الانتظار الثوري والشورى في ولاية الفقيه (1)

الفرد محور التاريخ
تهيأت للإمام الخميني (قده) كل عوامل التفوق العبقري على المستويات الروحية والعقلية والعرفانية، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وبتلك العوامل قام بما لم يقم به أحد على مدار التاريخ الإسلامي، التاريخ الذي اصطبغ بدماء أهل البيت وشيعتهم، فقد تمكّن الإمام من وضع نظرية ولاية الفقيه موضع التطبيق الحي، تطبيق مثالي في عالم مضطرب استكباري النزعة والهدف والسلوك والطغيان، وقاد الإمام شعب إيران المسلم ليطيح بأعتى نظام استكباري متحالف مع أعداء الأمة، وتمكّن الإمام من النصر، ليس النصر على الاستبداد والفساد فقط، بل انتصر للمشروع الإسلامي الرسالي الحقيقي، وعندما تم وضع دستور الجمهورية الإسلامية، فقد تميّز بوجود الولي الفقيه الجامع للشرائط، والتي تمثلت وقتها في شخص الإمام الخميني نفسه، وقد واجه الإمام وواجهت الجمهورية الإسلامية الإيرانية وما زالت تواجه حملة عاتية من النظم العربية المستبدة والنظم الغربية المستكبرة ضد ولاية الفقيه وضد إيران الإسلامية ذاتها، وادّعوا أن الولي الفقيه هو مستبد باسم الدين، وأنها ضد الديمقراطية وضد الشورى، وكلها أكاذيب يتم ترويجها بسبب المواقف الثورية للجمهورية الإسلامية، ولكن إيران ومنذ الثورة وهي تقود المستضعفين في العالم ضد الظلم العالمي، وأثبتت نظرية الولي الفقيه أنها تمثل أمل الإنسانية في الرحمة والعدل والتكافل، لقد قام الإمام الخميني بالتطبيق الحي لولاية الفقيه، ويسير على دربه الإمام علي الخامنئي، والجديد هنا هو أن الولي الفقيه يأتي في زمن الانتظار الثوري، أي أن الثورة التي قادها الإمام تمكنت من تطبيق الشورى بمعناها الحقيقي، وجعلت من الانتظار ثورة مستمرة، وهنا تتجلى عبقرية الإمام الخميني عندما استخرج من بطون الكتب النظرية ووضعها في حيّز التنفيذ، وذلك يؤكّد لنا أن الإنسان الفرد هو محور التاريخ، فالباحث في التاريخ الإنساني يجد أن كل الأفكار الإصلاحية والتغيّرات الثورية في تاريخ البشرية تقوم على الفرد، لأن الإنسان الفرد هو محور التاريخ، والخطاب الإصلاحي يتوجه للفرد قبل الجماعة، لأن التغيير للأصلح أو للأسوأ يبدأ من الفرد الذي يكّون من حوله خلية تصير نواة للتغيير، والتغيير المقصود هنا قد يكون للخير، وقد يكون للشر، ولكنه في كل الحالات تغيير يقلق المجتمع وربما المجتمعات المجاورة أو العالم بأسره، ومسيرة البشرية شهدت حروبًا وصراعات دامية يقودها أفراد لهم إمكانات بشرية عالية المستوى في التفكير والإدراك، وكل الديانات الوضعية كالبوذية والهندوسية والزرادشتية، والديانات الفرعونية القديمة نبتت من عقول أناس أفراد، وكل الحروب التوسعية الدامية كالتي قام بها جنكيز خان وهولاكو ونبوخدنصر وهتلر وغيرهم كانت من بنات أفكار أفراد، أشخاص لهم ذكاء نادر استخدموه للغزو والتوسّع، كما أن كل الحركات السياسية والفكرية التي أثّرت في البشرية كالشيوعية والرأسمالية والدياليكتيكية والأممية جميعها خرجت من مخ إنسان فرد تمكن من تطويع البيئة التي يعيش فيها بالكتابة والتبشير بوعود المساواة والعدل والإخاء، ويتلقفها أشخاص ثم جماعات تقوم بإخراج تلك الأفكار إلى نطاق حيوي تستثمر فيها، وتنطلق منها في حروب ما زالت تصبغ البشرية بالفرقة والدماء.
وفي المقابل، فإن الأنبياء جميعًا أفراد بشر تميزوا بالبشرية المثالية كما تميزوا دون الناس جميعًا بالاصطفاء الإلهي لهم ليكونوا قدوة للناس، لينشروا العدل والتبشير بالقيم الرسالية، فهم بشر مصلحون أرسلهم الله ومعهم ميزان معنوي ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[1]؛ فالميزان هنا هو حقيقة العدل، وحامل الميزان ليس مخلوقًا معصوب العينين لكي لا ينحرف عن سواء السبيل، ولكن حامل الميزان مفتوح العينين، يدرك الأحياء والأشياء، يحكم بالقسط بين كل البشر، ويخوض الحروب ضد كل المستكبرين، فالأنبياء هم المصطفون دون الناس جميعًا ومعهم كتب سماوية تبشر بالعدل والتوحيد.
إن الله تعالي خلق الإنسان وحمّله مسؤولية الدعوة وأمانة التوحيد وحتمية العدل، وترك له حرية الاختيار ليميّز بين الخير والشر، الأريحية والأثرة، الطمع والقناعة، ودارت في التاريخ البشري صراعات بين قوى الخير وقوى الشر، يقود كل الفريقين فرد، وغالبًا فإن قوى الشر هي التي تنتصر وتنشر فكرها وتقمع معارضيها وتقتل مخالفيها، فاصطبغ تاريخ الإنسان بالدماء والمقابر الجماعية، حتى إن قلوب بعض البشر صارت مثل الحجارة أو أشد قسوة، ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا﴾[2].
وقد حدثت هذه الحروب وانتصر الشر بعد رحيل أصحاب الديانات، وكانت قوى الشر دومًا تحرّف دعوات الأنبياء عن حقيقتها، وبنظرة متأمّلة نجد أن الفكر المنحرف هو الذي ساد في كل الديانات، ففكرة الشعب المختار فكرة منحرفة، ولا يمكن أن يكون الأنبياء موسى وهارون وداوود وسليمان (ع) من دعاة هذه الفكرة المنحرفة، ومع ذلك صار من لا يؤمن من اليهود على مر العصور بتلك الفكرة ناقص في تفكيره الديني والقومي على السواء.
ونفس الفكرة سادت المسيحية في ثوبها التجسيدي، وكل من لا يؤمن بفكرة التجسد الإلهي في الجسد الإنساني للمسيح (ع)، أو لا يؤمن بالثالوث المتجسد في الكلمة اليسوعية لا يصير مسيحيًّا بحال.
وفي الأمة الإسلامية ساد الفكر المنحرف أيضًا ولكن ليس في حقيقة التوحيد، ولكن في ربط طاعة الحاكم حتى لو كان ظالمـًا بطاعة الله ورسوله، وهو ارتباط شائك منحرف ولكنه ساد وما زال يسود، واصطبغ التاريخ الإسلامي بالدماء بسبب هذا الربط، فتم تحريف وتأويل تفسير ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله بحيث يخدم الفكر الحاكم المستبد، فضاع العدل وشاع الظلم وانتشر الفساد، وتغيرت الكثير من الأحكام الإسلامية، ثم غمض هذا الأمر عن المسلمين طوال تاريخهم، وأضحى من الضروري رد الدين إلى معالمه الأساسية، فجعل ذلك لأفراد من البيت النبوي المحمدي لكي لا يضيع الدين من أصله، فقد ضاع الميزان وإن بقي التوحيد.
ولأن الله تعالى جعل لهذا الكون آخرًا وللأرض نهاية، فإن العدل الإلهي لا بدّ أن ينصر الخير في النهاية، في نهاية التاريخ، وكما قلنا فإن حركة التغيّرات البشرية قامت على كتفي إنسان بشر فرد مصلح، كان لا بدّ من وجود مصلح يرمّم انحرافات الأديان السماوية، ويعيد إليها إشراقاتها الرسالية وآفاقها الإلهية، وفردوسها الأرضي ويحرّر الإنسان، ومن البديهي أن قوى الاستكبار لا بد أن تحارب معركتها.
إن هذا المصلح هو المنتظر الذي بشرت به كل الأديان.
لقد كانت أهم المشاكل التي تقلق المجتمع البشري على طول التاريخ هو ذلك التنافر الإنساني الذي برز في شكل صراعات دامية وحروب استنزافية زرعت أمراضًا مستعصية في عمق الجسد البشري مثل العرقية والعنصرية والقومية.
ولا شك أن الصراع المستميت على المصالح قد حول هذه الأمراض إلى أيديولوجية متأصّلة تبحث عن أعداء لها لتبتلعهم رغبة لمصالح منظريها وكانت الحربين العالميتين شاهد مروع على ذلك.
وهذا المصلح المنتظر هو الإمام محمد بن الحسن العسكري (عج) الذي سيعود ليملأ الأرض عدلًا بعد أن ملئت جورًا، والأمة في انتظار عودته الميمونة، ولكن الانتظار قد يكون طويلًا، وفي زمن هذا الانتظار لا بدّ من الاستعداد للعودة، انتظار يمهد الطريق للعودة، انتظار إيجابي يمنع التكاسل والخمود والخمول، يمنع أعداء الأمة من السيطرة على مقدّراتها، فلا بدّ من وجود نائب للإمام الغائب، وهذا النائب هو الولي الفقيه، الولي الجامع للشروط التي سنكتب عنها في هذه الدراسة، ولقد نبتت ولاية الفقيه منذ زمن الغيبة على يد فقهاء وعلماء عظام، وتجلّت فيها دراسات وأفكار قرآنية رسالية، ولكنها لم تطبق على المستوى العملي لأسباب كثيرة، أكثرها نابع من الظروف التاريخية والسياسية التي عاش فيها شيعة أهل البيت (ع)، صحيح أن إيران عاشت قرونًا تحت حكم رجال سياسيين شيعة مثل الصفويين والقاجاريين وآخرهم البهلويين، إلّا أنّ كل هؤلاء كانوا أقرب للحكم الدنيوي، أحيوا من الدين ما يخدم سلطاتهم، وكان الشاه محمد رضا بهلوي أكثرهم محاربة للدين.
ولذا، فإنّ ولاية الفقيه لم تطبق عمليًّا إلّا على يد الإمام الخميني (قده)؛ لأن الإمام امتلك قدرًا من العبقرية والكفاءة والروحانية، وهي كلها مؤهلات اصطفاه الله تعالى بها لإحياء الدين، والغريب أن تُطبق ولاية الفقيه في أول عام من القرن الخامس عشر الهجري، فتم تجديد الدين أولًا بإقامة حكم الولي الفقيه، ثم إقامة ما يمكن تسميته الانتظار الثوري في زمن الغيبة، وهو ما يؤكّد لنا أنه كان لطفًا إلهيًّا عندما انطلقت الثورة الإسلامية، وكانت عبقرية بشرية امتلكها الإمام الخميني عندما قاد الثورة وانتصر بها على قوى الشر داخل إيران وخارجها.
ومن المناسب أن نبرز أقوال أعداء ولاية الفقيه وأهمها زعمهم بأن الولي الفقيه مستبد ديني، أو ثيوقراطية دينية بعيدة عن الشورى أو الديمقراطية، وهي أقوال ثبت زيفها، وسنتعرّض لها في هذه القراءة عن فكر الإمام الخميني لنظرية ولاية الفقيه وتطبيقها العملي في المباحث التالية التي سنطالعها.
[1] سورة الحديد، الآية 25.
[2] سورة البقرة، الآية 74.
المقالات المرتبطة
اللغة كميدان للمجابهة الرسالية مع الحرب الناعمة، “الغزو الثقافي”
اللغة العربية هي ميدان مجابهة رسالية مفتوحة منذ قرون من الغزو الثقافي، الذي استهدف أمتنا، والذي حمل لواء كبره المستشرقون والمبشرون، عندما سعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى تهميش اللغة العربية بطرق ووسائل عدة، أبرزها: الدعوة للعامية بذريعة أن اللغة العربية عاجزة قاصرة جامدة.
الأسباط أنبياء … وليسوا أبناء يعقوب ولا إخوة يوسف
قديمًا عندما قرأنا حديثًا للنبي محمد (ص)، نراه صحيحًا لأنه متواتر، ولا يخالف النصوص القرآنية
جاك دريدا ومغامرة الاختلاف- المنطق الثالث
ي قراءته للنصوص، يطرح ديريدا منطقًا ثالثًا، يبتعد عن تعافي وإطلاقية المنطق الأنطولوجي الذي يسلم بجوهر موضوعي وهوية ثابتة