إضاءات فكريّة حول القضيّة المهدويّة

إضاءات فكريّة حول القضيّة المهدويّة

إنّ قضيّة المصلح العالمي أو المخلِّص الأممي هي قضيّة إنسانيّة قبل أن تكون دينيّة، هي عنوان ٌعامٌّ لطموحٍ مشروعٍ يتّسم بالرقيّ والسموّ تتّجه إليه اليشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها وانتماءاتها.

هي تمظهرٌ وتجلٍّ لفطرةٍ ملهَمة أدركت أنّ هذه البشريّة المتعبة والمرهَقة التي عانت على مرّ التاريخ تقلّباتٍ ومدٍّ وجزر يحقُّ لها أن تستريح بعد كلّ هذا الأنين والعناء، وتنبّأت أيضًا بأنَّ يومًا موعودًا سوف يأتي لكي تتحقّق فيه رسالات السماء بمعانيها ومغازيها ومآلاتها.

إنّ هذا الإيمان وإن كان يتمظهر بشكلٍ أوضح في الأديان الإبراهيميّة  فنجد (المهدي) في الإسلام، و(المسيح) في المسيحيّة، و(المشيحا) في اليهوديّة باعتبار أنّ الدين يدعم هذا الشعور النفسي العامّ ويرفده بالروافد الفكريّة والمعنويّة، بل يعطي الفكرة زخمًا جديدًا، ويجعل منها مصدرًا للعطاء والقوّة[1]، إلّا أنّ هذه الفكرة نجدها حتّى في أكثر الأيديولوجيّات ماديّةً، فهذه الماديّة التاريخيّة أو الجدليّة التي فسّرت التاريخ والمستقبل على أساس مبدأ التناقض تعتقد بأنّه سوف يأتي اليوم الموعود الذي يزول فيه كلّ تناقض ويحلّ الوئام والسلام.

إنّ هذا البعد الشامل والفطري للمهدويّة لا يلغي ضرورة البحث عن تفاصيلها ومعطياتها وفق كلّ منظومةٍ فكريّة أو دينيّة، من هنا قد تطرح على ذهن المتّأمّل عدّة تساؤلات مرتبطة بالمهدي خصوصًا في الرؤية الإسلاميّة العامّة، أو الإماميّة الخاصّة، ومن هذه الأسئلة المشروعة:

1.كيف ننتفع بهذا الإمام؟ أين يعيش؟ هل يعيش بيننا؟

  1. هل يمكن رؤيته في غيبته، وإذا كان ممكنًا هل رآه أحدهم؟
  2. ما هي مواصفاته الشخصيّة؟ هل له أولادٌ وزوجةٌ وذريّة أم يعيش وحيدًا؟
  3. متى سيظهر، هل يعرف أحدٌ ذلك، وهل حدّده لنا الأئمّة (ع) بالوقت، وهل يجوز لنا أصلًا التوقيت؟

أوّلًا: الإضاءة الأولى:كيف يمكن الانتفاع بالإمام المهدي(عج) في غيبته؟ وكيف نعيش اليوم من دون إمامٍ ظاهر؟

لقد أقام المسلمون، وخصوصًا الإماميّة، عدّة أدلّة على ضرورة وجود إمام في كلّ عصر، وهذه الأدلّة عقليّة ونقليّة، وأهمّها دليل اللطف، بالإضافة إلى عدّة طوائف من الآيات والروايات تثبت ذلك، حيث بينّت الآيات القرآنيّة ضرورة وجود إمامٍ وهادٍ في كلّ زمان، ومن هذه الآيات:

  1. آية الإنذار والهداية[2].
  2. آية الصادقين[3].

وكذلك بيّنت طوائف من الروايات ضرورة وجود الحجّة في كلّ زمان، منها:

  1. الطائفة الاُولى: روايات “لا تخلو الأرض من حجة”[4].
  2. الطائفة الثانية: روايات “مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة”[5].
  3. الطائفة الثالثة: حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين[6].

ولقد فصّلت كتب العقائد الشيعيّة كيفيّة الاستدلال بهذه الأدلّة، فبالتالي إنّ الإمام(ع) وإن كان غائبًا ولكنّه موجودٌ، كما أنّ سبب غيبته الأساسيّ يعود إلى المجتمع والناس، فهم حرموا أنفسهم من وجوده المبارك المباشر، فعليهم أن يظهروا حتّى يظهر، كما يعبّر الشيخ الطوسي في التجريد: “وجوده لطف، وتصرفه لطف آخر، وغيبته منّا”[7].

أمّا وجه الانتفاع به في غيبته، فقد أجاب عنه النبي (ص) وأهل البيت(ع):

قال النبي ردًّا على سؤال أنّ الشيعة هل تنتفع بالقائم في غيبته؟ قال: إي والذي بعثني بالنبوة إنّهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن جلّلها السحاب.[8]

وتوضيحًا لهذا التشبيه يجب أن نؤكّد على أنّ للشمس إضاءتين: إضاءة مباشرة، وإضاءة غير مباشرة، ففي الأُولى تبدو أشعة الشمس مرئية واضحة، ولكن في الثانية يصبح السحاب مثل زجاجة داكنة تحجب ضوء الشمس المباشر فينتشر فيه، غير أنّ آثار الشمس الحيوية في نمو الموجودات لا تختص بالوقت الذي يكون فيه ضوؤها يشع على عالم الطبيعة مباشرة فقط، بل إنّ كثيرًا من هذه الآثار كحدوث الحرارة ونمو النباتات وتوليد الطاقة اللازمة للحركة والحياة وإثمار الأشجار وتفتح الأزهار تظل موجودة والشمس محجوبة وراء السحاب، ولأشعة وجود الإمام الروحية عندما تكون محجوبة بغيوم الغيبة آثار مختلفة تبيّن فلسفته الوجودية على الرغم من توقّف دروسه التربوية والتعليمية وقيادته المباشرة.

إنّ الإمام طبقًا للرؤية الإسلاميّة هو روح العالم؛ فالعالم متوقف عليه، فهو قلب عالم الوجود، ونواة الوجود المركزية، والواسطة في الفيض بين العالم وخالقه. من هنا، فإنّ حضوره وغيبته سيان، ولو لم يكن في هذا العالم ولو مجهولًا لتلاشى عالم الوجود؛ كما قال الإمام الصادق (ع): “لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت بأهلها”[9].

ثانيًا: الإضاءة الثانية: هل يمكن رؤية الإمام (عج) في غيبته، وإذا كان ممكنًا هل رآه أحدهم؟

اختلف العلماء في كون غيبة الإمام (ع) هل هي غيبة شخصٍ أم غيبة عنوان، والأغلب يذهب إلى كونها غيبة عنوانٍ وليست غيبة شخصٍ، والفرق بينهما أنّ غيبة الشخص تعني أنّ الإمام غائبٌ كليًّا لا يمكن أن يُرى أبدًا، أمّا غيبة العنوان فتعني أنّه يُرى ولكن دون أن يُعرَف إلّا ممّن يريد له الإمام أن يعرِفَه فـ “هو حيٌّ موجودٌ يحِلُّ ويرتحِل ويطوف في الأرض”، كما يعبِّر الشيخ الإربلي في كشف الغمّة[10].

وقد صرّحت بذلك طائفة من الروايات الشريفة الموجودة في أمّهات الكتب المعنيّة بالغيبة ككتاب”الغيبة للشيخ النعماني”، و”الغيبة للطوسي”، و”كمال الدين و تمام النعمة” للشيخ الصدوق، وكذلك في الكتب الحديثيّة العامّة ككتاب “من لا يحضره الفقيه”، “الكافي”، و”دلائل الإمامة” للطبري، أذكر منها على سبيل المثال ما يرويه الشيخ الصدوق “والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلَّ سنةٍ، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه” [11].

فبالتالي الرؤية ممكنة بل حاصلة بناءً على هذا المبنى، نعم معرفة بأنّ المرئيّ هو الإمام غير حاصلةٍ لكلّ أحد،  فنجد كثيرًا من روايات الرؤية تصرّح بأنّ من رآه عرفه بعد اختفائه وغيبته عن ناظريه، إلّا أنّ بعضها يشير إلى أنّ الرائي قد عرفه (ع) وحاوره وسأله عن بعض المسائل.

وهي مروِيةٌ عن جمعٍ كثيرٍ من الثقات الأبرار من المتقدمين والمتأخرين أمثال (محمّد بن جعفر بن قولويه)، و(السيّد ابن طاووس)، و(السيّد بحر العلوم) وغيرهم، ويمكن لمن أراد المزيد  من قصص الرؤية  مراجعة الجزأين 52و53 من بحار الأنوار للعلّامة المجلسي(رض).

نعم قد ورد في التوقيع الشريف الوارد لعلي بن محمد السمري: “ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذَّابٌ مفترٍ” [12]، حيث نجد أنّ البعض تردّد في إمكانيّة الرؤية في عصر الغيبة استنادًا إليه بالرغم من الروايات المتضافرة عن العلماء في حصول الرؤية.

والجواب عن هذه الإشكاليّة يتمّ عبر عدّة نقاط:

  1. إنّ هذا الفهم للتوقيع الشريف ناتِجٌ عن عزل هذا المقطع منه عمّا قبله وقراءته قراءةً تجزيئيّة، إذ إنّ القراءة الكاملة للتوقيع وسياقه والغاية منه تُظهِر أنَّ الإمام في صددِ إعلان انتهاء الغيبة الصغرى حيث أخبر سفيره الرابع بأنّه ميّتٌ إلى ستّة أيّام، وبأنّ الغيبة الكبرى قد بدأت، وبأنّ نظام الوكلاء المنصوبين من قبله أو”نظام السفارة” قد انتهى.
  2. يعقّب الإمام على كلّ ذلك بتكذيب من يدّعي المشاهدة، فمن كلّ هذا السياق نفهم أنّ المقصود بالمشاهدة الوكالة الظاهريّة وتشكيل حلقة الارتباط بين الإمام والأمّة خصوصًا أنّ الإمام قد أمر سفيره الرابع بأن لا ينصّب أحدًا بعده.
  3. يذكر الإمام في نصّ التوقيع “سيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة”، وكذلك يربط التكذيب لمدّعيها بالسفياني والصيحة، وهما من العلامات الحتميّة التي تسبق خروجه بفترة قليلة، فبالتالي نفهم أنّ الإمام بصدد تحذير شيعته من الأدعياء المنحرفين الذين  يسعون لخداع الأمّة عبر ادّعاء الارتباط بالإمام، خاصّةً إذا ضممنا لذلك الواقع التاريخي الذي يشهد بأنّ أغلب مدّعي السفارة هم من الكذّابين الدجّالين المفترين وأصحاب المطامع، ومعظم مدّعي الرؤية هم من العلماء الثقاة الممدوحين.
  4. إنّ هذا الفهم لا ينفي أن يلتقي الإمام بالمؤمنين في الغيبة الكبرى دون أن يعرَّفهم بهويّته أو يشرط عليهم الكتمان وعدم إخبار أحد إلا عدد قليل من ثقات المؤمنين، ولا يصدق على ذلك عنوان “الإدِّعاء”.
  5. لقد تصدّى عدد من العلماء المتقدّمين والمتأخّرين لدحض الاستدلال بهذا التوقيع على نفي الالتقاء بالإمام (ع) في غيبته الكبرى، ولعلّ الردّ الأجمع في هذا المقام هو ما أورده السيّد محمّد الصدر في كتابه تأريخ الغيبة الكبرى[13].

ثالثًا: الإضاءة الثالثة: ما هي مواصفات الإمام المهدي(عج) الشخصيّة؟ هل له أولادٌ وزوجةٌ وذريّة أم يعيش وحيداً؟

  1. المواصفات الشخصيّة للإمام المهدي(عج).

إنّ المتأمّل في الروايات الشيعيّة والسنيّة يجدها تشير إلى عدّة صفاتٍ جسديّة للإمام (ع) أهمّها: “يبدو كأنه ابن أربعين أو أقلّ، أسمر اللون، أزجّ الحاجبين (دقيقتان وطويلتان)، جسمه ضخم متناسق الأعضاء، لونه لون عربي (أبيض اللون مشرب بحمرة) وتعني السمرة، كأنه الكوكب الدري، شاب مربوع متوسط الطول. على خده الأيمن خال، أجلى الجبين (الظاهر والواضح) غائر العينين أكحلها، أقنى الأنف (إذا ارتفع وسط قصبته وضاق منخره) أشمّ الأنف، أفرق الأسنان (مفلج الأسنان متباعدة فيما بينها)؛ أي أفلج الثنايا، برّاق الثنايا (أبيض الأسنان).

عريض ما بين المنكبين عظيم مشاش المنكبين (المشاش: رؤوس العظام)، وبرأسه شامة وبين كتفيه من جانبه الأيسر تحت كتفه له شامتان، بظهره شامة على لون جلده وشامة تشبه شامة النبي(ص)، ضخم البطن، أذيل الفخذين (طويلان كما أنهما عريضتان)، بفخذه اليمنى شامة، نور وجهه يعلو سواد لحيته ورأسه، يسيل شعره على منكبيه، عليه عباءتان قطوانيتان (من القطن)، يظهر وعلى رأسه غمامة تظلّه من الشمس تدور معه حيثما دار”[14].

  1. هل للإمام ذريّة وأولاد؟

إنّ السياق الطبيعي لحياة أيّ شخصٍ هو أن يتزوّج ويُنجِب الأولاد، فكيف إذا كان الإمام المعصوم (ع) مع ما ورد في الشريعة من الحثّ على النكاح واستحبابه، إلّا أنّه قد يكون هناك عوامل معيّنة تمنع الإمام (ع) من ذلك متعلِّقة بضرورات التخفّي والاستتار.

أمّا بالنسبة للروايات والآثار، فبالرغم من وجود بعض الروايات والزيارات التي يظهر منها أنّ للإمام (ع) ذريّة وأولاد، إلّا أنّها لا تثبت الموضوع بشكلٍ قطعِيٍّ لا يرقى إليه الشكّ والريب.

ومن هذه الروايات التي قد يُستدَلُّ بها على وجود الزوجة والأولاد:

  1. روى الشيخ الطوسي في الغيبة بسنده عن المفضل بن عمر، عن الإمام الصادق (ع) رواية جاء فيها: “… لا يطّلع على موضعه أحد من وَلَدِه ولا غيره، إلاّ المولى الذي يلي أمره” [15]، وقد يُفهم من لفظة “ولده” أن للإمام (ع) أولاد.

لكن لا يصح الاستدلال بهذه الرواية والاستناد إليها في إثبات الأولاد للإمام المهدي (عجّ)، وذلك لأن الشيخ محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني، والذي هو من علماء القرن الثالث الهجري، قد رَوى نفس هذه الرواية، لكن جاء فيها: “لا يطّلع على موضعه أحد من ولي، ولا غيره”، فترى أن لفظة “ولده” التي هي محل الشاهد ليست موجودة فيها، فمع اتحاد الروايتين عند الشيخين الطوسي والنعماني، ووجود هذا الاختلاف فيما هو محل الشاهد، فإن الرواية تسقط عن صلاحية الاستدلال بها.

لكننا حتى لو سلّمنا بصحة هذه الرواية واعتمدنا عليها، فإن الرواية ليس فيها ما يدلّ على زمان وجود الأولاد للإمام (ع)، فقد يكون المقصود أنه سيولد له (ع) من غير تحديد لزمن معين، ولربما يكون له أولاد لكن بعد مضي قرون من الزمن.

  1. 2. قصة الجزيرة الخضراء.

وهذه القصة ممَّا يحاول البعض الاستدلال بها في إثبات الزوجة والأولاد للإمام المهدي (ع)، وقد ازداد الاهتمام بأمرها بعد محاولات عديدة صدرت من البعض لإظهار صحّة هذه القصة وواقعيتها وانطباقها على ما ذكرته بعض الجرائد والمجَّلات والإذاعات بالنسبة إلى ما يسمى بـ “مثلث برمودا” المعروف.

وهذه القصّة عليها الكثير من الملاحظات والمآخذ باعتبار أنَّ المصدر الموثوق الوحيد الذي سبق بقية المصادر في نقل هذه القصّة هو كتاب بحار الأنوار للعلامة المجلسي (قدَّس الله نفسه الزَّكية) فهو أوّل من نقل هذه القصّة، قال العلامة المجلسي (رحمه الله) عند نقله لهذه القصة: “أقول وجدت رسالة مشتهرة بقصة الجزيرة الخضراء في البحر الأبيض أحببت إيرادها لاشتمالها على ذكر من رآه، ولما فيه من الغرائب، وأني أفردت لها بابًا لأني لم أظفر بها في الأصول المعتبرة”[16].

إنّ هذه القصّة المشتملة على لقاءات للإمام (ع) ببعض الأشخاص وأنّهم رأوه مع أولادٍ له وزوجة فيها الكثير من التناقضات الداخليّة التي تدعو للشكّ بها[17].

أمّا بالنسبة للأدعية والزيارات التي قد يُستشَفّ منها وجود الذريّة فلدينا:

  1. في زيارة الإمام الحجّة (عج)، (الزيارة الرابعة في مفاتيح الجنان) “اَللّـهُمَّ اَعْطِهِ في نَفْسِهِ وَاَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَاُمَّتِهِ، وَجَميعِ رَعِيَّتِهِ ما تُقِرُّ بِهِ عَيْنَهُ، وَتَسُرُّ بِهِ نَفْسَهُ” وفي آخرها “اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى وُلاةِ عَهْدِهِ، وَالاْئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَلِّغْهُمْ آمالَهُمْ وَزِدْ في آجالِهِمْ”
  2. في مصباح الكفعمي وجمال الأسبوع: “اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى وَلِيِّكَ، وَوُلاةِ عَهْدِهِ، وَالاْئِمَّةِ مِنْ وُلْدِهِ، وَمُدَّ في اَعْمارِهِمْ، وَزِدْ في آجالِهِمْ”.

وغيرها من الأدعية والزيارات المشعِرة بوجود الذريّة والأولاد.

وصفوة القول في المقام إنّه لا يمكن الاستناد إلى ما مرّ من النصوص والروايات لإثبات وجود الذريّة والأولاد بشكلٍ قطعِيّ وفي الحال والوقت الحاضر للإمام (ع)، إلا أننا لا نستبعد وجود ذلك للإمام أيضًا، إذ ليس هناك مانع عقلي أو شرعي، غير أن ظروف الغيبة وفلسفتها وضرورة الحفاظ على الإمام تستدعي عدم انكشاف أمره (ع)، ولعل وجود الزوجة والأولاد يُعدّ عادةً من أسباب انكشاف أمر الإمام (ع) لمن يعاشرونه، ثمّ إننّا لسنا مكلّفين إلا بالاعتقاد بولايته ووجوده لا أكثر ولا أقل.

رابعًا: الإضاءة الرابعة: متى سيظهر، هل يعرف أحدٌ ذلك، وهل حدّده لنا الأئمّة (ع) بالوقت، وهل يجوز لنا أصلًا التوقيت؟

لقد ذكرت الروايات الشريفة أنه لم يؤذن لأهل البيت (ع) بإظهار التحديد والتعيين الدقيق بالتاريخ التفصيلي للظهور، يعني باليوم والشهر والسنة المعيّنة، بل عبّرت بأنّه لا يعلمه أحدٌ إلا الله تعالى، وأنّ تحديده يعتبر من التوقيت الذي يستلزم التكذيب.

فقد ورد في التوقيع الشريف، الذي نقله الشيخ الصدوق عن محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: سمعت أبا علي محمد بن همام يقول:… وكتبت أسأله عن الفرج متى يكون؟ فخرج إلي: كذب الوقّاتون[18]. وعن محمد بن مسلم، قال: قال أبو عبد الله (ع): يا محمد، من أخبرك عنّا توقيتًا فلا تهابنّ أن تكذبه، فإنا لا نوقّت لأحد وقتًا”[19]. نعم قد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) إلى اليوم والسنة للظهور المبارك، ولكن من دون تعيينٍ تفصيليّ بالتاريخ المحدّد والتوقيت الدقيق لليوم والشهر والسنة، ومن هذه الروايات:

  1. الرواية الأولى: عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: “لا يخرج القائم إلا في وتر من السنين، تسع وثلاث وخمس وإحدى”[20].

والموجود في هذه الرواية ليس فيه التوقيت المنهي عنه، ولا تذكر أكثر من أن الإمام يخرج في سنة فرديّة لا زوجيّة مع إهمال كون المقصود هي السنة الشمسية أم القمرية.

  1. الرواية الثانية: عن أبي عبد الله (ع) قال: ويخرج قائمنا أهل البيت يوم الجمعة[21]. وكذلك ورد في زيارته (عج) يوم الجمعة: “يا مولاي يا صاحب الزمان، صلوات الله عليك وعلى آل بيتك، هذا يوم الجمعة وهو يومك المتوقع فيه ظهورك والفرج فيه للمؤمنين على يدك”[22].

وهذه الرواية وإنْ ذكرت أنَّ ظهوره يكون يوم الجمعة، ولكنها لم تحدد أي جمعة من أي شهر أو من أي سنة، بل فقط تذكر أن ظهوره سيكون في هذا اليوم، وهذا ليس من التوقيت كما هو واضح.

وكذلك أشارت الروايات إلى محوريّة العلامات لمعرفة الظهور المبارك، حيث نجد الروايات أشارت إلى بعض العلامات التي تسبق المهدي وتشير إلى بعض آخر تظهر مع المهدي (ع).

أمّا لماذا لم يتمّ التحديد الدقيق والتوقيت في روايات أهل البيت (ع)، بل ورد النهي عنه، ووصف فاعليه بالكذب، فيمكن استنتاج بعض الحكم من ذلك:

  1. إنّ وقت ظهور الإمام خاضع للإرادة الإلهية، وانتظار الإذن من الله له (عج) بالظهور، وعليه فإنَّ تحديد أو تعيين أيَّ توقيتٍ يعتبر جزافًا ومن غير أي دليل، كما أنَّ ظاهر الكثير من الروايات أنَّ وقت اليوم الموعود موكولٌ إلى علم الله، مع الغموض التام بالنسبة إلى الناس، بل ظاهر بعض الروايات أنه خفي حتى على المعصومين أنفسهم، ومن هنا يكون تحديد أي تاريخ معّين لظهوره (ع) جزافًا محضًا وكذبًا صريحًا.
  2. تحديد وقت الظهور يتعارض مع فلسفة الانتظار، ويؤدي إلى يأس وقنوط الأمّة.
  3. قد يؤدّي تحديد وقت الظهور إلى فشل حركة الإمام المنتظر (ع) في بداية ظهورها.
  4. إنّ تحديد وقت الظهور يتعارض مع سنن الله في مسألة التمحيص والتمهيد، وما سمّته الروايات بالابتلاء والغربلة بحيث لا يبقى إلّا الأندَر.

الخاتمة.

لقد توصّلت في هذه المقالة إلى النتائج التالية:

  1. إنّ الإمام المهدي (عج) موجودٌ، ووجوده ضروريّ للناس وللكون، بل لولاه لساخت الأرض بأهلها، فهو روح العالم وواسطة الفيض، والسبب المتّصل بين الأرض والسماء بالإضافة إلى آثارٍ أخرى وانتفاعاتٍ جمّة.
  2. إنّ غيبة الإمام (عج) على الأرجح هي غيبة عنوان، فبالتالي قد نراه ولا نعرفه، وهو يرانا ويعرفنا، ويحضر المواسم، وما يظهر من بعض الأحاديث من نفيٍ للرؤية لا بدّ من تأويله.
  3. لقد حدّدت الروايات المواصفات الشخصيّة للإمام، وقد يكون له ذريّة وأولاد، ولكن لا دليل قطعيّ على ذلك.
  4. إنّ التوقيت الدقيق والتفصيليّ للظهور قد تمّ النهي عنه، ووُصِفَ صاحبه بالكذب، نعم لا مانع من التوقيت غير التفصيلي باليوم والشهر والسنة، ولهذا النهي من قبل الأئمّة (ع) فوائد متعدّدة في عمليّة الانتظار الإيجابي.

[1] راجع، محمد باقر الصدر، بحث حول المهدي، الصفحات 7-12.

[2] سورة الرعد، الآية7.

[3] سورة التوبة، الآية 119.

[4] راجع، الكافي: 1 / 177 / 2، الغيبة للنعماني: 137 / 2. عند الشيعة، وعند السنّة قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي(1/ 134).

[5]  المحاسن: الجزء 1، الصفحة 153، باب 22، حديث 78، الكافي: الجزء 1،  الصفحة 376 ، حديث 1 عند الشيعة، وعند السنّة الطبراني، الكبير: الجزء 10، الصفحة 350، حديث 10687.

[6]  من بين رواته عند السنّة كلّ من: صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود وابن ماجة، وخصائص النسائي، ومستدرك الحاكم، وذخائر الطبري، وحلية الأولياء، بالإضافة إلى الكثير من كتب التفسير: كالرازي والثعلبي.

[7]  العلامة الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الصفحات 490-492.

[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 52، الصفحة 193.

[9]  الشيخ الكليني، الكافي، الجزء 1، الصفحة 179.

[10]  علي بن عيسى الإربلي، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، (بيروت: دار الأضواء)، الجزء 3، الصفحة 248.

[11] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، الطبعة القديمة.

[12]  بحار الأنوار، الجزء 51، الصفحة 361، الخرائج ‏والجرائح، الجزء 3، الصفحة 1128، الغيبة للطوسي، الصفحة 395، كمال ‏الدين، الجزء2، الصفحة 516.

[13]  محمد صادق الصدر، تاريخ الغيبة الكبرى، الصفحات 639-654.

[14]  يمكن مراجعة هذه المصادر: أعلام الورى/435، والخرائج والجرائح: 3/1170، ومنتخب الأنوار /38، وإثبات الهداة: 3/722، والبحار: 285/52، كمال الدين 2/653، الغيبة للنعماني من 188 إلى 215.

[15] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، الجزء1، الصفحة 186.

[16] بحار الأنوار، الجزء 52، الصفحة 159.

[17] تاريخ الغيبة الكبرى  61 / 88 للسيّد محمّد الصدر، السيّد جعفر مرتضى دراسة في علامات الظهور والجزيرة الخضراء، الصفحة 217.

[18]  كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سابق، الصفحة 483، الباب 45، الحديث 3.

[19]  النعماني، كتاب الغيبة، الصفحة 300، الباب 16، الحديث3.

[20] الشيخ الطوسي، الغيبة، مصدر سابق، الصفحة 453/460 .

[21] الشيخ الصدوق، الخصال، الصفحة 394/101.

[22]  السيد ابن طاووس، جمال الأسبوع،  الصفحة 42.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
شهر شعبانالقضية المهدويةالإمام المهديّ

المقالات المرتبطة

لا إنسان من دون سؤال

مع افتتاح معهد المعارف الحكمية في ضاحية بيروت الجنوبية، أعاد الشيخ شفيق جرادي الحياة لاختصاصات علمية فلسفية إسلامية. جرادي الذي يرى أنّ الإنسان اضاع الفلسفة الحقيقية للأديان

الليبرالية بين التعريف والتطبيق

بما أن الليبرالية هي أيديولوجية، فقد ظهرت بعد عصر النهضة وأضحت أهم النحل الفكرية التي أنتجها الفكر البشري

قراءة في كتاب موحى الناجي، الإسلاموية: نظام شمولي جديد

يركّز هذا الكتاب بقلم مهدي مظفري، على العلاقة بين الإسلام ومشروع الإسلاموية السياسي. ويناقش فيه تعدد طوائف الإسلام ومدارسه وأنه لا إجماع على إسلامٍ “صحيح”،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<