احتفاءً باليوم العالمي للفلسفة أقام معهد المعارف الحكمية وضمن برنامجه المنتدى الفلسفي ندوة فلسفية موسعة بعنوان: “تعليم الفلسفة في لبنان” شارك فيها: الأستاذ الدكتور محمد شيا، الأستاذة الدكتورة وفاء شعبان، الدكتور جان أبو شعيا، الشيخ الدكتور فادي ناصر، والدكتورة ديانا حدارة، أدار الندوة الدكتور سمير خير الدين، وذلك نهار الخميس الواقع فيه: 20/11/2025، الساعة 3:00 ب. ظ. بتوقيت بيروت والقدس المحتلة في دار الندوة، الحمرا، لبنان. حضرها نخبة من الأساتذة الجامعيين والمهتمين بالفلسفة والشأن الثقافي.
استهل الدكتور سمير خير الدين مدير الندوة كلامه بالحديث عن المناسبة قائلًا: نجتمع اليوم في يوم الفلسفة العالمي، إيمانًا منا بأن رحلة السؤال الفلسفية هي أعمق ما يمكن أن يجمع البشر. نجتمع لأن الفلسفة تذكرنا بأن الإنسان قد يعيش ولكنه لا يحيا، وأن الحياة لا تكتفي بالحقيقة وحدها، بل تتطلب بحثًا عنها والتفكر في طرقها. لا يحيا الإنسان بالأفكار الجاهزة والمعلبة، بل بالشجاعة التي تدفعه إلى إعادة النظر والتأمل والتساؤل.
وفي معرض ترحيبه بالمشاركين والحضور، قال الدكتور خير الدين: يسعدني أن أرحب بكم في هذا الفضاء الذي نأمل أن يكون فسحة للتأمل والنظر. فضاء نلتقي فيه كباحثين عن الحقيقة لا كمالكين لها. نلتقي في فسحة لا تقاس بالوقت، بل بما يوقظه السؤال فينا.
وعن أهمية تعليم الفلسفة اعتبر الدكتور خير الدين أنه حين نتحدث عن ذلك، فإننا لا نستدعي درسًا نلقنه، بل نوقظ المعرفة فينا. إنها رحلة طويلة يعبر فيها الإنسان من العتمة إلى الوضوح والحكمة. والفلسفة ليست كلامًا في الكتب، بل هي تلك الشرارة التي تنقدح حين يشعر العقل بأن ما حوله لا يكفي، وبأن ما هو كامن فيه يمكن أن يفهم الواقع، بل يمكن أن يغير الواقع، بل يمكن أن ينشئ الواقع.
وتابع، نعلم جميعًا أننا نحيا في زمن يركض بلا توقف. زمن يريد الإجابة قبل السؤال، والخبر قبل التأمل، واليقين قبل القلق الخلّاق. في مثل هذا العالم، يحضر السؤال من جديد حول موقعية الفلسفة وتعليمها ودورها في زمن التسطيح والخبر العاجل والثقافة التافهة. نلتقي لنقول إن تعليم الفلسفة ليس درسًا، بل هو تذكير. تذكير بأن الدهشة هي أصول المعرفة، وأن السؤال هو شكل آخر من أشكال الشجاعة، وأن الشك المنهجي طريق إلى الحقيقة، وأن الشك المرضي مسكن موحش في الذات ولا يتجاوز الذات.
وتساءل الدكتور خير الدين: هل ينبغي أن نبطئ من إيقاع العصر لنعلم الفلسفة؟ أم ينبغي للفلسفة أن تخترع إيقاعها الخاص؟ كيف يمكن للفلسفة أن تعيد للإنسان صوته الداخلي التفكري وسط ضجيج العالم الخارجي؟ وكيف يمكن أن تلعب الفلسفة دورها في تعزيز المواطنة وتشكيل لغة عالمية قيمية مشتركة؟
وأكد الدكتور خير الدين على أن الفلسفة تعلمنا أن الاختلاف ليس شقاقًا. تعلمنا أن نستمع إلى من يختلف معنا وأن نرى وجه الآخر فرصة لنعرف أنفسنا أكثر.
ثم ختم تقديمه بالقول: إن الفلسفة تمنح المواطن شجاعة أن يشارك في كتابتها، أن يصحح، أن يقترح، أن يرفض، أن يحلم. فالمواطن الذي لا يفكر لا يشارك، والمواطن الذي لا يشك لا يغيّر، والمواطن الذي لا يتأمل لا يرى الطريق. مع ذلك، تبقى الفلسفة عرجاء إذا بقيت حبيسة الورق، معزولة في برجها العاجي، تخاطب الذهن ولا تلامس النبض. فالفلسفة التي لا تنزل إلى حياة الطلاب لا تغير شيئًا، تبقى معلّقة في هواء الصفوف، ولا تجد في أرواحهم أرضًا تنبت فيها. وحين تنزل الفلسفة من عليائها، لا تفقد مهابتها، بل تستعيد حقيقتها، فهي لم تولد لتعيش في الأبراج، بل لتضيء العتمات اليومية لتساعد الطالب على فهم خوفه لا على تعريفه، وعلى ممارسة حريته لا على ترديد معناها. عندها، لا تبقى مادة دراسية جامدة، بل تتحول إلى طريقة في الحياة بعد اكتشاف العالم، ثم يكمل الإنسان رحلة البحث عن الكمال وفق ذلك.
بعد ذلك، قام الدكتور سمير خير الدين بتقديم الأستاذ الدكتور محمد شيا الذي افتتح أعمال الندوة بمحاضرة تحت عنوان: “تعليم الفلسفة بين المحاكاة والإبداع”، فتطريق إلى الحديث عن أهمية الفلسفة بعامة، في كل ميدان، حتى في المنفعة العملية المتوخاة من الأخذ بمهاراتها، ليس موجّها لأساتذة الفلسفة وعشّاقها وممارسيها؛ وإنما تحديدًا لصانعي القرار التربوي في لبنان خصوصًا، وبلداننا العربية بعامة.
ولفت الدكتور شيا إلى أنه يجب التفكير في نوع الفلسفة التي تصلح أكثر من سواها مادة بين يدي المعنيين بتدريسها: صانعي القرار التربوي، المدرسين، وليس خطأ أيضًا التحقق تجريبيًّا من رأي الطلاب. إذ لم يعد كافياً القول: إن الفلسفة هي “محبة الحكمة”، أو أنها “معرفة المبادئ الأولى”.
ثم تساءل الدكتور شيا: هل يمكن تدريس الفلسفة؟ ليقول: في سياق الإجابة على السؤال هذا، يتوجب تسجيل موقفين متباينين؛ الأول: “سلبي” حيال أية صلة عتيدة أو يُسعى إليها بين الفلسفة والفيلسوف والعامة؛ والثاني هو على النقيض من ذلك.
وتابع، في الموقف السلبي، في وسعنا أن نضع معظم البدايات “السرية” للفلاسفة الإغريق الأوائل بدءًا فيثاغوراس (570-495 ق.م.). الفلسفة عنده، وربما سواه أيضًا، عقيدة تكاد تكون سرية، يتداولها الخاصة فقط، ووقف لها مدرسة لتدريسها. وقد تحدت بسلبية شديدة الأساطير الدينية المهيمنة، والسلطة السياسية، معًا.
وعن كيفية مقاربة الفلسفة في “هذا الزمن” تربويًّا وديداكتيكيًّا، فيقول الدكتور شيا: هي مشكلة فعلية وحقيقية، ولكن يجب إيضاح ملابساتها وإظهار جذورها، كيما تصبح المعالجة ممكنة وواقعية، في آن معًا.
تابع: إنه يمكن لمتفائلٍ مثلي أن يقارب العينة السلبية أعلاه من زاوية مختلفة؛ وتحديدًا من زاوية فقدان، أو على الأقل صعوبة، التواصل الصحيح بين الفلسفة ومعظم الشباب اليوم؛ مسؤولية يتحملها الطرفان معًا.
وصرّح أنه في حرفة الفلسفة، كما جرت ممارستها، ما يبرر إلى حد ما الصعوبة تلك؛ وفي طليعتها الممارسات الفلسفية ذات الطموحات النظرية الكبرى، وقد كانت من “السلطوية” المتعالية بحيث أعاقت من انتشار الفلسفة، وأعاقت حصرًا تحولها إلى إداة طيّعة للتفكّر والتفكير في وسعها أن تستجيب لمطالب الفئات المتنورة أو الشبابية المتمردة على أوضاع اجتماعية معينة، أكان على مستوى العصر، أو المجتمعات السياسية والاقتصادية.
وأشار إلى أنه لم تتوقف بعد ذلك محاولات التمرد والتفكير خارج الصندوق في كثير من مراكز التنوير في القارة الأوروبية. لكن التيّار التجديدي الذي تبنى بعث العصر الذهبي لفلسفات الإغريق؛ ظل أسير الحلقات الفلسفية الضيّقة، ولم تنتج جهدًا تربويًّا موازيًا حتى القرن التاسع عشر، حين أصبح الطلب على الفلسفة متزايدًا وأخذ طريقه إلى معظم مراكز التعليم الأكاديمي في غرب القارة ووسطها.
وأوضح، لم تكن الساحة الأوروبية الثقافية وقفًا على الاتجاهات التجريدية هذه، بل شهدت نشأة حركات واتجاهات فكرية وفلسفية ملتصقة أكثر بمطالب الناس في أوروبا الذين ضاقوا ذرعًا بالنظريات الكبرى والأنظمة القومية والشمولية التي صادرت فردية الأفراد وحرياتها.
واعتبر الدكتور شيا أن مآسي الحروب الأوروبية الإمبراطورية والقومية والأيديولوجية المتلاحقة أنزلت “النظريات الكبرى” مرة جديدة عن عرشها، بل قيل: إنها التي سوّغت فغدت، مع نوع العقل الشمولي الذي روّجت له، من أسباب الطموحات القومية والإمبراطورية والأيديولوجية الكبرى، والحروب الأوروبية الكبرى الناتجة عنها. فانتعشت بالتالي فلسفات مختلفة أكثر نقدًا لأفكار القرن التاسع عشر، ونجحت بالتالي وإلى حد كبير بالتعبير عن مطالب الناس عصرها؛ فظهرت بقوة اتجاهات فلسفية فردية أو مدرسية من عناوينها النقد، والفردية، واللانتماء القومي والإثني والسياسي، بل العدمية والفوضوية، وغدت صاحبة نفوذ في فنون عصرها وآدابه واجتماعه وهندساته وسياساته.
وتابع، تحقق أخيرًا خرق رئيسي ناجح للفلسفة في القارة الجديدة. ففي الولايات المتحدة، وتحت تأثير ظروف جديدة مؤاتية ومتمردة تمامًا على التقليد الديني والفكري القاري أي الأوروبي، نشأت حياة عامة، ومدعمة بالدستور والقانون، قائمة على أساس فلسفي محدد بالتمام والكمال على قاعدتين رئيسيتين: الأولى هي البراجماتية أو الذرائعية Pragmatism التي أرست في الجامعات وفي المجتمع قيمتي العمل والحكم على كل سلوك صح أو خطأ. والثانية دعم التوجه أعلاه بدستور ثم قوانين تتبنى آخر ما بلغه عصر الأنوار الأوروبي لجهة العقل وحقوق الإنسان والمساواة.
وأكّد الدكتور شيا، أن الفلسفة ليست مسؤولة – وحدها -عن تراجع الاهتمام بالمسائل الفكرية، والجدية عمومًا، في أوساط الشباب اليوم. بل هي تحديدًا بعض تداعيات العولمة السطحية التجارية التي هيمنت على المشهد العالمي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي. .. فقد أقفلت أو قلّصت جامعات عدة في أمريكا وأوروبا أقسام الفلسفة فيها؛ وأصبح نادرًا تمويل الأبحاث كما كان يجري سابقًا؛ وجرى بالمقابل توسعة الإنفاق السخي على أقسام الأعمال والمال والتكنولوجيا.
وأشار الدكتور شيا، أنه رغم القول إن الفلاسفة ليسوا مسؤولين عن الانحراف الحاد الذي حدث في ثقافة المجتمعات في العالم كافة عن الفلسفة وانحسار الاهتمام بالقضايا الجادة الأخرى لحساب حقول المال والأعمال والتكنولوجيا والتحقيق السريع للثروات والاستمتاع بها؛ يبقى صحيحًا أيضًا الاعتراف أن الفلسفة، أي المنتجين لها، يتحملون كما يُظن قدرًا من المسؤولية. فلم يبذل الفلاسفة والمعنيون بالشأن الفلسفي على الأرجح الجهد الكافي في مجالين:
أولًا، في إنزال الفلسفة من برجها العالي العاجي (المزعوم) نحو العامة.
والثاني، غياب المعالجة الحقيقة لضعف اتصالها بالشباب، ثقافيًّا واجتماعيًّا؛ وتربويًّا.
ورأى الدكتور شيا، أنه بخلاف الموقف السلبي السابق، كان هناك على الدوام، ومنذ بدء تاريخ الفلسفة، موقف إيجابي يرى إمكانية، بل ضرورة نقل التجربة الفلسفية إلى الآخرين، أي تدريسها، لأغراض مختلفة.
ثم عرج الدكتور شيا إلى ذكر ثلاثة تجارب في تدريس الفلسفة أو نقلها لمريدين:
أولًا: في القرون الثلاثة الإغريقية (السادس والخامس والرابع قبل الميلاد).
ثانيًا: في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية.
ثالثًا: وأخيرًا، في عصر أو عصور النهوض الأوروبي والغربي وصولًا إلى أيامنا هذه.
وتابع، في الحالة الإغريقية، يمكن الحديث على ثلاث تجارب متباينة في تدريس الفلسفة أو نقلها ديداكتيكيًّا: السفسطائيون، أكاديمية أفلاطون، وليسيوم أرسطو.
وفي شرحه لهذه التجارب تحدث الدكتور شيا عن الشكل الأول من تدريس الفلسفة، وهي الطريقة السفسطائية، فلا بد من الاعتراف أن المفكرين أو “المعلّمين” السفسطائيين كانوا أوائل أساتذة الفلسفة عند الإغريق، وكانوا نشطين جدًّا في القرن الخامس قبل الميلاد. حتى أنهم كانوا أساتذة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي يدرسون التفلسف من خلال التعليم والتدريب، ويتلقون أجرًا بدل ذلك، بخلاف ما سيصير عليه الحال في القرن الرابع ق.م. مع سقراط وأفلاطون وأرسطو على وجه الخصوص.
وأشار، إلى أن الغاية المرتجاة من تعليمهم كانت تكوين تلامذة ومواطنين متفوقين في استجابتهم لمتطلبات الحياة العامة، في السياسة والأخلاق، والتواصل، حيث للخطابة ولإبراز الحجج والأدلة وسُبُل الإقناع قصب السبق في الحياة العامة.
ورأى أن دور هؤلاء صحيح لم يتجاوز الطابع النفعي المباشر، وهو ما عابه عليهم الفلاسفة المتأخرون، لكن ذلك لا ينال من ريادتهم الديداكتيكية، ومن مفهومهم “الديمقراطي” للفلسفة على وجه الخصوص.
واعتبر أنه في حالتي أفلاطون وأرسطو أخذ تعليم الفلسفة مضمونًا مختلفًا، أغنى مضمونًا وأكثر منهجية من جهة، ولكن أقل “شعبية” ورواجًا خارج دائرة الاختصاص من جهة ثانية.
ولفت إلى أن أكاديمية أفلاطون وليسيوم أرسطو، على اختلاف مضمونهما، تمثّل أول شكل تربوي منهجي في تدريس الفلسفة. جمعت تجربة التدريس المنهجي للفلسفة الرجلين، ولكن بمنهجين مختلفين، فأسسا لتيارين كبيرين متباينين في الفلسفة الغربية لعشرين قرنًا أو أكثر: المثالية الأفلاطونية، والواقعية التجريبية (إلى حد كبير) الأرسطية.
وتابع، فقد حرصت أكاديمية أفلاطون، أي مدرسته في الفلسفة، لجهة المنهج، على التطوير الديالكتيكي للأفكار؛… أما أرسطو، وبخلاف أفكار أكاديمية معلّمه، وصديقه أفلاطون، فقد طوّر في مدرسته، “الليسيوم”، نهجًا في الفلسفة مغايرًا تمامًا، يقوم بمقاربة تجريبية منهجية متماسكة تجمع بين الملاحظة والتطبيق والتحليل المنطقي في دراسة الطبيعة والمجتمع والأخلاق وبعضها السياسة؛ كانت واقعية عقلانية في مقابل مثالية أفلاطون.
وأضاف، أنه وفيما بحث أفلاطون عن الحكمة في تأمل المثل الكلية واستنباط الحقائق المطلقة منها، طلب أرسطو المعرفة من خلال تقصّي المعطيات التي يقدّمها العالم المحسوس.
أما في ما يتعلق بنقل الفلسفة وتدريسها، من حضارتنا العربية الإسلامية في لحظات ازدهارها (القليلة). فرأى الدكتور شيا أنه وبسبب مباشر من مناخ الصراع الديني الفقهي، والفكري، ازدهر التدريس، وبخاصة في حلقات أهل الكلام والفقه والتصوف؛ وقبل ذلك في أديرة ومراكز التبشير لدى الطوائف المسيحية الشرقية؛ والتي لعبت دورًا حاسمًا في نقل علوم الإغريق والاسكندرية إلى متن الحضارة العربية الإسلامية الناشئة، من خلال السريانية أولًا ثم إلى العربية مباشرة؛ من دون أي تراث فلسفي سابق تغرف منه أو تستند إليه.
واعتبر الدكتور شيا، أنه حديثًا، في ثقافتنا العربية والإسلامية أيضًا، وتحت وقع التأثير الأوروبي في حركات النهوض الشرقي بدءًا من حملة نابليون الثاني سنة 1798، بدأت ملامح الحضور المتزايد للأفكار ومنها الأفكار الفلسفية.
ورأى أنه قد أعيد الاعتبار للفلسفة جزئيًّا مع تأسيس الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1869، ثم جامعة القديس يوسف في بيروت سنة 1875. ثم على نحو منهجي أكثر انتظامًا مع تأسيس قسم الفلسفة في جامعة القاهرة سنة 1908…
وصرّح بأنه لم يكن تدريس الفلسفة أولوية كما نعرف لدى أهم فلاسفة عصر التنوير في أوروبا الغربية، منذ جون لوك ورينيه ديكارت، حتى نهاية القرن الثامن عشر. فقد حملت الحقبة تثويرًا في كل شيء، ومنها جانب الفكر والأفكار، لدى الموسوعيين الفرنسيين عشية الثورة الفرنسية، وبخاصة مع روسو في “إيميل”. ثم اتضح أكثر مطلب تحول الفلسفة إلى شأن عام، بحدود معينة، مع كانط نفسه. ومع أن كانط لم يمارس التدريس الفلسفي إلا أن أفكاره حول التنوير واعتماد العقل المستقل، والنقد، غدت منهاجًا أكاديميًّا في تدريس الفلسفة.
وذكر الدكتور شيا، أن تدريس الفلسفة غدا تقليدًا مرموقًا في الجامعات الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر؛ ثم اخترقت تدريجًا مراحل التدريس في المرجلة الثانوية في كل بلدان القارة، على نحو إلزامي أو مع بعض الاختيار.
ولفت الدكتور شيا، بأن الطلب على الفلسفة قد تلقى دفعة كبرى إلى الأمام بنتيجة الحرب الكونية الأولى. فبفعل الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي خلفتها الحرب تلك نشأت مدارس وتيارات فلسفية تعارض في أغلبيتها الساحقة الأنظمة الفلسفية الكبرى للقرن التاسع عشر؛ وجرى دفع فكرة الفرد إلى الواجهة، وأولوية النقد والمراجعة والتمرّد على السرديات الكلاسيكية، في كل باب؛ وهذه جميعًا مطالب فلسفية.
وأوضح الدكتور شيا، بأننا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن الفلسفة منذ مطلع القرن العشرين دخلت بقوة في الثقافة الغربية، في ثقافة القارة العجوز أولًا، ثم في ثقافة الأرض الجديدة، أمريكا، على وجه الخصوص، التي اشتقت لنفسها نهجًا في الحياة ذا أساس فلسفي تحديدًا وهو البراجماتية، Pragmatism أو الذرائعية، التي غدت فلسفة أمريكا في كل شأن، اجتماعي واقتصادي وسياسي وفكري. ومن المنطقي توقع أن تحتل الفلسفة الجديدة الصدارة في مناهج التعليم، كما في الإعلام والفنون وحتى بين العامة.
أما في ما يتعلق بتجربة تدريس الفلسفة في لبنان، فيعتبر لبنان بين أوائل البلدان العربية التي أعطت مادة الفلسفة مكانًا لائقًا في مناهج التعليم. فعدا مكان الفلسفة المرموق في أقسام الفلسفة في الجامعات، وبدأ تدريس الفلسفة في لبنان في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، وبتأثير مباشر من تجارب تدريس الفلسفة على نحو واسع في فرنسا.
وتابع، جرى تعديل المنهاج الأولي ذاك لاحقًا، ثلاث مرّات، وعلى نحو صريح: 1946، 1968، و1997؛ وتجري الآن تجربة تعديل رابعة. وقاد المركز التربوي للبحوث والإنماء تجربة سنة 1997، كما يحتضن منذ بضعة أشهر تجربة التعديل الرابعة.
وأضاف، لكن التحول الأكثر أهمية في تعديلات 1997 (والتي بوشر بتطبيقها في العام الدراسي 1999-2000)، هي جمع الفلسفة العامة إلى الفلسفة العربية؛ والانتقال في الفلسفة العربية من منهاج يقوم على استعراض تفصيلي لأنظمة ستة فلاسفة مع التصوف، إلى منهاج مختلف يقوم على القضايا الفلسفية لا الشخصيات أو الأسماء الفلسفية العربية الأكثر شهرة (الكندي، الفارابي، إبن سينا، المعري، الغزالي، إبن رشد، والتصوّف). كما جرى تدريس المادة بأكملها باللغة العربية، بخلاف ما كان معمولًا به سابقًا وهو تدريس “الفلسفة العامة” بإحدى اللغتين الأجنبيتين، الفرنسية أو الإنجليزية.
ولمساعدة الطلاب على الإقبال على مادة الفلسفة إراديّا، باهتمام، وربما ببعض السعادة اقترح الدكتور شيا بعض الأمور العملية، من خلال العناية الوثيقة بثلاثة مستويات متدرجة مترابطة في تدريس المدرّس لمادة الفلسفة: (1)، نقطة البدء، (2) مضمون المادة، و(3) الطرائق وأساليب المقاربة العملية.
وأوضح الدكتور شيا بأن نقطة البدء تكون من خلال الدهشة حيال أشياء كثيرة، وربما حيال كل شيء، بدءًا بالمباشر والقريب، داخلنا وحولنا… ففي وسع شعور الطالب بالدهشة ثم التعجّب أن يتحولا بين يدي المدرّس الناجح إلى أداة فعّالة لجذبه إلى حقل الاهتمام الذاتي الإرادي بالأجوبة المتاحة ومن ثمة بالفلسفة.
تابع، أما النقطة الثانية تكون في مضمون المادة والعناوين، فلائحة العناوين أو التحديات والقضايا أو الإشكاليات التي تقلق الشباب المعاصر طويلة، وتمتد مما هو شخصي، وعناوينه كثيرة ولا حاجة لجدولتها فهي معروفة وتتمظهر في سلوك الناشئة والشباب على ما نشهده في كل آن، وفي ما يلحظه المدرسون قبل سواهم.
أما في يتعلق بالنقطة الثالثة الطرائق وأساليب المقاربة العملية فيعتبر الدكتور شيا أن الشرط الثالث الواجب الوجود في جسر الفجوة بين التلامذة والفلسفة هي أسلوب المدرّس في تقديم المادة، أو ما نسميه طرائق تدريس مادة الفلسفة لطلاب ما قبل التعليم الجامعي.
وختم الدكتور شيا محاضرته بالقول: رغم القناعة الراسخة لدى جماعة الفلسفة بأهمية إدخال الفلسفة في مناهج تعليم ما قبل الجامعة (وهو اتجاه عالمي) وفي كل باب شخصي، واجتماعي، وعولمي، ووجودي اليوم، والثقة في نجاح التواصل بين النشأ الطالع والفلسفة؛ فإن التفاؤل ذاك يبقى بالإجمال تفاؤلًا نظريًّا حتى إشعار آخر. والنتاجات التي انتهت إليها تجارب التجديد السابقة في لبنان، رغم ريادتها، لم تكن ناجحة تمامًا… فاستدراك الثغرات السابقة ضروري بل شرط واجب الوجود لنجاح المحاولة الأخيرة الجارية منذ بعض الوقت لتجديد الدرس الفلسفي في لبنان.
بعد ذلك قدم الدكتور سمير خير الدين الأستاذة الدكتورة وفاء شعبان، التي قدّمت ورقة عمل تحت عنوان: “تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية أهميته والمأمول منه”، فتحدثت الدكتورة شعبان عن أن في المدرسة تنقل المعارف من باب الحاجة إليها وهي معارف تتناول الشخص وتتوجه نحو الحياة، وأعني حياة الإنسان الفردية كما الاجتماعية، والذي عليه أن يواجه ظروفه، وعليه أن يتخذ المواقف المناسبة في كل منها.
وأوضحت الدكتورة شعبان، أن الفلسفة المعلَّمة تدخل في المدرسة في هذا الإطار، ولكن خلافًا للمعارف الأخرى، ليس تعليمها معمَّمًا، وحيث تُعلَّم تلاقي الصعوبات وتواجه الاعتراضات التي تتنوّع وتتعلق بجدوى تعليمها من ناحية أهدافها ونتائجها وقدرتها على تقديم الحلول للمشكلات، وفضلًا عن الطبيعة النظرية التي تتسم بها. وهذا خلافًا للعلم الذي يجد الحلول ويحسّن باستمرار حياة البشر.
واعتبرت أن هذه الاعتراضات تأتي من خصومها، لكن هناك اعتراضات أخرى على تعليمها تأتي من أهلها، أعني الفلاسفة أنفسهم، باعتبار أن الفلسفة نخبوية، ولا يمكن أن تبلغ عموم الناس، نظرًا لعدم قدرتهم على فهمها، وأحيانًا يأخذهم عدم الفهم هذا إلى سوء استخدام ما تعلموه منها.
ولفتت الدكتورة شعبان، أن الفلسفة تتهم بأنها صعبة ومعقدة وتنطوي على تعابير غير واضحة بشكل خاص في زمن العولمة الراهن، حيث السرعة وفتح الحدود وسهولة الحصول على الأشياء دون عناء، بل حتى دون الحاجة إلى جهد التفكير.
أضافت، هناك مسألة النقد الذي تتسم به الفلسفة، والذي يثير المواقف رافضة له، خشية من أن يؤدّي هذا النقد إلى هدم كل نظام وقاعدة وإلى سقوط القيم ودخول المجتمع في الفوضى.
تابعت، أما النقد في الفلسفة فهو ليس رفضًا ولا هو تمرد أو عصيان إنما هو سمة للعقل الذي بطبيعته لا يقبل ما يعطى له إلا بعد التحقق منه. فهو مجموعة قدرات تمكّنه من تلَقّي المعطيات وتنظيمها، وفق مبادئه. ولا يتوقف عند مجرد تنظيمها، إنما يعمل بنشاط على التحقق منها، ليحصل على اليقين من صدقها وليحاول من ثَمّ أن يصوّبها.
ورأت أن مسألة معاداة الفلسفة للسلطة فهذا اتّهام باطل لأن عملَ الفلسفة هو قبل كل شيء عملٌ إيجابي، يهدف إلى التحقق من أجل التصويب وليس للتقويض، فتتفكر الفلسفة في كل شيء في السياسة والأخلاق والدين والاجتماع والقيم، بغاية التوضيح وليس التخريب.
أما في ما يتعلق باتهام الفلسفة بالصعوبة أوضحت الدكتورة شعبان الأسباب، وأهمها الخلط بين الفلسفة كمعرفة والفلسفة كمعرفة مدرسية. فالمعرفة هي ما يدرَّس في الجامعات ويكون موضوع بحث في مراكز الأبحاث. وهناك المعرفة المدرسية التي تدرَّس في المدرسة، والتي عليها أن تشكّل جزءًا من المعارف المدرسية الأخرى، وتخضع لنظام التعليم المدرسي، وتنتظم في إطار الأهداف المقرَّرة، والتي تتوافق مع سياسات الدولة حيث تعلَّم وتحقِّق أهداف المجتمع والدولة.
وصرّحت أنه بهذا المعنى لا يمكن تدريس المعرفة كما هي. ومهمّة المدرسة إعداد الفرد من أجل الحياة بواسطة مختلف المعارف التي تتضمّن الفلسفة إلى جانب غيرها من المعارف. لهذا نختار ما يحتاج إليه المتعلم. وليست المعرفة المدرسية تبسيطًا أو اختزالًا للمعارف، إنما هي معارف تهدف إلى تماسك التفكير وتشدد على الطرائق التي تجعله قادرًا على إنشاء بعض المفاهيم الضرورية له، بصفتها أفعال تفكير أو في المعنى ذاته قواعد تفكير. .. مع العلم أننا في المدرسة لا نصنع فيلسوفًا، إنما نعدّ رأسًا بواسطة الفلسفة. ونسعى إلى تزويده بما يحتاجه في حياته.
ولفتت أن هناك مسألة تؤكّد أهمية تعليم الفلسفة في المدرسة وتتعلق بعلاقة الفلسفة بالمعارف المدرسية الأخرى وهي الطبيعة التوليفية للعقل والتي لا يستجيب لها إلا الفلسفة.
واعتبرت أن الهدف من التعليم الفلسفي هو تعليم التفكير. بالرغم من أن مختلف القدرات العقلية هي طبيعية لدى الإنسان. غير أنها تحتاج إلى التعلّم ليتمكن الفرد من استخدامها الصحيح.
ورأت أن في التعليم الفلسفي أهمية باعتبار أنها تجعل الفرد قادرًا على الاعتماد على نفسه في كل مواقفه. فيعمل على بناء معارفه بنفسه بعد المراجعة والتحقق، ثم يتخذ المواقف والقرارات ويتحمل من ثم نتائج قراراته هذه.
وأكّدت، أنه بفضل تعلّم الفلسفة فإن ثقة الذات بذاتها تثبتت، فتقدّر إمكانياتها، كما أنها ستتخلى عن الخوف من الآخر، وتقبل من ثمّ على التعرف إليه والتفاهم معه، وهذا يوطد مفهوم الاختلاف والآخر. فيقرّب بين الأفراد، كما بين المجموعات، بل بين الشعوب والثقافات.
وختمت الدكتورة وفاء شعبان محاضرتها بالقول: نحتاج اليوم بشدة للتفكير لنتمكن من مواجهة التحولات الحاصلة على المستوى الإنساني: من جهة، هذا التقدم المتسارع للمعارف ألقى بثقله على الظروف المحيطة بالإنسان والتي تتبدل ومعها تزداد المشكلات وتحتاج إلى حلول، ليست جاهزة، ولا يمكن استنباطها أو اجترارها من المعلومات التي نتلقاها بسهولة. إنما تتطلب الابتكار الدائم. وهذا يفترض التفكير الذي توفّره الفلسفة لتصبح جزءًا من حياة الإنسان. ومن جهة أخرى، نجد على مستوى الكوكب ليس التباعد فحسب، ولكن عدم معرفة الآخر وعدم فهمه. ما أدى إلى التنابذ والتعادي بين البشر… ولا مجال لتجنيب الإنسان هذه النهاية إلا بالتربية، ولتحقق التربية أهدافها فهي تحتاج إلى التعليم الفلسفي.
بعد ذلك نقل الدكتور سمير خير الدين الكلام إلى الدكتور جان أبو شعيا الذي ألقى محاضرة بعنوان: “مناهج تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية- قراءة في التجربة اللبنانية وآفاق التطور”، فتطرق إلى الحديث عن أهمية الوقوف على موضوع مناهج تعليم الفلسفة في المرحلة الثانوية، تلك المرحلة التي يتشكل فيها وعي الشباب، وتنمو فيها أسئلتهم حول الذات والآخر والعالم، لنرى كيف تترجم هذه القيم في فضائنا التربوي اللبناني؟ وما الذي يمكن أن نطوره فيها حتى تصبح الفلسفة حقًّا حياة تعاش في المدرسة؟
واعتبر الدكتور أبو شعيا أولًا، أن الفلسفة في المدرسة هي مدرسة من المعرفة إلى تكوين الإنسان. حين نتحدث عن تعليم الفلسفة، فإننا لا نتحدث عن مادة دراسية كبقية المواد، بل عن تجربة فكرية وتربوية تهدف إلى تنمية القدرة على التساؤل، وإلى تدريب العقل على الحوار والتحليل. فالفلسفة في جوهرها ليست مجموعة من المعارف الجاهزة، بل هي فن التفكير.
وقال: إن الفلسفة في المدرسة لا تقاس بعدد المفاهيم التي يحفظها الطالب، بل بقدر ما تثير فيه من أسئلة، وبما تمنحه من أدوات لفهم ذاته والعالم… وهذا هو جوهر التربية الفلسفية الحديثة التي تسعى إلى الانتقال من الفلسفة كمحتوى إلى الفلسفة كممارسة.
وتطرق الدكتور أبو شعيا ثانيًا، إلى الحديث عن موقع الفلسفة في النظام التربوي اللبناني. حيث تدرس الفلسفة في لبنان ضمن المناهج الرسمية التي أقرّها المركز التربوي للبحوث والإنماء منذ التسعينات، وتحديدًا في الصفوف الثانوية تحت عنوان فلسفة وحضارات. لافتًا إلى أن هذا المنهج يتميز بكونه يجمع بين البعد التاريخي والبعد الإنساني، أي بين دراسة الفكر الفلسفي والحضاري في سياقه التاريخي، وبين استخلاص الدروس والقيم التي يمكن أن تنعكس على الواقع المعاصر.
وأوضح أن المنهج يركز على مجموعة من الدروس الفلسفية الكبرى التي تشكل مدخلًا إلى التفكير في قضايا الإنسان والعالم والمعرفة. من أبرز هذه الدروس: الإنسان والوعي، اللغة والفكر، المعرفة والعلم، العدالة والمجتمع.
وصرّح الدكتور أبو شعيا أن لبنان يتميز بتعدده الثقافي والديني والفكري، مما يجعل الفلسفة في التعليم الثانوي ذات وظيفة مزدوجة. من جهة، هي تدريب للعقل على التحليل والنقد، ومن جهة أخرى، هي دعوة إلى العيش المشترك والتفاهم..
ثم تطرق الدكتور أبو شعيا في حديثه إلى أنه وبرغم رقي الأهداف إلا أن تعليم الفلسفة في لبنان يواجه عددًا من الصعوبات الموضوعية.
وأشار إلى أنه أمام هذه التحديات سيتم الاقتصار فقط على بعض الآفاق للتطوير والتجديد، حيث يكمن هنا عدد من الاتجاهات المقترحة:
أولًا، إدماج الفلسفة في المراحل السابقة للثانوي بصورة مبسطة من خلال التربية على السؤال والتفكير النقدي، فليس من الضروري انتظار الصفوف العليا لكي يتعلم الطالب معنى أن يسأل لماذا وكيف.
ثانيًا، اعتماد المقاربة الحوارية النشاطية بدلًا من المقاربة التلقينية، بحيث يصبح الدرس الفلسفي مساحة حوار لا محاضرة تقليدية.
ثالثًا، تطوير أدوات التقييم لتقيس مهارات التفكير لا الحفظ، فالسؤال الفلسفي الجيد هو الذي يبرز قدرة الطالب على التحليل والنقد، لا على استعادة الجمل النصية.
رابعًا، تحديث تكوين المعلمين عبر ورش عمل وبرامج مستمرة تعنى بطرائق تدريس الفلسفة وتبادل الخبرات بين الأساتذة.
خامسًا، إدخال الوسائط الرقمية والتفاعلية في تعليم الفلسفة، مثل الفيديوهات القصيرة والمنصات الحوارية.
وأخيراً، اعتبار إعادة الاعتبار للفلسفة كمجال ثقافي وطني، فلبنان الذي أنجب فلاسفة ومفكرين كبار مثل شارل مالك وناصيف نصار وميخائيل نعيمة وغيرهم، يحتاج إلى أن يعيد وصل التعليم الفلسفي بتراثه الثقافي، كتعامل قليل مقارنة مع التجارب العالمية من فرنسا وكندا وأستراليا.
واعتبر الدكتور أبو شعيا أن الفلسفة في التعليم الثانوي اللبناني تحمل في جوهرها رسالة تربوية وإنسانية نبيلة، لكنها تحتاج إلى بيئة مؤسسية وثقافية قادرة على إنعاشها وتفعيلها. فالفلسفة ليست ترفًا فكريًّا، بل هي حاجة وجودية في زمن يزداد فيه الضجيج وتتراجع فيه القدرة على الإصغاء. وحين نعلم أبناءنا كيف يفكرون، لا ماذا يفكرون، فإننا نمنحهم القدرة على الحرية والنقد والإبداع.
وختم الدكتور جان أبو شعيا محاضرته بالقول: إن تجديد مناهج الفلسفة في لبنان وتفعيلها في الميدان هو استثمار في العقل والضمير معًا في الإنسان بوصفه غاية التربية ووسيلتها. فلنجعل الفلسفة في مدارسنا لا مادة دراسية فحسب، بل أسلوب حياة وأفقًا مفتوحًا نحو التساؤل والمعنى، مساحات للفكر لا للجدل العقيم. ولنجعل من تعليم الفلسفة طريقًا نحو إنسان أكثر وعيًا وأكثر حبًّا للحقيقة. ولنحتفل معًا في كل يوم بشجاعة التفكير وبجمال السؤال.
بعد انتهاء محاضرة الدكتور جان أبو شعيا نقل الدكتور خير الدين الكلام إلى الشيخ الدكتور فادي فكان عنوان محاضرته: “مناهج تعليم الفلسفة في مؤسسات التعليم الخاصة”، فاعتبر أن الحديث عن تعليم الفلسفة في الجامعات الخاصة في لبنان هو حديث طويل ومعقد، يتضمن العديد من الهموم والاعتبارات.
أما في ما يتعلق بسؤال لماذا الفلسفة في الجامعات الخاصة، فقال الدكتور ناصر: إنه بمثابة إجابة على سؤال أعمق، وهو لماذا الفلسفة بالنسبة للإنسان؟ الفلسفة هي فلسفة الإجابة على سؤال “لماذا؟”، وهو السؤال الذي يطرحه الإنسان منذ صغره، والسؤال الأول الذي يتناول جميع جوانب حياته. فبمجرد أن يسأل الإنسان هذا السؤال، يصبح فيلسوفًا، لأنه يسعى لفهم جذور الأشياء وما وراء الظواهر التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، بل يسأل عن الحقائق الكامنة خلف هذه الظواهر الطبيعية والإنسانية والوجودية.
ورأى أن الفلسفة التي ندرسها اليوم، سواء كانت فلسفة مضافة أو مرتبطة بالعلوم السياسية أو التربوية أو الاقتصادية، هي دراسات فلسفية غاصت في تفاصيل معينة، وبدأت تتجاهل الإجابة على الأسئلة الكبرى التي انطلقت منها الفلسفة الإنسانية.
ولفت إلى أن المشكلة الأساسية في الفلسفة تكمن في أننا عندما بدأنا بالإجابة على هذه الأسئلة بطريقة جزئية، تناسينا الإجابة النهائية التي تعالج هذه الأسئلة بشكل واقعي وحقيقي.
واعتبر أن الفلسفة اليوم تعاني من مشكلة كبيرة، وهي أنها تناست الأسئلة والإشكالات الكبرى المرتبطة بالحقيقة والجوهر المتصل بالوجود والكون والإنسان، وبدأت تغوص في التفاصيل الجزئية. وهذه التفاصيل لا يمكن أن تعطي نتائج قطعية يقينية، على الرغم من أننا في الفلسفة نتجه نحو اليقين، ونرغب في الوصول إلى واقع مطمئن على مستوى العقل والنفس.
ورأى أن هدف الفلسفة هو معرفة الحقيقة، بكل أبعادها وجوانبها المتصلة بالطبيعة. لذلك، ليس صحيحًا أن الفلسفة في عداء مع الطبيعة، بل هي المحرك الأساسي لاكتشاف الطبيعة ومعرفتها.
وصرّح، بأن من يحصر الفلسفة اليوم باليونانية أو الغربية أو الإسلامية يحتاج إلى إعادة نظر، لأن الفلسفة بدأت مع بداية العقل الإنساني في التفكير.
أما في ما يتعلق بالنقطة الأساسية والتي تتمحور حول دراسة المناهج التعليمية لمادة الفلسفة في الجامعات اللبنانية، فقد لاحظ الدكتور ناصر وكأنها تعكس نوعًا من العداء، إن لم يقل “عداء” لعدم التلاقي بين الفلسفة والدين. فهناك مقولة مشهورة تفيد بأن الفلسفة في الغرب بدأت من خلال صدام مع الكنيسة. وباعتقاده أن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، لأن الفلسفة لولا الكنيسة لما كانت موجودة في الغرب.
وأوضح، لم تكن الكنيسة على رأي واحد، بل كان هناك نص ورؤية كنسية مرتبطة بقراءة النص والتعبد به، ورأي آخر في الكنيسة يدعو لتحرير العقل. وعندما نصل إلى الفلسفة في بعدها الإسلامي، نجد أن هناك مشكلة، كما عانت الفلسفة الغربية من فصلها عن الدين، عانت الفلسفة الإسلامية أيضًا من فصلها عن مناشئها الحقيقية.
وأشار، إلى أنه عندما نفكر في الفلسفة، يتبادر إلى أذهاننا الموضوعية والحرية وعدم الحكم المسبق، وهذا نجده في الفلسفة اليونانية والغربية، لكن عندما نأتي إلى الفلسفة الإسلامية، نجد الأحكام المسبقة والإلزامية. مصرّحًا بأنه وجد ذلك عند قراءة المنهاج الفلسفي في الجامعات الخاصة في لبنان، حيث تبدو الجامعة اللبنانية هي الأفضل في إعطاء الفلسفة حقها، لأنها موضوعية ونزيهة، وتتناول جميع أبعاد الفلسفة منذ مقاربتها بالأديان، وصولًا إلى الفلسفة الإسلامية.
ولفت أنه عندما نتحدث عن الفلسفة الإسلامية، نذكر بعض الفلاسفة، لكن مع الأسف، لم يسمع أحد منا عن الفلسفة العميقة المرتبطة بمبدأ الوجود وغاية الوجود، كما قال ابن سينا والسهروردي وملا صدرا. الفلسفة الإسلامية لا تقف عند فلسفة ملا صدرا، بل لها بعد أوسع بكثير، حيث إن العرفان النظري لا يُسمح بدراسته إلا لمن يكون فقيهًا، درس الفقه والأصول والفلسفة الإسلامية والغربية.
وختم الشيخ الدكتور فادي ناصر بالقول: إذا كنا فلاسفة بحق، ينبغي أن نكون موضوعيين، وأن نفتح المجال للبحث في الفلسفة بكل أبعادها. إذا أردنا أن نقدم المعرفة بالواقع والحقيقة، علينا أن نتقبل هذه الواقعية، وأن نكون موضوعيين مع أنفسنا كفلاسفة. إن أردنا تقديم الفلسفة الجديدة، الفلسفة العصرية، التي تهدف إلى بناء مجتمع، فإن الفلسفة في الجامعة ما زالت نظرية، وليست فلسفة اجتماعية. هي ليست فلسفة تهدف لبناء الإنسان برؤيته الكونية، ولا لبناء المجتمع. لم تأتِ هذه النظريات الفلسفية لتأسيس مجتمع كما قالوا في الفلسفة اليونانية “المدينة الفاضلة”، وهي حقيقة ينبغي أن تسعى الفلسفة لتحقيقها.
وختام المحاضرات كان مع الدكتورة ديانا حدارة، فقدمت ورقة بعنوان: “مناهج تعليم الفلسفة في الجامعات” حيث أثنت الدكتورة على إقامة هذا النشاط بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، واعتبرت أن احتضان هذا اللقاء ليس مجرد عمل تنظيمي فحسب، بل هو التزام ثقافي يبقي الفلسفة حية وفاعلة في فضائنا العام.
وصرّحت الدكتورة حدارة أنه إذا كان العالم اليوم يحتفل بالفلسفة، فإن المفارقة المؤلمة هي أن هذا الاحتفال يمر في لبنان ومعظم الدول العربية مرورًا خافتًا. فالأيام العالمية الأقل أهمية مثل اليوم العالمي للصداقة أو اليوم العالمي للقهوة تتصدر الإعلام، بينما يغيب يوم الفلسفة عن الشاشات. وتساءلت: من المسؤول عن هذا التغييب؟ هل هو الإعلام الذي يطارد السهل والسريع؟ أم المشتغلون بالفلسفة الذين لم ينجحوا في إيصال خطاب فاعل للمجتمع؟ أم النظام التربوي الذي حوّل الفلسفة إلى مادة حفظ وامتحان بدل أن تكون مادة حياة؟
وقالت: من هنا يصبح الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة دعوة ملّحة لإعادة الاعتبار للصوت الفلسفي ولتجديد العلاقة بين الفلاسفة والمجتمع، ولإعادة ربط الإعلام بالأسئلة العميقة التي تؤسس للوعي المجتمعي، لا تلك التي تكتفي بإثارة الانفعال السريع. ومن هنا يكتسب الحديث عن منهج تعليم الفلسفة في الجامعة اللبنانية أهمية خاصة.
أضافت، ما يميز الجامعة اللبنانية، وكل الأقسام فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، أنها جامعة وطنية لديها مؤسسة فلسفية وطنية تتمتع بسمات خاصة. أولًا، هي جامعة ذات فروع متعددة تستقبل طلابًا من خلفيات اجتماعية وثقافية ولغوية متنوعة. ثانيًا، السمة الثانية هي التنوع اللغوي الذي تقدمه الجامعة اللبنانية.. السمة الثالثة التي تتميز بها الجامعة اللبنانية والتي نجدها أيضًا في الإنترنت هي اعتماد نظام “أل أم دي”.
واعتبرت أن الفلسفة هي كالبناء الهندسي لا تقوم إلا على أساس صلب، فأي ضعف في القاعدة يؤدي إلى خلل في بناء الفكر كله. ولهذا فإن هذه المقررات ليست حشوًا معرفيًّا، ولا عبئًا يُلقى على كاهل الطلاب، بل هي الطريق الوحيد لتكوين عقل فلسفي راسخ.
ثم تطرقت إلى الحديث عن المسار المهني في الجامعة اللبنانية في مرحلة الماجستير حيث اعتبرته من ما يميز الجامعة اللبنانية في كل الفروع وفي كل الاختصاصات، بل هو من أبرزها، لأن معظم أقسام الفلسفة في العالم العربي تكتفي بالتكوين النظري، بينما تذهب الجامعة اللبنانية خطوة أبعد من ذلك.
تابعت، وإذا ما ركزنا على خطوة قسم الفلسفة، فإنها تسعى لتحويل الفلسفة من خطاب إلى ممارسة، ومن تاريخ إلى حوار، ومن قراءة إلى تفاعل مع الإنسان. المسار المهني لدينا ليس للتوظيف، بل هو مسار للحياة.
وقالت: من ضمن المقررات التي دائمًا ما تثير انتباهي والتي نقدمها في المسار المهني، هناك مقرر يُسمى “الإرشاد الفلسفي في السجون”.. فتتدخل الفلسفة هنا، لا لتبرير العقوبة، بل لمرافقة الإنسان في إعادة بناء ذاته.
وصرّحت بأن المسار المهني لا يصنع مجرد مفكر أو فيلسوف، لأنه لم يعد هناك فلاسفة، حسب اعتقادها، بل يصنع مستشارًا قادرًا على التعامل مع القلق، يقرأ التجربة الإنسانية باحثًا، يفهم الهشاشة الاجتماعية، مثقفًا يتفاعل مع المجتمع، معلمًا يدرس الفلسفة من موقع الخبرة وليس من موقع التلقين.
ولفتت إلى أنه في بعض الجامعات، تقدم مقررات حول أسس فلسفية للإرشاد الفلسفي في جامعات في بولندا ورومانيا وتركيا أيضاً، لكن معظمها يركز على ما يُعرف بفلسفة “كوتشينغ”، وغالباً ما يميل إلى الاستشارات الفردية وتطوير الذات، بينما يمكن الادعاء أن النموذج اللبناني هو اجتماعي، سياسي، مؤسساتي يشمل السياسة، المجتمع، النفس، والجسد.
ودعت إلى أننا في اليوم العالمي للفلسفة، علينا أن نتذكر دائمًا أن الفلسفة ليست مجرد نصوص، بل هي قوة حية تدخل في حياة الإنسان، تساعده على مواجهة قلقه وتساؤلاته وتحدياته اليومية. الاحتفال اليوم ليس مجرد شعارات، بل هو دعوة لننظر إلى الفلسفة بوصفها ممارسة فعلية ليست حكرًا على الجامعات أو الأكاديميين، بل متاحة لكل من يسعى للفهم والتحليل والتأمل.
ثم ختمت الدكتورة ديانا حدارة محاضرتها قائلة: إن الجامعة اللبنانية بهذا المنهج تعلمنا أن الفلسفة ليست مجرد معرفة، بل فن للعيش مع الإنسان وفهمه وإعادة تشكيل العالم من حولنا بطريقة أفضل. وفي اليوم العالمي للفلسفة، نستطيع أن نرفع الصوت قائلين إن الفلسفة حيّة، وعليها أن تظل حية في عقولنا وحياتنا كما نفعل في مناهجنا وتعليمنا الجامعي.
بعد ذلك أفسح المجال أمام الحضور لطرح الأسئلة والتعقيبات، حيث اقترح مدير دار الندوة الدكتور هاني سليمان تكوين لجنة متابعة لدى الجامعة اللبنانية من أجل تطوير مادة الفلسفة كمادة حيوية، إذ إن جميع العلوم لها مختبرات، بينما الفلسفة يتم اختبارها من خلال الحياة. ومن خلال هذا المختبر الذي تديره الجامعة ومراكز الأبحاث، يمكننا أن نصل إلى ما نريد.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
