الحمد والشكر

الحمد والشكر

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِيَجْزِيَنَا عَلَى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ”.

يبدأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) دعاء الدخول إلى شهر رمضان المبارك بالحمد والتقدير الإلهي، ولكن بشكلٍ فائق الجمال وبترتيب منطقي وجاذب، ثمّ يطلب من الله تعالى مجموعةً من الطلبات ضمن فقراتٍ تبدأ كل واحدةٍ منها بالصلوات على محمد وآل محمد.

يطرح الإمام (عليه السلام) أمام محضر الحق تعالى العبارات التالية: “الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِيَجْزِيَنَا عَلَى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ”.

في هذه الفقرة من الدعاء، احتمل بعضهم أن يكون مرجع الضمير في “مِنْ أَهْلِهِ” هو “الله” تعالى؛ أي “جعلنا من أهل الله”. هذا الاحتمال وإنْ كان يتضمّن معنىً لطيفًا، لكنه ليس بذلك الاحتمال القويّ.

الفرق بين الحمد والشكر

يذكر الإمام زين العابدين (عليه السلام) في القسم الأوّل من هذا الدعاء أنّ الله تعالى قد هدانا إلى الحمد وجعلنا من أهل الحمد حتى نكون من الشاكرين. والسؤال هنا عن الحمد والشكر؛ ما هو الفرق بينهما، وما هو وجه الارتباط بينهما؟

والجواب هو أنّ بين “الحمد” و”الشكر” ارتباطًا وتقاربًا كبيرَين، ولكنّهما مع ذلك مختلفان. “الحمد”[1] ينبع من نوعٍ من الإحساس بالتعظيم والخضوع تجاه فردٍ نرى أنّه رمزٌ لمجموعةٍ من الفضائل، فنتوجّه إلى تلك الفضائل ونكون بصدد تقديرها. من الطبيعيّ أن الإنسان حين يقف في مقابل الكمال والجمال والحُسن المميّز، فإنّه يجد في نفسه حالةً انفعاليةً وعاطفيةً وشعوريةً تجاهه بنحوٍ تجعله يريد الخضوع أمامه.

أمّا “الشكر” فهو بمعنى الامتنان، وهو يتحقّق في مقابل نعمةٍ أو خدمةٍ ينالها الإنسان. وبناءً عليه، فالشكر والامتنان هما نوعٌ من ردّة فعل عند الإنسان أو تعويضٌ منه في مقابل خدمةٍ أو نعمةٍ أو عطاءٍ أو إحسانٍ تم توجيهه إليه[2].

وبناءً عليه، فللحمد والشكر مفهومان مختلفان ليس من السهل العثور على جامعٍ مشتركٍ بينهما، على أنّ بعضهم يعتقد بأنّ “الحمد هو الثناء على الجميل، سواء كان اختياريًا أو غير اختياري، والشكر هو الثناء على الجميل الاختياري”. وعلى هذا الأساس، فـ “الثناء على الجميل” هو الجامع المشترك بين الحمد والشكر. ولكن على فرض قبول هذا الرأي، فإنّه يبقى للحمد مفهومٌ مختلفٌ عن الشكر. “الحمد والتقدير” اللذان ليسا أكثر من مجرّد حالةٍ شعورية، هما أمرٌ مختلف عن “الشكر والامتنان” اللذين هما نوعٌ من ردّة الفعل والأداء في مقابل الخدمة والنعمة[3].

على الرغم من الاختلاف المفهومي بين هاتَين الكلمتَين، فلا يظهر بينهما مثل هذا الاختلاف من جهة المورد والمصداق. للحمد والشكر في كثيرٍ من الموارد والمصاديق تطابقٌ في ما بينهما. أي عندما يقدّم شخصٌ ما خدمةً لشخصٍ آخر أو يمنّ عليه بنعمةٍ ما، فالإنسان يشعر أنّ عليه، قبل أن يكون شاكرًا له على خدمته وممتنًّا له بسببها، أن يقدّره ويقدّر خدمته؛ وذلك لأنّه راضٍ ومسرورٌ نتيجة العمل والخدمة التي أُنجزت لأجله.

حقيقة الحمد والشكر

المسألة الأخرى هي أنّ نفس التوجّه إلى النعمة والرضى الكامل عن العمل والخدمة التي أُنجزت، هو بنفسه تقديرٌ وثناء؛ وذلك لأنّ الشكر والثناء هو بمعنى التوجّه، والتذكّر، والتفكير بالنعمة، وإبرازها وإظهارها أيضًا، وكذلك بمعنى إدراك ومعرفة النعمة التي مُنحت للإنسان وبيان تلك النعمة ونشرها أيضًا[4]. وفي مقابل ذلك، فكلمة الكفر والكفران بمعنى نسيان النعمة وكذلك سترها[5].

على أنّ أنواع التقديرات والامتنانات مختلفة وهي ذات مراتب؛ فأغلب الأفراد، مثلنا نحن الذين في مراتب المعرفة الأولى، نتوجّه في الأدعية وفي مقام الحمد والتقدير الإلهي إلى النعم المادية والدنيوية. والسبب هو أنّنا ندرك في البداية احتياجاتنا المادية ونشعر بالصَغار أمام كلّ من يرفع لنا احتياجاتنا المادية. ولهذا اللحاظ نتوجّه في البداية إلى نعم الله تعالى المادية ونتعرّف عليه من خلال هذا النوع من نعمه؛ تمامًا مثل المولود الذي يشعر بعد ولادته بالجوع والعطش في البداية، ثمّ يشعر شيئًا فشيئًا باحتياجاتٍ ترتبط هي الأخرى بالماديات وبأعضاء الجسد بشكلٍ أو بآخر. هذا الشعور بالاحتياجات الابتدائية يبقى حيًّا في الإنسان بعد سنوات، وحتى في السنوات الأعلى وفي سنيّ الشيخوخة أيضًا يبقى لديه هذا التوجّه إلى هذا النوع من الاحتياجات المادية. إنّ طلباتنا التي نطلبها من الله تعالى في قالب الدعاء هي غالبًا من هذا السنخ؛ طلبات من قبيل الرزق الواسع، والأمن، والماء والغذاء الوافر والمناسب وما شاكل. أو ما هو أعلى قليلًا من هذه الموارد؛ مثل المكانة الاجتماعية، أو العزّة والاحترام، أو الحيثية والجاه. هذه الموارد والأمثلة غير المعدودة من هذا السنخ إنّما هي مؤشرٌ على الاحتياجات التي تحضر عندنا وتشكّل أولويةً لنا.

وطبعًا، إحساس الاحتياج إلى النعم المعنوية الخالصة والروحانية المحضة، هو كذلك موجودٌ في الإنسان بحسب الفطرة، غير أنّ أكثر الناس لا يرون هذا الإحساس في الأولويّة بل يأتي توجّههم إليه وطلبهم إيّاه في مراتب أكثر تأخّرًا من الاحتياجات المادية. وأحيانًا يشتبه الأمر عند بعض النّاس إلى حدّ طرح السؤال التالي: هل يحتاج الإنسان أساسًا إلى هذا السنخ من النعم غير المادية حتى يتوجّه إليها ويطلبها ومن ثمّ يقدّرها ويؤدّي شكرها إذا ما شملته العناية الإلهية؟

ولهذا السبب، فإنّ كثيرًا من الناس لا يعتبرون أمورًا مثل الصلاة، أو صوم شهر رمضان المبارك أو ما شابه، نعمةً يشعرون بحاجتهم إليها؛ بل يعتبرونها نوعًا من الواجب والتكليف ويشعرون في أدائها بالتّكلّف والمشقّة، ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾[6].

إقامة الصلاة التي لا تستغرق أكثر من دقائق معدودة، ولا تتسبّب للإنسان بذلك التعب الذي يُذكَر؛ تصبح عند بعض الأشخاص مثل حملٍ ثقيل على كاهلهم، وهذا بسبب أنّهم ابتعدوا عن المعنويّات، وأساسًا فإنّ أداء العبادات لا يستتبع لذّةً عندهم ولا يرون له أهمّية. ولهذا السبب فهم لا يشعرون بأنّ الصلاة نعمةٌ كبرى حتى يروا أنّ من اللازم أن يؤدّوا الشكر والحمد في مقابلها. نعم يبقى أن الإنسان إذا شمله لطف الله وعنايته فإنّه يجد في نفسه حالةً من الخشوع الذي يبعث فيه السرور واللّذة، ما يهيّئ الأرضية لتعلّق الإنسان بالعبادات، ومن جملتها الصلاة.

هذه المسألة تنطبق كذلك على سائر العبادات؛ من قبيل الصوم. فما لم تحيا لدى الإنسان الرغبة في العبادات، فلن يعتبر هذه العبادات والمناسك نعمةً يرى من اللازم أن يؤدّي الشكر والثناء في مقابلها، وليس هذا فحسب؛ بل سيشعر بأنّها حملٌ ثقيلٌ على كاهله يصعب عليه تحمّله. وإنّه لمن دواعي السرور أنّ رواج بعض العادات الاجتماعيّة الدينيّة قد أدّى إلى رواج عباداتٍ من قبيل الصلاة والصوم، الأمر الذي أدّى في النتيجة إلى تسهيل أداء تلك العبادات.

اللهمّ ثمة عددٌ من عباد الله الذين وصلوا إلى مراتب أعلى من المعرفة، حيث يتوجّه هؤلاء إلى الأمور المعنوية أكثر من المسائل المادية؛ على أنّ قلّة توجّه هذه الفئة إلى المسائل المادية لا يعني أنّهم يعتقدون بأن ليس لها أيّ قيمة؛ بل يرون أنّ الماديات نعمٌ قيّمة يعتبرون أنفسهم مدينين في مقابلها، وبالتالي يعتبرون أن شكرها لازمٌ وواجب عليهم، ولكن يبقى أنّ هذه الأمور عند مقارنتها بالنعم المعنوية إنّما تحظى عندهم بدرجة أهمية أقلّ منها.

ومن جملة النعم المعنوية التي يشير إليها الإمام زين العابدين (عليه السلام) في هذا الدعاء ويأتي على حمدها وشكرها: نعمة شهر رمضان المبارك وبَحر النعم التي جعلها الله لعباده في هذا الشهر. إن شهر رمضان المبارك هو أحد أثمن النعم على مدار العام، وفي هذا الشهر ليلة القدر التي هي أفضل من ألف ليلة، أي ما يعادل تقريبًا عمر إنسان بتمامه. هذه الفرصة الاستثنائية والفضيلة العظيمة، والتي جُعِلت لليلة واحدةٍ فقط، لها أهمية فائقة لا يمكن مقارنتها مع أيّ عبادةٍ أخرى. كما إنّ درك ذلك وفهمه يختصّ بعدّةٍ قليلةٍ من عباد الله، هي نفسها تلك العدّة القليلة التي، حسب ما ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم، تتوفّق لشكره: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[7].

 

[1]  الذي يُترجم في الفارسية إلى “ستايش”.

[2]  “والحمد هو الثناء بالجميل على قصد التعظيم والتبجيل للممدوح، سواء النعمة وغيرها، والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعمًا، سواء كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان… فالحمد أعمّ من جهة المتعلّق وأخصّ من جهة المورد، والشكر بالعكس” (فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، كلمة “حمد”).

[3] يعتبر بعضهم أنّ الحمد والشكر مترادفان، فيما ذهب بعضهم إلى أنّ للحمد، من الجهتَين، معنًى أوسع من الشكر، معتقدين بأنّ الشكر إنّما يتحقّق فقط في الحالات التي تكون مقابل النعمة والإحسان، في حين أنّ الحمد ليس له هذا القيد: “الشكر الحمد، بل هو أعمّ منه، فإنّ الشكر لا يكون إلّا في مقابل نعمة، أمّا الحمد فيكون في مقابل نعمةٍ أو غيرها، حيث يقال: شكرًا للصنيعة أو ابتداءً للثناء على المحمود. فكلّ شكر حمد وليس كلّ حمدٍ شكرًا” (أبو القاسم الحسين بن محمّد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 131). وقد أشار إلى ذلك بعض اللغويّين مثل ابن منظور، حيث يقول: “الْحَمْدُ يَكُونُ عَنْ يَدٍ وَعَنْ غَيْرِ يَدٍ، وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلا عَنْ يَدٍ” (أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، كلمة الشكر).

[4]  “عرفان الإحسان ونشره” (أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، كلمة الشكر).

[5] “في اللغة: تصوّر النعمة وإظهارها، ويضادّها الكفر؛ وهو نسيان النعمة وسترها. أصله من عينٍ شكرى أي ممتلئة. فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه” (أبو القاسم الحسين بن محمّد الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 265).

[6]  سورة البقرة، الآية 45.

[7]  ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾، سورة سبأ، الآية 13.

 

**من كتاب زاد اللقاء الصادر عن دار المعارف الحكمية



المقالات المرتبطة

التوحيد والإلحاد في التوحيد

العمل الصالح لا يكون ذا قيمة ومؤثّرًا في إيصال الإنسان إلى السعادة إلّا إذا كان مستندًا إلى الإيمان؛ بل أكثر من ذلك، العمل الصالح أساسًا لا يجعل الإنسان سعيدًا إلا حينما يؤدّي إلى تقوية إيمان الإنسان ورفع درجاته: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾.

ساحة الرحمة لها باب اسمه التوبة

تتمثّل الخاصّية العجيبة لهذه الساحة في غفران كافّة ذنوب العاصي عند دخولها؛ ولو كان قد لوّث روحه وجسده بالعصيان لمائة سنة؛ والأرقى من ذلك أنّ كلّ هذه المعاصي سوف تُستبدل بالحسنات، كما جاء في القرآن الكريم: ﴿يُبَدِّلُ‏ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾

خير ليلة في خير شهر

إنّ الوجه في عظمة هذه الليلة يتمثّل في نزول هذا الكتاب الشريف والعظيم فيها، بملاحظة أنّ القرآن كلام الله تعالى، وتجسّم للعلم الإلهيّ، ووسيلة لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة؛ أفهل يُمكن أن يوجد شيء يحظى بكلّ هذا الفضل والعظمة؟

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<