الانتظار الثوري والشورى في ولاية الفقيه (2)

ماهية الانتظار الثوري
منذ غيبة الإمام المهدي (عج) والمسلمون يتطلّعون لعودته الميمونة، وهم مشتاقون لتلك العودة لدرجة أن طالب البعض بضرورة أن تمتلئ الأرض بالظلم والفساد ليعود القائم سريعًا، وتلك نظرة غير صائبة وانتظار سلبي لا يمتّ للدين الإسلامي الرسالي، والذي طبقه الأئمة من أهل البيت (ع)، وليس في زمن الغيبة ما يمنع من الدفاع عن العدل والدفاع عن المظلومين والمستضعفين حتى لو لم توجد دولة نائب الإمام أو دولة الولي الفقيه، ولذا فقد فنّد العلماء فكرة الانتظار السلبي، بل جعلوه انتظارًا إيجابيًّا مثمرًا، وتخطى الإمام الخميني (رض) هذا ليجعل الانتظار ثورة تمهيد، وثورة أمل، وثورة حياة، وثورة دولة إلهية يقود فيها نائب الإمام المعصوم الشعوب المستضعفة، وقد كانت الثورة الإسلامية من تحقيق الانتظار الثوري، والإمام الخميني قاد الثورة مبكرًا منذ ثورة المدرسة الفيضية في قم المقدسة عام 1963 وله أفكاره في كتبه عن الانتظار والثورة وإقامة ولاية الفقيه، وهو ما تحقق له وللأمة بأسرها، خاصة وأن الولي الفقيه ما زال يقود الجمهورية الإسلامية متمثّلًا في شخص الإمام المرجع علي الخامنئي حفظه الله.
إن الإمام الخميني عندما أراد للانتظار أن يكون ثوريًّا فإنه استقاه من فكر أهل البيت (ع)، وهو فكر ثوري في أصله وأساسه وبنيانه، فكر ثوري دفع الأئمة دماءهم الزكية أثمانًا له، ومنذ ثورة الإمام الحسين (ع) وما تلاها من ثورات مهدت الطريق للفكر الثوري الدائم، وبعد غيبة الإمام المهدي (ع) عاشت الأمة في أزمنة انتظار، أصّله الإمام الخميني عندما أسّس للولي الفقيه حين يقود الأمة نائبًا عن المعصوم.
إن انتظار المهدي (عج) هو شأن مستقبلي خالص، وكما لا يغرب عن البال أن الانتظار في حد ذاته هو ترقّب، والترقّب يستلزم الاستعداد الإيجابي الثوري وليس الانتظار السلبي بأية حال من الأحوال كما يذهب البعض بسبب الضربات الدموية الموجعة التي تلقّاها شيعة أهل البيت طوال تاريخهم الدامي[1]، والحقيقة أن انتظار القائم لا بدّ وأن يكون انتظارًا ثوريًّا بكل ما في الكلمة من ثورية، لأنه من غير المنطقي أن يظهر ويجد الأمة غير مستعدة للجهاد معه ضد كل طواغيت العالم، ويجب التأمّل في أنه سيملأ الأرض عدلًا وليس مدينة أو دولة، فالجهاد عند الظهور جهاد كوني[2]، والقائم عندما يظهر لا بدّ وأن يجد جماعة مستعدة له، وقيادة أمينة تمهد الطريق لظهوره الشريف، أو كما قال الشهيد محمد باقر الصدر: “لا يكون الفرد على مستوى الانتظار المطلوب إلا بتوافر عناصر ثلاثة مقترنة: عقائدية ونفسية وسلوكية، ولولاها لا يبقى للانتظار أي معنى إيماني صحيح سوى التعسّف المبني على منطق القائل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون. إن الجانب السلوكي للانتظار يتمثّل بالالتزام الكامل بتطبيق الأحكام الإلهية السارية في كل عصر على سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله حتى يكون متبعًا للحق الكامل، والهدي الصحيح، فيكتسب الإرادة القوية والإخلاص الحقيقي الذي يؤهله للتشرف بتحمل طرف من مسؤوليات اليوم الموعود”[3].
وأي حديث عن انتظار سلبي حتى تمتلئ الأرض بالفساد لكي يكون الظهور حتميًّا هو حديث يكشف عن حال الأمة المتهرّئ الذي تغلغل فيه هذا الفكر العبثي[4].
إنّ الانتظار الثوري ما جاء على لسان الإمام الصادق (ع) في وصف أصحاب المنتظر (عج) حيث قال: “من سرّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا هنيئًا لكم أيتها العصابة المرحومة[5]، وقال أيضًا: من مات منكم على هذا الأمر منتظرًا كان كمن هو في الفسطاط الذي للقائم (عج)[6].
وعن الصادق (ع) أيضًا: “ليعدّن أحدكم لخروج القائم ولو سهمًا فإن الله تعالى إذا علم ذلك من نيته رجوت لأن ينسئ في عمره حتى يدركه فيكون من أعوانه وأنصاره”[7].
وغيرها من الأحاديث التي تؤكّد على ضرورة الاستعداد لظهور القائم، فكما تحتاج الأمة للقائد المخلّص المنتظر، فالمنتظر يحتاج أيضًا لأتباع ينتظروه بالاستعداد الثوري والفكري والعقائدي والسلوكي، لأنه بمجرد الظهور تبدأ المجابهات ضد قوى الاستكبار من السلاطين المحليين والعالميين، فلا وقت لتربية الأتباع، الجماعة المنتظرة المستعدّة يجب أن تأخذ على عاتقها التبشير بظهوره، ثم الاستعداد بجمع شمل الأمة بالتقريب فيما بينهم لأن المسلمين على اختلاف مذاهبهم تريد أن ترى الأمة متوحدة، وأن تجابه الصهيونية العالمية وأن تنتصر عليهم، والفرحة الغامرة التي انتابت كل المسلمين عندما انتصر حزب الله على إسرائيل يؤكّد هذا المعنى، مع العلم أن حزب الله حارب كل دول العالم تقريبًا، حارب الصهيونية الأمريكية، وحارب الغرب الصليبي، وحارب الحكّام المحليين الذين وصفوا صراعه على الصهيونية بأنها مغامرة غير محسوبة، بحيث يصدق القول: إن الاستعداد للظهور يكون بخير وسيلة، استعداد إيماني وعقائدي وسلوكي وعسكري محسوب بدقة، وهو انتظار ثوري بكل المقاييس، وهذا ما أكده الشهيد محمد باقر الصدر بقوله: “شرائط اليوم الموعود أن تكون الأمة ساعة الظهور على مستوى عال من الشعور بالمسؤولية الإسلامية، والاستعداد للتضحية في سبيل الله عز وجل، أو على الأقل أن يكون معه العدد الكافي ممن يحمل هذا الشعور ليكون الجندي الصالح الذي يضرب بين يدي المهدي (عج) ضد الكفر والانحراف، ويبني بساعده المفتول الغد الإسلامي المشرق، ويكون الجيش المكون من مثل هذا الشخص هو الجيش الرائد الواعي الذي يملأ الأرض بقيادة المهدي قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا[8]. فالشعور بالمسؤولية الإسلامية موجود في الضمير الإسلامي، ضمير المسلم باختلاف مذاهبه، ويحتاج فقط النموذج المسؤول الذي يقوده لأكبر وحدة بين أكبر عدد من المسلمين، وطبعًا هذا يحتاج إلى فكر ثوري يتخطى المذهبية الضيقة التي يحاول كثيرون من علماء المسلمين أن يكرسوها إما بسبب جهلهم بالانتظار الثوري، أو بفكرة الانتظار على إطلاقها، وإما سبب خوفهم على منافع دنيوية زائلة كما يحدث كثيرًا في ديار المسلمين، وإما بسبب الوقوع تحت وطأة الفكر التكفيري الذي يقتل الآخر المسلم لا لشيء إلا لأنه مخالف له في الفكر والسلوك، علمًا بأن فقهاء الفكر التكفيري هم فلاسفة الطاعة للحاكم حتى لو كان ظالمـًا فاسدًا سفّاكًّا للدماء، وهم الذين يدافعون عن الحديث المنسوب ظلمًا لرسول الله (ص): “أطع الحاكم ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك”[9]، ويتهمون من ينكره بالكفر ويستحلون دمه، ثم يتحالف ساستهم مع الصهيونية/الأمريكية ضد الأمة، ويكرّسون الفزع من التمدّد الثوري لمذهب أهل البيت (ع)، ويصفون أتباع القائم (ع) بالرافضة، ويزعمون أنهم يحرّفون القرآن الكريم وغيرها من الأقوال المنافقة، وهو خوف تاريخي من فكر أهل البيت الثوري، ذلك الخوف الذي مثّله خلفاء الأمويين والعباسيين والعثمانيين ومن بعدهم الملوك والرؤساء والولاة ومن والاهم من الفقهاء والعلماء الذين يبررون لهم كل نقيصة.
إن الانتظار الثوري هو الذي يتصدّى إعلاميًّا وفكريًّا لهذا الفكر المنافق، انتظار ثوري يؤلف القلوب حول الهدف الإسلامي الأعلى وهو إقامة العدل بميزان القسط، وهو كما وصفه الشهيد الصدر “ولا يخفى ما في الانتظار المنسجم مع المبادئ الإسلامية العليا من الأثر الإيجابي على نفس المؤمن وسلوكه إذا تصورنا ما في اليأس والقنوط من أثر سلبي عليه في إضعاف معنوياته، وكبح جماحه، والكف عن نشاطه إذا لم يكن لنشاطه أمل يرتجى أو نتيجة تقصد، على حين أن هذا الانتظار أو الأمل يعطيه الدفع الثوري الكافي إيمانًا وسلوكًا لكي ينخرط الفرد في سلك الأنبياء والشهداء والصالحين، ويشارك بمقدار جهده بتمهيد المقدمات ليوم الله الموعود”[10].
لقد اشتملت نظرية الانتظار الإيجابي على خمس ركائز أساسية مستنبطة من النصوص القرآنية والروائية، ومنسجمة مع الغاية الجوهرية من بعثة الأنبياء والرسل، بل مجسّدة لأسمى هدف من أهدافها وهو الكفر بعبادة الأوثان الحجرية والبشرية المتجسّدة بالطاغوت بكل أشكاله، وحكومات الجور والضلال والإيمان بعبادة الله الواحد القهار: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[11].
وهذه الركائز هي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد دفاعًا عن الإسلام وصيانة أحكامه من التحريف والتسويف، والصبر على ما يفرزه الجهاد من المشاق، ثم ممارسة التقيّة بشكل صحيح بهدف مواصلة الجهاد حتى في أشد الظروف خوفًا وإرهابًا لكي تتمهد الأرضية الصالحة لإيجاد حكومة إسلامية تمهد السبيل لظهور القائم[12].
وهي أمور حتمية للتمهيد للظهور، لأن القائم سيعمل على رد الانحراف البشري عن رسالات السماء، وإعادة القيم الرسالية إلى أصولها وذلك في نفس الوقت الذي يجاهد فيه الاستكبار المحلّي الذي سيدعي عليه أنه ليس المهدي الموعود، ثم يسارعون بالتحالف مع قوى الاستكبار العالمي، الأمر سيكون شديدًا على الأتباع المخلصين، ولا بد لهم من تربية سابقة عملية على الظهور والنموذج المهدوي حتمًا سيزيد من الأتباع المخلصين من أبناء المسلمين الذين سيعلمون جيدًا أنهم عاشوا في غيبوبة فكرية وعقائدية، كما أن من أتباعه مسيحيون يعلمون صدق الدعوة خصوصًا عندما ينزل المسيح عيسى بن مريم (ع) ليعضد دعوة المهدي مشاركًا في الجهاد ضد الصهيونية والاستكبار، ووجود المسيح سيقوض الكنائس العالمية التي تحكم باسم المسيح، والتي لو ظهر المسيح للتكريز الحقيقي برسالته الآن لحاولوا صلبه من جديد[13]، ولعل الانتظار الثوري الذي تعيشه الجمهورية الإسلامية الإيرانية يثبت ما نقول، حيث تقود الجمهورية الإسلامية معسكر الدفاع ضد الطغيان العالمي والصهيونية العالمية في وقت واحد، ومن المناسب هنا القول: إن كل حركات المقاومة التي تبنتها الجمهورية الإسلامية انتصرت على الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، وحكّام العرب المتصهينين في وقت واحد، وقد تجلّى هذا في الانسحاب الصهيوني من لبنان عام 1982، ثم الانسحاب الكلّي من الجنوب اللبناني عام 200، ثم النصر على الحملة الصهيونية عام 2006، وكذلك المقاومة الإسلامية في فلسطين تمكّنت من إجبار العدو الصهيوني على الانسحاب من غزة ثم التصدّي للعدوان في آخر العام 2008، وأوّل العام 2009، وذلك هو الانتظار الثوري للقائم لأنه عندما يظهر ستكون حربًا لا هوادة فيها يشعلها الأعداء الخونة من أبناء الأمة، ومن فكر الانتظار الثوري أيضًا التقارب بين المسلمين وتوحيد نظرتهم للأعداء، وهو ما قامت به الجمهورية الإسلامية عندما أسّست المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
[1] النعماني، الغيبة، الصفحة 200، نقلًا عن: الشيخ كاظم جعفر المصباح، الإمام المهدي ومفهوم الانتظار، دار البصائر للطباعة والنشر، طهران، 2002، الصفحة 154.
[2] المصدر نفسه.
[3] السيد محمد باقر الصدر، الغيبة الكبرى، طبعة بغداد 1977، الصفحة 57.
[4] مثل شيخ كبير وعالم من العلماء بدأ منذ تصاعد المد الثوري لفكر أهل البيت (ع) أن يحذر من الذي أسماه بالتبشير بالتشيّع في بلدان سنية خالصة، فكشف عن طائفيته، لأن الوهابين هم الذين يبشرون في دول العالم بالمال السخي، وليته كان تبشيرًا بالسلام الصافي، ولكنهم يبشرون بالإسلام العنيف التكفيري الذي يقتل الغير باسم الإسلام، والإسلام ورسوله منهم براء، وتلك الملاحظة للتدليل فقط على مدى الانتظار الثوري الإيجابي الذي يجب أن يتحلى به المنتظرون بصفة عامة.
[5] النعماني، الغيبة، الصفحة 200، نقلًا عن: الإمام المهدي ومفهوم الانتظار، مصدر سابق، الصفحة 131.
[6] المصدر نفسه.
[7] المصدر نفسه.
[8] مفهوم الانتظار، مصدر سابق، الصفحة 272.
[9] صحيح البخاري.
[10] الغيبة الكبرى، مصدر سابق، الصفحة 218.
[11] سورة النحل، الآية 36.
[12] مفهوم الانتظار، مصدر سابق، الصفحة 275 .
[13] من الطرائف النقدية للمسيحية، المسرحية الشهيرة للكاتب الفرنسي المبدع الكبير نيكوس كازانتزاكيس (المسيح يصلب من جديد) تؤكد أنه عندما يعود المسيح سيجد أن الإنجيل الذي كرز به والحواريون من بعده لم يعد له وجود بعد أن قلّصه الفاتيكان في صلبه وتجسيده، ومعه القديس بطرس الذي صلب في الساحة التي كان الرومان يعدوها للمسيحيين بإلقائهم للسباع الجائعة لتأكلهم، ودفن في نفس المكان الذي صار رمز البابوية وعنوان المسيحية الكاثوليكية، ولقد قال عنهم الكاتب الفرنسي فولتير: إنهم يعيشون على أنفاس عطر ينبعث من إناء فارغ!!
المقالات المرتبطة
مشاريع فكرية 2 | الشيخ علي عابدي شاهرودي
الشيخ علي عابدي شاهرودي من مواليد شاهرود لعام 1369 هجري، درس المقدمات الحوزوية هناك، ثم هاجر إلى مشهد وأكمل فيها
العلمانية الشاملة وانعكاساتها في الخطاب المسيحي
من شائع القول: إن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، أو أيضًا فصل الدين عن الدنيا… ومن شائع القول أيضًا:
حفريات الخطاب الغربي- بنية الإستعراب
إن النظر في القرآن الكريم، ميزانه راجحٌ في الإحاطة بمقصد الشهود الحضاري، ومن أمارات هذا المقصد،