القائمة الرئيسة

فلسفة الرجاء

فلسفة الرجاء

جاء مفهوم الرجاء في معجم “لسان العرب لإبن منظور” الرَّجَاءُ من الأَمَلِ: نَقِيضُ اليَأْسِ، مَمْدودٌ. رَجاه يَرْجوه رَجْوًا ورَجاءً ورَجاوَةً ومَرْجاةً ورَجاةً، وهمزَتُه منقلبة عن واو بدليل ظُهورِها في رَجاوةٍ.

كما جاء في “معجم اللغة العربية المعاصر” مفهوم الرجاء بأنه: رجا يَرْجُو، ارْجُ، رَجاءً ورُجُوًّا، فهو راجٍ، والمفعول مَرجُوّ: رجا أَمرًا: أمَّله وأراده: أرجو من الله المغفرة: أسأله وأدعوه وأبتهل إليه، أتيتُه رجاء أن يحسن إليّ، رجاء العلم بكذا: في المراسلات، برجاء عمل كذا: في المراسلات، وأرجوك: عبارة تستخدم كطلب مهذَّب، رجا اللهَ أن يغفر له: طلب منه، ويُرجَى التفضل بالعلم: عبارة تبدأ بها الرسائل والمنشورات الرسميّة.

كما عرَّف الجرجاني الرجاء، فالرجاء في اللغة يعني الطمع فيما يمكن الحصول عليه، ويرادفه الأمل، ويستعمل في الإيجاب والسلب، والرجاء في الإصلاح تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل، وذهب أبا حامد الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين” إلى أن الرجاء هو أحد مقامات التصوف والتي تسمى “أحوالًا”.

وجاء مفهوم الرجاء في القرآن الكريم: في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ (سورة الإسراء: الآية 57)، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (سورة البقرة: الآية 218). وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ )سورة يونس: الآية 7)، وقال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (سورة الكهف: الآية 110)، وقال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ (سورة النبأ: الآية 27)، وقال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾  (سورة نوح: الآية 13).

وعند التأمّل في مفهوم الرجاء كما جاء في الآيات سالفة الذكر نلاحظ، أن الرجاء يتحقق إذا ما قام الإنسان بما عليه من عبادات ومعاملات، فسيتحقق ما يرجوه في الدنيا أو الآخرة، وجاءت كذلك مسبوقة بأداة النفي وتعني بأن من لا يرجو الله من نعمه ومغفرته فهو آثم.

وجاء مفهوم الرجاء في الحديث القدسي:يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتَني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتَني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرة”؛ (سنن الترميذي).

وذهب ابن القيم إلى أن القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطَّائر، فالمحبَّة رأسه، والخوف والرَّجاء جناحاه فمتى سلِم الرَّأس والجناحان فالطائر يجيدُ الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائدٍ وكاسر.

كما جاء مفهوم الرجاء في الكتاب المقدس،الَّذِي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هذَا، وَهُوَ يُنَجِّي. الَّذِي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّي أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ”. (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ الثَّانِيةُ إِلَى أَهْلِ كُورِنْثُوسَ، الأصحَاحُ الأَوَّلُ، 10)، وجاء كذلك: لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ”. (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ، الأصحَاحُ الْخَامِسُ عَشَرَ، 4)، وجاء أيضًا: لأَنَّنَا بِالرَّجَاءِ خَلَصْنَا. وَلكِنَّ الرَّجَاءَ الْمَنْظُورَ لَيْسَ رَجَاءً، لأَنَّ مَا يَنْظُرُهُ أَحَدٌ كَيْفَ يَرْجُوهُ أَيْضًا؟” (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ، الأصحَاحُ الثَّامِنُ، 24)، كما جاء أيضًا: “ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ”.  (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي، الأصحَاحُ الرَّابعُ، 13)، وجاء أيضًا: أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ”. (رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ، الأصحَاحُ الثَّانِي، 12).

وعند التأمّل فيما جاء في مفهوم الرجاء في الكتاب المقدس، يظهر بصورة جليَّة أن الرجاء يقتصر فحسب للمسيحيين الذين يؤمنون بالله، وبتجسد المسيح الذي فدى العالم من الخطيئة التي توارثتها البشرية من خطيئة آدم (ع)، وإنه لا رجاء للكفار أو الهراطقة، لأنهم لا يؤمنون بالله، أو يرفضون عقائد رئيسة.

كما أن مفهوم الرجاء مفهوم فلسفي في المقام الأول، ويقصد به ما نتمناه، ونتطلع إليه، ونرجوه في المستقبل القريب أو البعيد على حد سواء، والرجاء يرتبط بذات الإنسان الوجودية، ويصبو إليه إما لنفسه أو لآخر، وهو يرتبط بشكل وثيق بمفهوم التمني، وإن كان مفهوم الرجاء يعد أحد أشكال التمني، والذي فيه إلحاح وجودي داخلي من الإنسان؛ لتحقيق أمر ما، أي أن الرجاء يأتي تحقيقه من الخارج، وليس من الداخل، أي الرجاء من الله. كما يرتبط بهذا المفهوم بمفاهيم أخرى مثل الاشتياق، والتمني، والرغبة إيجابًا، ويرتبط باليأس والإحباط سلبًا.

كما أن هذا المفهوم هو مفهوم مستقبلي؛ أي إما أن يتحقق أو لا يتحقق، فالرجاء هو فعل متحقق بالقوة بلغة الفيلسوف اليوناني أرسطو، وإذا ما تحقق خرج من صورة القوة إلى صورة الفعل الواقعي المتحقق بالفعل، وما نرجوه هو بالنسبة لنا نعتقد إنه خير، لذا نرجوه ونتمناه، ونسعى له باستحضار كافة الإمكانيات التي تقرب تحقيقه لنا، لكي نستفيد منه فور تحققه.

ويتجلى في مفهوم الرجاء الكثير من الأبعاد الأخلاقية والدينية والاجتماعية… إلخ. فبالنسبة للبعد الأخلاقي فيتجلى في رجاء الإنسان أن يكون ذو أخلاق فاضلة، والبعد عن كل فعل شرير، وهو ما يرتبط كذلك بسعي الإنسان لتحقيق ذلك لكن دون استطاعة فيرجو أن يكون إنسان ذو قيم وفضائل أخلاقية يتمنى تحقيقها في المستقبل.

كذلك يرتبط مفهوم الرجاء بالدين، وخاصة عند المؤمنين والإيمانيين الذين يرجون من الله أن يدخلوا الجنة، وأن يبتعدوا عن النار والجحيم، ويتجلى هذا المفهوم بصورة واضحة في الصلوات والدعوات الخاشعة للمولى عز وجل، بل أن الإلحاح في الرجاء أثناء الدعاء من الأمور الواجبة والمحببة عند المؤمنين لاستجابة الله لما يرجون تحقيقه، وهو طلب العون بخشوع وتذلل للمولى عز وجل، وحسن الظن به في تحقيق ما يرجوه منه العلي القدير، وهنا تتجلى بوضوح العبودية، عبودية الإنسان لربه، الذي خلقه من عدم، وكرمه على كافة المخلوقات.

كما يندمج ويتداخل مفهوم الرجاء بصورة واضحة في التصوف بمختلف أشكاله وألوانه في الديانات السماوية الثلاثة: اليهودية، والمسيحية، والإسلام؛ إذ يرجو الصوفي في تجربته الصوفية ربه، لإحساسه بتجرده من كل الممكنات، لأن تلك الممكنات كامنة في الذات الإلهية، وهي التي تفيض بالنعم لجميع الموجودات في الوجود.

كما يرتبط مفهوم الرجاء في الحياة الاجتماعية، ويتجلى في صورة رجاء الأبناء من الآباء تحقيق بعض المتطلبات التي يرغب الأبناء في تحقيقها، فيرجون من آبائهم لتنفيذها، وهو ما يلقي في نفوس الآباء البهجة والسرور.

ويمثل الموت قلقًا وجوديًّا للرجاء، فيرجو الإنسان إلى تحقيق ما يتمنى أن يكون عليه قبل أن يموت، فالموت والذي غير المحدد سلفًا وفقًا للسنن الكونية والأوامر الدينية يمثل تحديًا للرجاء، فالإنسان يرجو شيئًا ما قبل أن يموت، وإذا تحقق ما أخذ أن يرجوه، فإنه يرجو شيىئًا ثان، وثالث، ورابع،… إلخ، ولا يتوقف لرغبة الإنسان في تحقيق السعادة، تلك السعادة المنشودة فيما يعتقد، وفيما يرجوه.

أما على صعيد النص الفكري بمختلف صوره وأشكاله الفلسفية، والأدبية، والدينية، والقانونية، والسياسية، والتاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية… إلخ. فيتحقق مفهوم الرجاء فيه بشكل عام، فما الهدف من كتابة النص؟ يكمن الهدف في المقام الأول في الرجاء لتحقيق ما يتضمنه النص من أفكار ومعاني ودلالات في سياقات وأزمنة وأمكنة مختلفة، وإن كان بشكل غير مباشر، حيث يهدف الكاتب إلى الرجاء في أن ترى أفكاره النور وتنفذ، ويؤخذ بها من أصحاب القرار، وأهل الحل والعقد، فإذا ما أُخذ بها تحقق الرجاء غير المباشر، وإذا لم تحقق ربما ترى النور في المستقبل، إذن، كل مؤلف في نصه المؤلف يرجو تحقيق أفكاره من تغيرات في مختلف السياقات.

فالرجاء هو في حقيقة الأمر مفهوم وجودي يرتبط بالذات الإنسانية إرتباطًا وثيقًا، ويضمن في داخله طلب العون اعترافًا من الإنسان بالقصور العقلي والإرادي والقيمي، ومحدودة القدرة، ودونية الإرادة، وعجز المعرفة، وهنا يظهر بوضوح القصور الإنساني.

الدكتور غلاب عليو حماده

الدكتور غلاب عليو حماده

كاتب وأكاديمي متخصص في اللاهوت وفلسفات العصور الوسطى



المقالات المرتبطة

ذكرى أبي الشهداء

الألم لذكرى تلك الدماء النقيّة الطاهرة ما ارتوت هذه الأرض بأطهر منها، والعزّة بذلك الشمم العالي، ما شهدت هذه الأرض مثله، وإنّهما لمزيج مقدّس

بحث حول الملائكة الكروبيين

عن البصائر عن عبد الله بن أبي عبد الله الفارسي وغيره رفعوه إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

مشاريع فكرية 17 | آية الله الشيخ غلام رضا فيّاضي

المواليد: 1949 م في مدينة قم الإيرانيّة. الدراسة: تعلّم القرآن على يد والدته ومكتب القرآن، ثم التحق بدرس المقدّمات الحوزوية

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<