علاقة الصائم بمواقع التواصل الاجتماعي

(مقاربة تحليلية)
عند الحديث عن الصيام، إن أول شيء يتبادر إلى ذهننا هو شهر رمضان الفضيل، نعم هناك صيام التطوع أو النافلة مثل صوم يومي الإثنين والخميس، وصيام يوم عرفة، وصيام يوم عاشوراء وغيرها، ولكن الصوم باعتباره مصطلحًا دالًّا على أحد أركان الإسلام الخمسة، فهو مرتبط أساسًا بشهر رمضان، لأنه فرض عين على كل مسلم، اللهمّ إلا الذي يملك رخصة إفطار لعارض دائم مثل المرض المزمن، أو عارض مؤقت مثل الحائض، يقول جل ثناؤه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1].
والصوم لغة هو الإمساك عن الشيء مثلًا الصوم عن الكلام، واصطلاحًا هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد والتقرب إلى الله تعالى.
وردت أحاديث كثيرة في السنة النبوية عن فضائل شهر رمضان، وكان الرسول (ص) أسوة حسنة لنا في كل حياتنا وفي الصوم تحديدًا، من هذه الأحاديث، الحديث القدسي الذي يرويه أبو هريرة (رض) إذ يقول: قال النبي (ص): “يقول الله عز وجل الصوم لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”[2].
إن عظمة الصيام تتجلّى بارزة في هذا الحديث فقد جعله الله عملًا ذا أجر سرّي بينه وبين عبده، لأن فيه خشية العبد لربه في الخلوات، فمن الذي يجعل المسلم وهو في بيته لوحده بعيدًا عن أعين الناس، الامتثال لأمر الله عز وجل والإمساك عن شهوتي البطن والفرج؟ إنها تقوى الله وخشيته، ولكن كيف يجب أن يكون هذا الصيام؟ هل يكفي الإمساك فقط عن الأكل والشرب والوطء، ونسيان الأمور الأخرى؟ يقول الرسول (ص): “من لم يدع قول الزور والكذب والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”[3]. وهنا مربط الفرس، يجب أن يكون صيامنا صيامًا نقيًّا من كل الشوائب، خالصًا من المعاصي والآثام، كبيرة وصغيرة، وهذا ما يجرنا إلى الحديث عن استعمال مواقع التواصل الاجتماعي في شهر رمضان الكريم.
لا يخفى علينا ما فعلته وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، فهي سلاح ذو حدين، نعم سهلت سبل التواصل وقربت المسافات، وجعلت الحصول على المعلومة والفائدة بسرعة البرق، ولكن في المقابل سرقت منا العديد من الأشياء التي كنا نستمتع بها، ونأنس بها منها الاجتماع مع أفراد الأسرة. فاليوم أصبح كل واحد يحمل هاتفه المحمول أو حاسوبه ومنغلق على نفسه ينتقل من مقطع إلى مقطع، وحتى عندما يكون الاجتماع الأسري غالبًا ما يكون باردًا خاليًا من التجاوب بين أفراد الأسرة، ولم يكن حضورًا قلبًا وقالبًا، وإنما الجسد في البيت والعقل هناك في مواقع التواصل الاجتماعي، فيمضي المتصفح بين مشاهدة هذا المقطع، والتعليق على ذاك، وضغط زر الإعجاب عن هذه الصورة، وتلك التدوينة، ومع الأسف الشديد هذا الأمر لم يسلم منه حتى الأطفال، رغم أن علماء التربية والنفس دقوا ناقوس الخطر في تعريض الأطفال للشاشات مدة طويلة وما ينعكس عليهم من ضرر جسدي ونفسي، إلا أن بعض الآباء لا يبالون بالأمر، ما دام أن هذا الطفل منشغل ولا يزعجهم في منطقة راحتهم، فهو أمر جيد بالنسبة إليهم.
تسرق منا هذه المواقع وقتنا دون أن نشعر، وكثيرًا ما نفتح تطبيقًا معينًا لنقل “الفيس بوك”، ونقول في قرارة أنفسنا، سنتصفح فيه مدة قليلة، لا تتجاوز خمس دقائق، ولكن ولحين غفلة منا نجد أنفسنا قد قضينا ساعة أو أكثر نتجول وننتقل من تطبيق لآخر، ومن مقطع لآخر، وقد قيل قديمًا: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”. يجب أن نضع هذه المقولة نصب أعيينا في حياتنا، ولا نجعل هذه المواقع تتحكم فينا وتسرق منا أوقاتنا، وتزداد الحاجة إلى تطبيق هذا الأمر واستغلال الوقت أحسن استغلال في شهر رمضان الفضيل، فالكيّس من اغتنم مدرسة الثلاثين يومًا، وتقرب إلى خالقه بأفضل الطاعات، وعاش رمضانه وكأنه آخر رمضان له في حياته، ففي هذا العام من منا لا يعرف شخصًا صام رمضان العام الماضي، ووافته المنية ولم يُكتب له الصيام في هذا العام، فلنتعظ قبل أن نغادر دنيانا ولا ينفعنا الندم، والفطن من أحسن الخيار واختار عن طواعية استغلال وقته في رمضان في تلاوة القرآن الكريم وذكر الله تعالى، وابتعد عن الملهيات وسُرّاق وقت رمضان الثمين ومواقع التواصل منها.
قد يقول قائل: إني أستفيد من هذه المواقع، لا ننكر أن هناك استفادة، ولكنها نسبية، من أراد الاستفادة من موضوع معين، فالأجدر أن ينتقي ما يستمع إليه بعناية فائقة، كأن نستمع لمحاضرة حول موضوع معين، وحبذا لو كان دينيًّا ننمي فيه معارفنا الدينية، مثل تفسير القرآن الكريم وتدبره، أو مدارسة أحاديث، مما يُنتفع به، دينًا ودنيا، وخاصة أن المقاطع لن تفيدنا، لأنها باقة متنوعة، تارة يكون مقطع تلاوة للقرآن الكريم، وتارة مقطعًا من مسلسل معين، وتارة أخرى إشهارًا لمنتوج محدد، وهكذا… فالأحسن أن نتجنب ما أمكن مشاهدة المقاطع في شهر رمضان الفضيل، لأن التفاهة تحيط بها من كل جانب، ولنحرص ألا نفسد صيامنا بشيء نراه ونسمعه، وقد لا نلق بالًا لهذا الأمر.
إن الأجواء الروحانية التي يمتاز بها الشهر الفضيل، تساعدنا على تنظيم أوقاتنا بما يعود علينا بالنفع، وتكون فرصة ثمينة لمن يدمن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي الإقلاع عن الإدمان عليها إن هو تفطن واستغلها، فمثلًا صلاة التراويح التي تكون طيلة الشهر بعد صلاة العشاء وقبيل صلاة الفجر، فمن كان حريصًا على أدائها جماعة في المساجد، فقد نال الأجر الكثير وابتعد عن تلك الملهيات، يقول النبي (ص): “من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه”[4].
يعزّز الصوم في أنفسنا الانضباط والتحكم في الرغبات، من يرى الأكل والشرب أمامه ولا يقربه امتثالًا لأوامر الخالق، قادر أن يربي نفسه ويتحكم في رغباته ولا يعكر نقاء صومه بمشاهدة التفاهة، فالأمر مشابه التحكم في الرغبات والشهوات يمكن تطبيقه عن هذا الأمر أيضًا.
إن الصائم طيلة شهر رمضان يحس بالفقير والمحتاج، فبعضهم قد تمر عليهم ساعات أو ربما أيام دون أن يجدوا شيئًا يسدوا به رمقهم، فكيف أتصور أني سأحس بذاك الفقير أو المسكين؟ وأنا أشاهد هذا المؤثر أو صانع المحتوى ـ مع أنني لا أتفق على هذا المصطلح ـ[5]، وهو يعرض علينا أفخر ما يملك، منزل فخم ذو أثاث راق، وسيارة فاخرة، ومائدة وضع عليها ما لذ وطاب من الأكل والشرب، وربما قد يقول البعض إنها حياة مثالية يتمناها كل إنسان، ولكن ما خفي كان أعظم معظم تلك المنتوجات إشهارية أخذوها مجانًّا لكي يسوقوها لمن يشاهدوهم، والكثير من الأشياء التي يسوقون لها هي وهم لم يبيعوه فحسب، بل آمنوا به وصدقوه… والمتابع لهم بدل من أن يحس بالفقير الذي هو أدنى منه، يسخط عن واقعه ووضعه الذي هو في حقيقة الأمر أحسن بكثير للعديد من الناس، يقول النبي (ص): “من أصبح منكم آمن في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه كأنما حيزت له الدنيا”[6]. ليس العيب أن يكون الإنسان طموحًا ويسعى إلى تحسين أوضاعه، ولكن ليست بتلك الطريقة التي أصبح يروج لها هؤلاء الطينة من البشر، وبعضهم مع الأسف يضع كرامته ونخوته وأخلاقه في الحضيض مقابل مشاهدات يجني من ورائها المال.
يعد شهر رمضان فرصة لنا لإعادة ترتيب الأولويات، وإعطاء كل شيء في حياتنا المكان الذي يستحقه، والوقت الذي يكفيه، فتكون الصلاة في وقتها أول شيء، وهذا الأمر يجب أن يكون في سائر الأيام، ثم تأتي تلاوة القرآن الكريم بالدرجة الثانية، فرمضان هو شهر القرآن وفيه نزل، إضافة إلى دوامنا من عمل ودراسة، ثم لا بدّ من قراءة شيء يوميًّا ولو نصف صفحة، لأن القراءة غذاء العقل، ولا بأس ببعض من الوقت نطلع فيه على الجديد في المواقع، نشاهد شيئًا مفيدًا، ونتواصل مع الأقارب والأصدقاء من باب صلة الرحم، ولكن أن نقضي نهارنا وليلنا في التجول في هذه المواقع، فهذا أمر سيء للغاية، وإن لم نتعلم الإقلاع عن هذه العادة السيئة في رمضان، فمتى سنتعلمها؟
وقد يقول قائل: إني أتواصل مع أصدقائي في المواقع لذلك أستعملها كثيرًا، فأقول لك إن رمضان فرصة لك للخروج من قوقعة العلاقات الافتراضية، والإحساس بالعلاقات الحقيقية، فالاجتماع الأسري على سفرة الإفطار شحن للطاقة إن هو وظف على أحسن وجه، اجتماعك مع المصلين في صلاة التراويح هو أيضًا نوع من العلاقات الواقعية، اجتماع الأصدقاء لمناقشة أمر ما ولو كان عاديًّا نوع آخر من العلاقات الواقعية التي يجب أن أعيشها بكل ما تحملها الكلمة من معنى، ولا أكون حاضرًا بالجسد وغائبًا عقلًا مستلبًا بجوالي وبما أشاهد.
ومن جملة الاقتراحات التي أقترح لكل من يدمن مواقع التواصل الاجتماعي أقول:
- الالتزام بالصلاة في وقتها، والحرص على أداء صلاة النوافل.
- تلاوة القرآن الكريم، ليس قراءة فقط، بل تدبرًا لكل آياته.
- الإكثار من الذكر والاستغفار والصلاة على النبي (ص).
- الالتزام بصلاة التراويح جماعة.
- وضع الهاتف بعيدًا عن سفرة اجتماع العائلة.
- وضع قانون داخلي أسري يفرضه الآباء على أبنائهم، شرط أن يلتزموا به هم أولًا، يقتضي منع استعمال الهاتف أثناء الاجتماع الأسري، ولا سيما أثناء وجبتي الإفطار والسحور.
- وضع خطط يومية في رمضان، منها قراءة كتاب معين، الاستماع لشيء معين، تعلم مهارة جديدة.
- صلة الرحم مع الأقارب.
- الانضمام إلى منظمات وجمعيات تنشط في رمضان كتلك التي تسهر على إعداد وجبات الإفطار للصائمين.
يعتبر شهر رمضان شهر البركة والخيرات، وشهر تكثر فيه القربات والطاعات، وهو فرصة ثمينة لمن سلبت مواقع التواصل الاجتماعي عقله، وسرقت منه وقته، أن يربي نفسه ويعوّد ذاته على تنظيم يومه بإعداد ترتيب الأولويات، واستغلال وقته بما يعود عليه بالنفع في الدين والدنيا، ويغتنم كل دقيقة في كسب الأجر والثواب من رب العباد.
المصادر:
- القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
- صحيح البخاري، الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، دمشق ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 1423هـ/2002م.
- جامع الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة الترمذي، اعتنى به فريق بيت الأفكار الدولية.
[1] سورة البقرة، الآية 183.
[2] صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾، رقم الحديث 7492.
[3] صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، رقم الحديث 1903.
[4] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، رقم الحديث: 37.
[5] أصبح هذا مصطلح مؤثر وصانع محتوى يطلق على كل من يتابعه عدد من الأشخاص ويتفاعلون معه في منشوراته، ولو كان المحتوى الذي يقدمه تافهًا، بالنسبة لي المؤثر أو صانع المحتوى إن لم يكن يقدم شيئًا مفيدًا لنا مثلًا تعليم مهارة، أو لغة، أو فائدة فلا يصح أن يكون مؤثرًا؛ لأنه لا يحدث أي تغيّر في نفسي باعتباري متلقيًّا لما يقدمه.
[6] سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب التوكل على الله، رقم الحديث 2346.
المقالات المرتبطة
مشاهد غربية بين العلم والدين
سعيًا منا لاستقراء التجربة البشرية في بحثها عن العلاقة الأمثل بين العلم والدين
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه
منذ قيام الدولة الوطنية الحديثة على أسس علمانية في أوروبا انتقلت أفكارها إلى العالم الإسلامي بما تحمله من مشكلات مع الدين (الكنيسة)
تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: الموت العبقريّ في رؤية الدين الجديد.
تجلّت فيها الشهادة التوّاقة للحب والرحمة الإلهية، فنادت لم نرَ من الله إلا جميلًا.. لتكون هي مورد الذوق العبقري لبيان الشهادة المتماهي مع مورد الذوق العبقري لفعل وإرادة الشهادة الطوَّافة عند الحسين..