الصوم وارتقاء الروح في مدارج القرب الصوفي

حكمة التشريع
لعلّ أحد أهمّ غايات وأهداف التشريعات في الإسلام هو الارتقاء بالروح وإعلاء متطلباتها على متطلبات البَدَن؛ فالصلاة معراج المؤمِن، والزكاة تطهير لِلنفوس وزكاة لِلأرواح، والصوم قَطع لِشهوات البَدَن لإعطاء الفرصة لِلروح بالانطلاق والارتقاء في معارج القرب.
حكمة الصوم في التصور الصوفي.
يعتبر فرض الصيام من الأحكام العظيمة التي شرعها الله تعالى، قصد تزكية الأنفس ورياضتها لما فيه صلاح الأفراد والجماعات، وذلك بقطع أسباب الشهوات التي هي محل تحريك الرغبة والدفع بها للانغماس في الملذات، فكان تشريع الصيام مسلكًا تربويًّا للانعتاق من جاذبية الحس، عن طريق فتح المجال للباطن نحو الاستشراف لمعاني الوصل والقرب من حضرة المولى عز وجل، فليس القصد من الصيام الجوع والعطش، وإنما مجانبة الآثام والكف عن الفحشاء والمنكرات، كما قال المصطفى الأمين علية أفضل الصلاة والتسليم: “من لم يترك قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يترك طعامه وشرابه” (صحيح البخاري – رقم الحديث 103).
وقد عمل الصوفية على الارتقاء بمفهوم الصيام في أبعاده الكمالية، بقصد الاستشراف إلى معانيه السامية، وذلك بصوم الجوارح عن المعاصي والزلات، والجوانح عن الأغيار والغفلات، حتى يصفو المحل لأن تشرق فيه أنوار اليقين، وبوارق التوحيد، قال ابن عطاء الله السكندري في كتابه (الحكم العطائية، نسخة قديمة، بولاق القاهرة، ص 356): “كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته”. فالقلب أدنى شيء يؤثر فيه، فلهذا ينبغي للمريد أن… يقف على باب قلبه، وليفعل كما قال بعضهم: وقفت على باب قلبي أربعين سنة، مهما خطر عليه ما سوى الله رددته. (الحكم العطائية، نسخة قديمة، بولاق القاهرة، ص 356).
يقول الشيخ إسماعيل حقي الخلوتي: والصوم سبب لِلولوج في ملكوت السماوات، وواسطة الخروج عن رحمِ مضايقِ الجسمانيات المعبَّر عنه بـ”النشأة الثانية”، كَمَا أُشِيرَ إليه بقول عيسى (ع): “لن يلج ملكوتَ السماوات مَن لم يولد مرتَيْن”.. بل مجاهدة الصوم رابطة مشاهدة اللقاء، وإليه يشير الحديث القدسي: (الصوم لي، وأَنَا أَجزِي به)؛ يعني أنا جزاؤه لا حوري ولا قصوري.. (تفسير روح البيان، 1/291).
ويقول الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني في ديوانه (شراب الوصل)، 196:
واللهُ قَدْ كَتَبَ الصيامَ بفضلِهِ * كيْ لاَ تَضِيقَ الرُّوحُ بالأبدانِ.
ففرض الصيام هو تفضل مِن الرَّبّ سبحانه وتعالى على عبادِه بهذه العبادة التي تمنحهم عطاءً ومواهبَ وقُرَبًا لا توجَد في غيرِه.
ولذا قال النبي (ص): “عليك بالصوم؛ فإنّه لا مِثْلَ له”. (رواه الإمام أحمد، 36/455، والنسائي 4/165 عن أبي أمامة (رض)).
وقال (ص): “لِكُلّ شيء زكاة، وزكاة الجسد الصوم”. (رواه ابن ماجه، 1/555 عن أبي هريرة (رض)).
ولذا فلا عَجَبَ أنْ يربط الله تعالى بين فرض الصيام والتقوى في قولِه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَات﴾. (سورة البقرة، الآيتان 183، 184).
قال ابن عجيبة في تفسير ذلك: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام﴾ عن الحظوظ والشهوات ﴿كَمَا كُتِب﴾ على مَنْ سلك الطريقَ قبلكم مِن العارفين الثقات في أيام المجاهَدة والرياضات حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات؛ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾؛ شهودَ الكائنات ويُكشَف لكم عن أسرار الذات. (تفسير البحر المديد، 1/213).
وقال نجم الدين كبرى في كتابه منازل السائرين نسخة قديمة من شبكة المعلومات، ص308: والإشارة فيها أنّ الصوم كَمَا يَكون لِلظاهر يَكون للباطن، وباطن الخِطاب يشير إلى صوم القلب والروح والسِّرّ: فصومُ القلب صومُه عن مشارب المعقولات، وصومُ الروح عن ملاحَظة الروحانية، وصومُ السِّرّ صومُه عن شهودِ غيرِ الله.
فمَن أَمسَكَ عن المفطرات فنهاية صومِه إذَا هجم الليل، ومَن أَمسَكَ عن الأغيار فنهاية صومِه أنْ يشهد الحقَّ.
وفي قوله (ص): “صُوُموا لِرؤيتِه، وأَفطِرُوا لِرؤيتِه” عند أهل التحقيق الهاءُ عائدة إلى الحقّ تعالى؛ فينبغي أنْ يَكون صومُ العبد ظاهرًا وباطنًا لِرؤية الحقّ، وإفطارُه بالرؤية كَمَا قال قائلُهم عن الشيخ محمد عثمان عبده البرهاني في ديوانه (شراب الوصل)، 196:
لقدْ صامَ طَرْفِي عَنْ شهودِ سِوَاكُمُ* وحَقَّ لَهُ لِمَا اعتَرَاهُ نَوَاكُمُ
يُعَيِّدُ قومٌ حِينَ يَبدُو هِلاَلُهُمْ* ويَبدُو هِلاَلُ الصَّبِّ حِينَ يَرَاكُمُ
قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾؛ أيْ على كُلِّ عضو في الظاهر وعلى كُلِّ صفة في الباطن: فصوم اللسان مِن الكذب والفحش والغِيبة، وصوم العين على النظر في الغفلة والريبة، وصوم السمع عن استماع المناهي والملاهي.
وعلى هذا فقس الباقي، وصوم النفس عن التمني والحرص والشهوات، وصوم القلب عن حُبِّ الدنيا وزخارفها، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذّاتها، وصوم السِّرّ عن رؤيةِ وجودِ غير الله تعالى وإثباتِه.
سر الصوم وإمداد الروح.
﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم﴾؛ هي إشارة إلى أنّ أجزاء وجودِ الإنسان مِن الجسمانية والروحانية قبل التركيب صارت صائمةً عن المشارب كُلِّهَا، فلَمَّا تَعَلَّقَ الروح بالقالب صارت أجزاء القالب مستدعيةً لِلحظوظ الحيوانية والروحانية بقوةِ إمدادِ الروح، وصار الروح بقوةِ حواسِّ القالب متمتِّعًا مِن المشارب الروحانية والحيوانية؛ فالآن ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام﴾، وهم مركَّبون ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ مِن المفرَدات ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ مِن مشارب المركَّبات، وتصومون فيها مع حصول استعداد الشرب لِتفطروا مِن مشارب يشرب بها عباد الله ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورا﴾. (سورة الإنسان، الآية 21). فيطهِّركم مِن طهورية هذا الشراب عن دنس استدعاء الحظوظ؛ طلعَت شمس استدعاء حقوق اللقاء مِن مَطلَع الالتقاء؛ فحينئذٍ يتحقق إنجازُ ما وعد سيدُ الأنبياء بقوله (ص): “لِلصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه”.
ثم أَخبَرَ عن كمال لطفِه مع العباد بتقليل الأعداد في قوله تعالى: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَات﴾، إلى قوله تعالى: ﴿وَالْفُرْقَان﴾؛ الإشارة فيها أنّ صومكم في أيام قلائل معدودة متناهية، وثمرات صومكم وفوائدها مِن أيام غير معدودة ولا متناهية. (تفسير التأويلات النجمية، للشيخ نجم الدين الكبرى، 1/142، 143).
وفي معنى الصيام وفوائده يقول عبد الكريم الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل)، 2/88: الصوم هو إشارة إلى الامتناع عن استعمال المقتضيات البشرية؛ ليتصف بصفات الصمدي.
ويقول عبد الوهاب الشعراني في (الأجوبة المرضية عن أئمة الفقهاء والصوفي )، 124: الصوم صفة صمدانية مطهِّرة من الشوائب النفسانية والشيطانية.
ويقول عبد الرزاق القاشاني في (لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام)، 362: صوم أهل الحقّ هو صون السر عَمَّا سِوَى الحقّ كائنًا ما كان.
وقال محمد بن عبد الباقي الزرقاني في شرحِه على الموطأ، 2/224: وشُرِع الصيام لِفوائد أعظمها كسر النفس وقهر الشيطان؛ فالشبع نهر في النفس يَرِدُه الشيطان، والجوع نهر في الروح تَرِدُه الملائكة.
مراتب الصوم
يروي أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني في (حلية الأولياء)، 6/32: أنّ الله تعالى قال لِسيدنا موسى (ع): يَا مُوسَى.. يَصُومُ مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فِي السَّنَةِ شَهْرًا – وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ – فَأُعْطِيهِمْ بِصِيَامِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهُ تَتَبَاعَدُ عَنْهُمْ جَهَنَّمُ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ، وَأُعْطِيهِمْ بِكُلِّ خَصْلَةٍ يَعْمَلُونَ بِهَا مِنَ التَّطَوُّعِ كَأَجْرِ مَنْ أَدَّى فَرِيضَةً، وَأَجْعَلُ لَهُمْ فِيهِ لَيْلَةً الْمُسْتَغْفِرُ فِيهَا مَرَّةً وَاحِدَةً نَادِمًا صَادِقًا إِنْ مَاتَ فِي لَيْلَتِهِ أَوْ شَهْرِهِ أُعْطِهِ أَجْرَ ثَلاَثِينَ شَهِيدًا.
وفي بيان مراتب الصيام ودرجاته يقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد، ص 85: اعلم أنّ الصوم ثلاثُ درجات: صومُ العموم، وصومُ الخصوص، وصومُ خصوص الخصوص.
أمَّا صومُ العموم: فهو كَفُّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وأمَّا صومُ الخصوص: فهو كَفُّ السمع والبصر واللسان واليد والرِّجْل وسائر الجوارح عن الآثام.
وأمَّا صومُ خصوص الخصوص: فصومُ القلب عن الهمم الدَّنِيَّة والأفكار الدُّنيَوِيَّةِ وكَفُّه عَمَّا سِوَى الله عَزّ وجَلّ بالْكُلِّيَّة، ويَحصُل الفِطر في هذا الصوم بالفكر فِيمَا سِوَى اللَّه عَزّ وجَلّ واليوم الآخِر، وبالفكر في الدنيا إلّا دنيا تراد لِلدِّين؛ فإنّ ذلك مِن زاد الآخرة وليس مِن الدنيا.
حتى قال أرباب القلوب، ص89: مَن تحركَت هِمَّتُه بالتصرف في نهارِه لِتدبيرِ ما يُفطِر عليه كُتِبَت عليه خطيئة؛ فإنّ ذلك مِن قلة الوثوق بفضل الله – عَزّ وجَلّ- وقلة اليقين برزقه الموعود.
وهذه رتبة الأنبياء والصِّدِّيقِين والمقرَّبين، ولا يطول النظر في تفصيلها قولًا؛ ولكن في تحقيقِهَا عملًا؛ فإنه إقبال بكُنْه الهمة على الله عَزّ وجَلّ، وانصراف عن غير الله سبحانه وتَلَبُّس بمعنى قولِه عَزّ وجَلّ: ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُون﴾. (سورة الأنعام، الآية 91). (إحياء علوم الدين للإمام أبو حامد الغزالي، 1/234).
ويقول القشيري: الصوم على ضربَيْن: صوم ظاهر؛ وهو الإمساك عن المفطِرات مصحوبًا بالنية، وصوم باطن؛ وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكَنات، ثم صون السِّرّ عن الملاحَظات. (تفسير لطائف الإشارات، 1/152).
اللهم أكرمنا بالصيام والقيام وتفضَّل علينا بالتقوى…
المقالات المرتبطة
المهدوية في التراث الديني للشعوب
إنّ تطلّع البشرية نحو المنقذ والمصلح العالمي الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد ما ملئت ظلمًا وجورًا، ظاهرة عامة عند جميع أو معظم الشعوب، وهي أطروحة آمن بها أهل الأديان، وآمن بها من لا يؤمن بالدين والغيب.
البراديغم السلفي- أزمة فهم النص القرآني
محاولة التعاطي مع موضوع الفكر السلفي وارتكازاته المعرفية هي محاولة صعبة إلى حد ما، لأنها تستلزم إجراء دراسة جردية لمجموع ما خطه أعلام هذا الفكر
معنى ودلالات الرحمة
البحث في معنى ودلالات الرحمة ينقسم في الأدبيّات والكتابات الإسلاميّة إلى قسمين: “الرحمة رقّة تقتضي الإحسان إلى المرحوم؛ وقد تستعمل تارة في الرقّة المجرَّدة…