نظري وما هو تطبيقي. فما يتعلق بالنظري يطلقون عليه اسم ميتا أخلاق، وما هو عملي فهو الأخلاق التطبيقية المتعلقة بالمهن والحرف. وللكشف عن المشكلات نظريًّا وعمليًّا في القضايا الحياتية لا بدّ من طرح سؤال: هل هذه القيم ثابتة أم متغيرة؟ وهذا يستدرجنا إلى عدد من الآراء. ومن المعروف أنّ الأخلاق كما الفلسفة تنقسم إلى تيار مثالي وآخر مادي ولكلّ منهما أراؤه المتشعبة، فمن المثالي يمكن التمييز بين اتجاه مثال عقلي؛ الأول يمثله سقراط وأفلاطون، والثاني يمثله أرسطو.

وتابع: إذا رجعنا إلى الأخلاق في الفكر اليوناني القديم، سنرى مواقف متعددة، حيث ربط بعض الفلاسفة الأخلاق بقوى النفس، بينما تحدث آخرون عن وسطية الفضائل أي أنّها وسط بين متطرفين، والقول بالحد الأوسط سيوصل إلى النسبية، لأنّ الحدّ الأوسط ليس رياضيًّا، وهكذا نستطيع القول: إنّ أرسطو تحدث عن النسبية الأخلاقية. ونلحظ عند هذا التيار أهمية مفهوم العدالة الذي يتقاطع مع البعد الفردي والاجتماعي.

وبعد أن أنهى الكلام عن التيار المثالي، انتقل الدكتور العريبي إلى الحديث عن التيار المادي الذي بنى رؤيته على مفهوم اللذة، وقام أبيقور بتقسيم اللذات إلى عقلية وجسدية.

أضاف: يُظهر العرض السابق أنّه لم يكن هناك رأي واحد في الأخلاق في الفكر اليوناني القديم، فالمذاهب كانت متعددة في بلد كانت المساحة الجغرافية فيه صغيرة نسبيًّا. وهذا الأمر سينعكس على كلّ مقاربة فلسفية متعلقة بهذا الموضوع، وهذا ما سنلحظه في الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط، حيث سنرى تأثرًا بهذا التوجه اليوناني، يُضاف إليه عملية جمع بين مدارس أخلاقية متعددة، وهذا ما ستظهر معالمه مع الفارابي وابن سينا والمتكلمين.

انتقل بعدها الدكتور العريبي إلى استعراض حركة الفلسفة الأخلاقية في العالم العربي الإسلامي الوسيط، فقال إنّ هناك كتابين أساسيين في هذا الموضوع تمّ تسميتهما بتهذيب الأخلاق، أحدهما لابن مسكويه، والثاني لأبي حيان التوحيدي، وهما عملا على القوى النفسية عند الإنسان. كما ظهرت نظريات كلامية حول الأخلاق أبرزها ما كتبه المعتزلة؛ وهم من أصحاب العقل في التنظير والعمل، وكان لهم رأيهم في ذلك، وقالوا بأن الخير والشر ينطلقان من الحسن والقبح الذاتيان؛ أي الحسن حسن لذاته، والقبيح قبيح لذاته، بالتالي الإنسان وحفظ العباد من الخير والشر يتمّ من خلال إدراكهم لهذا العالم، وهذا ما يجعلهم يقولون بالنسبية الأخلاقية، ومن أبرز الشخصيات لديهم والتي كان لها دور كبير في تفكيرهم، الجاحظ الذي يمتلك نظرية خاصة ومميزة في الأخلاق، تقوم بردها إلى الطبيعة البشرية، وهناك دراسة مهمة في هذا الموضوع للدكتور علي أبو ملحم ولكنّها لم تنشر، ومن خلالها أظهر ارتباط الأخلاق بالحواس، فالجاحظ بنى الأخلاق على الطبيعة واللذة والمنفعة، وليس فيه إشارات إلى دور التربية والتهذيب، وقد تحدّث الجاحظ أنّ الفضيلة هي الطبيعة الثانية، في حين أنّ الغرائز هي الطبيعة الأولى. ثم استعرض نظرية الفارابي في الأخلاق واعتبره متأثرًا بأرسطو من حيث تقسيم النفس الإنسانية.

ثم انتقل بعد عرضه السابق إلى الفلسفة الغربية، وبدأ بالحديث عن سبينوزا الذي ينتمي إلى العقليين، واعتبر أنّه لا ينفي النسبية في الأخلاق، ولكنّه يرى أنّ غاية الإنسان القصوى هي السعادة، وذهب إلى اعتبار أنّ العاطفة إذا كانت مبنية على العقل أنتجت الفضائل، فبالعقل يحرر الإنسان نفسه من القيود الناتجة عن العواطف الجامحة، فيبلغ الكمال والحكمة، وهذا الأمر ينطبق على الجماعة والأفراد، ووصل سبينوزا إلى القول: إنّ الأخلاق تضمحل عند غياب السلطة الشرعية. وإذا انتقلنا إلى الفلسفة التجريبية، سنرى توماس هوبز الذي يختلف مع سبينوزا في مقاربته للموضوع، فالدين والأخلاق عنده من صنع الدولة التي يصورها كتنّين جبار تبتلع كلّ أفرادها. وركّز هوبز على الأنانية كسمة أساسية في طبيعة الأفراد.

وواصل الدكتور العريبي عرضه، ووصل إلى كانط باعتباره الفيلسوف الأخلاقي الذي كان في موقع وسطي بين التجريبية والعقلانية، حيث عمل هذا الفيلسوف على اعتبار القوانين الأخلاقية راسخة فينا قبل التجربة؛ أي نظرية. لذلك يدعو لترك العقل، وتشييد الإيمان على ما هو فوق العقل، ومعرفة الإيمان عن طريق الأخلاق، وهذه النظرة تؤكد على البواعث الفطرية للأخلاق.

وختم عرضه باستعراض المذهب النفعي المرتبط بالليبرالية، وهذا الاتجاه يقول بالنسبية، حيث اعتبر بنتام الإنسان خاضعًا لسلطتي اللذة والألم، وتركّز نظريته على عواقب الأعمال، ومن بعده جاء ميل الذي طور النظرية في كتابه مذهب المنفعة، حيث ميّز بين الملذات العليا العقلية، والملذات الدنيا الحسية، ولكنه جعلهما متساويين. ومن بعده جاء هربرت سبنسر الذي أسس نظرته على الأسس التي تقوم عليها نظرية التطور، حيث إنّ الأخلاق في تطور مستمر ودائم، وينتقد بعض الفلاسفة بنتام وميل لأنهما يركزان على أن الألم أو اللذاة هو ما يحدد الأخلاق.

هذا، وبعد أن استكمل العرض، اعتبر العريبي أن مصطلح الأخلاق، يمر بمرحلة ضمور ليحل محله الرأي العام، والرأي العام صناعة، فخروج المصطلح عن التداول على رغم من رسوخه، يُفسح المجال أمام التفلت الأخلاقي والقيمي، وهذا ما نشاهده على وجود الغزاويين وأجسامهم المتفحمة، وكل ذلك ما كان لولا التحضيرات له في ما سمي بالربيع العربي.

في ختام هذا اللقاء، دار نقاش بين الأستاذ العريبي والحضور، اتسم بالعمق المعرفي والفلسفي لمصطلح الأخلاق.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.