القائمة الرئيسة

مسلم بن عقيل..حين انتحر الزيف أمام عظمة الحقيقة

مسلم بن عقيل..حين انتحر الزيف أمام عظمة الحقيقة

في ظلال الأزقة الحزينة لمدينة الكوفة، وبين جدران التاريخ المتصدعة، تبرز سيرة رجل لا تشبه غيرها من السير، وتغدو كلماته ودمه وموقفه أصدق من كل خطاب. إنه مسلم بن عقيل، سفير الحسين (ع) وثقته إلى أهل الكوفة الذي لم يكن مرسالًا عابرًا ولا ساعي بريد سياسي، بل كان الحقيقة تمشي على قدمين، تقف في وجه الزيف، وتُقتل وحدها دون أن تنحني.

كانوا يقولون إن مسلمًا رسول الحسين (ع)، لكن الحقيقة كانت أعمق من ذلك بكثير. لم يكن مرسالًا فقط، بل نائبًا يمثل جوهر نهضة الحسين (ع)، يحمل روحه في صدره، وينطق بلسانه. لم يكن صوتًا مؤقتًا، بل ظل الحسين في الغياب، وكان الرجل الذي يحمل راية الحق في وقتٍ اشتدت فيه رياح الخيانة.

وُلد في الكوفة وعاش فيها… والزيف تائه الطريق، يُقال إن مسلمًا جاء غريبًا، بينما الحقيقة أنه وُلد بين جدران هذه المدينة. تنفّس ترابها، وأكل من ثمارها، وعرف أزقتها جيدًا، لكنه حين عاد إليها رسولًا من الحسين، لم يجد المدينة نفسها، بل وجد قلوبًا تحجّرت، وسيوفًا مسمومة، ووجوهًا تبتسم له في النهار وتطعن في الليل. الكوفة التي حملته طفلًا خانته وهو رجل، أما الزيف فكان تائهًا لا يعرف من يمثل، ولا أين يقف، تتقاذفه ريح الطمع والخوف والعمالة.

تنظيمه تم اختراقه، لكنه بقي وحده شامخًا، من بين الأخاديد التي سكنت جسد النهضة، كانت خيانة الكوفة واحدة من أعنف الضربات. التنظيم الذي نظّمه مسلم بدقة، والذي كان يضم عشرات الآلاف من المبايعين، تخلخل بخيانة بعض الرؤوس المسمومة، وتسلل الخوف إلى النفوس، لكن مسلمًا لم يكن منهم، لم يتراجع، ولم يبحث عن مخرج، بل ظل واقفًا كأنّه جبل، يحرس العهد الذي قطعه، ويحفظ الوصية التي جاء بها.

وفيما تلاشى الجمع من حوله، وانهارت الصفوف أمام تهديدات عبيد الله بن زياد، بقي مسلم بن عقيل وحده، يمشي في أزقة الكوفة، لا يعرف له مأوى سوى دار امرأة مؤمنة اسمها “طوعة”. وحده كان يبيت على الألم، لكنه لم يتنازل عن الموقف. كان يدرك أن التنظيم قد تفكك، لكن روحه لم تتفكك، ومبادئه لم تتجزأ، وبيعته لم تهتز.

قائد لا تراجع في خطاه، ومصير يُحتَضن بشرف، لم يكن مسلم تابعًا يبحث عن النجاة، بل كان قائدًا حقيقيًّا. حين وقف على أسوار الموت، لم يطلب النجدة، بل قرر أن يواجهه بكرامة. لم تُذله قيود ابن زياد، ولم تُرعبه سيوف الجلادين، لأنه كان أكبر من الموت، وأعمق من الرعب. قالوا له: “سل الأمير العفو”، فقال: “ليس لي من الأمير إلا السيف”، فكان صمته أشجع من كل صراخ الجبناء، وكان رأسه المقطوع أنبل من كل رؤوس الراكعين لعرش الطغاة.

الزيف… عجز وقتل في الظلام، أما الزيف، فكانت نهايته مذلة. أولئك الذين تخلوا عن مسلم، لم يكونوا أحياء بعده، عاشوا أمواتًا، وعاش فيهم الذل، وتحولت الكوفة من حاضرة الرجال إلى مدينة الندم. الذين قتلوا مسلمًا، فعلوها خلسة، في الظلام، وكانوا بحاجة إلى جيوش لتقييد رجل واحد. لم يقاتلهم مسلم بسيفه فقط، بل بصموده، بصمته، بنظرته الأخيرة وهو يُقتاد إلى القتل دون أن يرف له جفن.

بين الزيف والحقيقة سقط القناع.

اليوم، ونحن نعيد قراءة الحكاية، لا نراها رواية ماضٍ، بل نراها مرآة حاضر. في كل زمان هناك مسلم، وهناك من يرسلونه بإيمان، ويتركوه في منتصف الطريق. في كل زمان، هناك حق يُخذل، وباطل ينتصر لحظة، لكنه يسقط دهرًا. والفرق بين الحقيقة والزيف، أن الحقيقة تموت واقفة، والزيف يعيش راكعًا حتى يموت على ركبتيه.

مسلم بن عقيل لم يكن مجرد فصل من فصول عاشوراء، بل كان تمهيدًا دامغًا بأن الحسين (ع) لا يُنصر بالكثرة، بل يُنصر بالفرد الصادق، الثابت، المخلص. بين الزيف الذي حاول أن يُجمل خيانة الكوفة، وبين الحقيقة التي نطقت بها دماء مسلم، نُدرك أن كل مرحلة فيها نائب للحسين، وأن معيار النصر ليس في النتيجة، بل في الشرف الذي يُكتب على الجبين.

لقد قتلوا مسلمًا، لكنهم لم يستطيعوا قتل الحقيقة التي كان يحملها، ولن يستطيعوا؛ لأن من يحمل راية الحسين، لا يموت أبدًا.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
الزيفرسول الحسينمسلم بن عقيلالحقيقةالكوفة

المقالات المرتبطة

في التطرف والإرهاب وأسبابهما

يقدّم الباحث اللبناني سعد الله مزرعاني في مقاله الذي اخترناه لكم من صحيفة الأخبار اللبنانية، مجموعة إشكاليات حول أسباب وعلل ظهور التطرف والإرهاب في بلادنا.

الصوم وارتقاء الروح في مدارج القرب الصوفي

لعلّ أحد أهمّ غايات وأهداف التشريعات في الإسلام هو الارتقاء بالروح وإعلاء متطلباتها على متطلبات البَدَن؛ فالصلاة معراج المؤمِن

ثورة الحسين عليه السلام صدى لصلح الحسن عليه السلام

جال في نفسي من قديم أن أعني ببحث هذه المسألة بحثًا يدفع هذه الشبهة عن أبي محمّد في نفوس غير المتمكّنين من فهم التأريخ فهمًا صحيحًا

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<