القرآن الرسالة
هذه القلوب تتأهّب لقدوم شهر رمضان، والأرواح المؤمنة تتجهّز لاستقبال شهر القرآن الكريم، متلهّفةً لأيّام الله اشتياقًا بالمعشوق الأوحد عزّ وجل، إنَّ لهذا الشهر الكريم مكانةً خاصّة ومنزلةً رفيعةً لا تقارن بباقي الشهور، ففيه قد تنزّل كلام الله الفرقان الذي لا يعلو فوق كلامه أيُّ حرف أو أبجديّة، ونحن العباد ما حالنا إلّا أن نستقي من هذه المكرمة العظيمة التي تفضّل الله به علينا بصورة كلامه سبحانه وتعالى، ونسأله أن يكون دستورًا لنا في جميع الأمور. كما ورد عن أمير الكلام علي بن أبي طالب (ع): “وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاءُ الصّدور، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص، فإنّ العالم العامل بغير علمه، كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجّة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم”[1]. ما نفهمه من كلام الأمير أنَّ القرآن هو الصراط المستقيم، والوجهة الصحيحة لأيِّ عمل، اللهمَّ وفّقنا للعمل بقرآنك الكريم يا ربَّ العالمين.
إنَّ الله سبحانه وتعالى جعل من الشهر الفضيل محطّةَ إعلان وتنزيل للدساتير الإلهية. عن الإمام الصّادق (ع): “نزلت التوراة في ستّة مضت من شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثنتي عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ثماني عشرة من شهر رمضان، ونزل الفرقان في ليلة القدر”[2]، لذلك فإنّ لهذا الشهر قدسيّة لا تقارن بباقي الشهور، ففيه تقسم الأرزاق وتقدّر أمور العباد. ورد في خطبة الاستقبال لرسول الله (ص): “شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيّامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات”[3].
قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ﴾[4]، هدى للناس؛ أي أنّه منارة للعباد تضيء دربهم، وتبيّن لهم الحقَّ من الباطل. وقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[5].
بعد بيان أهمية القرآن الكريم ودوره كدستورٍ إلهي، ومصباحٍ يبيِّن لنا الحقَّ من الباطل، نقول إنّه طرح الكثير من المواضيع والأمور على الصّعيد الأخلاقي والعبادي، والمعاملاتي، والعقائدي، والقصصي، وبُنيت المنظومة الإسلاميّة على أساس ما ورد فيه، ولكن قبل كلِّ ذلك، علينا أن نعي جيّدًا معنى الدعوة، ومن هو المدعو، ومن هو الدّاعي، بعد ذلك يتبيّن لنا المنهج الصحيح الذي يمكن أن نعتمده في كافّة العناوين.
الدعوة وتبليغ الرسالة.
توجّه القرآن الكريم بهذا الشأن إلى فئتين:
الفئة الأولى: منهجها هو الدعاة والرسل والأنبياء “من الأنبياء إلى العلماء”.
الفئة الثّانية: هم المدعوّين، وهي الشريحة الموجّه إليها الخطاب الرسالي، والذين يكونون في دائرة الاستهداف الرّسالي، وهم العباد كافّة، ومنهم فئات كثيرة وأصحاب صفات متعدّدة، أمّا المنهج فله موضوع “موضوع الرسالة” والحديث عنها يطول لا يحتويها مقال، ولا نصوص صغيرة، أما ما نريد طرحه هو مسلك منهج الدعاة لرسالة الله عزّ وجل.
الدعاة (الرسل والأنبياء والعلماء).
الرسل هم أوّل من دعا إلى رسالة الله الأحد، وحملوا أثقالها على عواتقهم، وبذلوا المشاق والمتاعب، فصرفوا عمرهم بتبليغ رسالاته بشكل مباشر وعبر أفعالهم وأقوالهم وتأثيرهم الفعال في بيئتهم، وهم من الأنبياء إلى علمائنا في هذا الوقت ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾[6]، وما هم إلّا مبشّرين ومنذرين للقوم، وانحصر تبليغهم للرسالة ببيانها وإقامة الحجّة والدّليل على العباد والخلائق، ولم يوكل إليهم غير ذلك من هداية العباد، أمّا صفاتهم فقد اتّسمت بالصدق والأمانة، وكانوا خير هداةٍ للبشريّة، أمّا ما يختصُّ بمهامهم، فقد ورد الكثير من النصوص التي توضح لنا مهام الرسل ففي قوله تعالى: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[7]؛ تأتي هذه الآية الكريمة في سياقٍ قرآني يوضح للذين كذّبوا الرسول وبيّن لهم أنّ الرسل مهامهم أنّهم يبلّغون وينشرون الدين عن الله سبحانه لا من عندهم، فالله هو الهادي بلطفه وإحسانه، وهو الذي يضلُّ بعدله، وفي قوله سبحانه تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[8]، الآيات عند الله؛ أي أنّ الأمور موكولة إلى الله، ومن ثمّ قال: إنّما أنا نذير مبين، وهذا بيان لوظيفة الرسل الكرام.
واستمرّت فكرة الدعوة حتّى ما بعد غيبة إمامنا المهدي (عج)، والتي أصبحت موكولة إلى علمائنا الأشراف، ففي الأخبار عن أهل بيت محمّد (ص) وفيرة عن العلماء، ومنها كوصفهم أفضل العباد ومدادهم المرجّح على دماء الشهداء، ووصفهم بالأحياء في الحياة والآخرة، وجعلهم أمناء على خلقه. عن رسول الله (ص): “العلم وديعة الله في أرضه، والعلماء أمناؤه عليه فمن عمل بعلمه أدّى أمانته”[9]، أخيرًا نكون قد بيّنّا بشكلٍ مختصر عن الدعاة والرسل والأنبياء والعلماء.
المدعوّين (العباد).
لا تكتمل الدعوة إلّا بوجود أفراد يتلقّونها ويؤمنون بها، فالخطاب للّه سبحانه، والناقل لهذا الخطاب هم الرسل، والمخاطب هم المدعوّين، ولهذه الشريحة فئات ثلاث قد بيّنها الله سبحانه في سورة الحمد: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾[10]؛ الذين أنعم عليهم هم الذين آمنوا، والمغضوب عليهم والأخيرة هم الضّالون.
وهذا التقسيم محصورٌ في هذه الآية الكريمة، وأيضًا بيّن لنا القرآن الكريم فئات أخرى كالمنافقين والمشركين، ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[11]، وما أدرجناه هو صفاتهم، وعلى الرسل والأنبياء والعلماء معرفة واجبهم تجاههم، أمّا الكيفيّة فتكون في مسلك منهج الدعاة.
مسلك منهج الدعاة.
إنّ مسؤولية الداعي أن يختار المنهج السليم للدعوة، على أن يكون مبنيًّا بحسب الفئة التي يدعوها، فالمنهج الواحد لا يصلح لجميع الناس وإنّما المناهج تتعدّد بحسب طبائع الناس وتمييزهم للحق من الباطل، ففي القرآن مناهج مختلفة منها كيفيّة التعامل مع المسلمين ومع المشركين والمحاربين وهكذا، ففي قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾[12]، ثمّ عفى الله من هذه الطريقة فئة أخرى ففي قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾[13]، فهنا كان الفرق في المنهج بسبب اختلاف الفئة الأولى عن الفئة الثانية.
وهناك أمثلة أخرى عن مناهج الدعوة نبيّن ذلك في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾[14]، وهنا بيان آخر عن استخدام الحكمة والموعظة الحسنة.
خلاصة الأمر، إنّ القرآن الكريم وضع لنا منهجًا واضحًا للتعامل مع كافّة أصناف العباد، فعلى الدّاعي أن يتميّز باستخدام الطريقة الصحيحة النافعة لكلّ فئة، وكما يقال إنّ لكلّ مقامٍ مقال.
[1] نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، الجزء1، الصفحة 216.
[2] الفروع من الكافي، الجزء 4، الصفحة 19.
[3] خطبة الرسول الأكرم (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك.
[4] سورة البقرة، الآية 185.
[5] سورة المائدة، الآية 16.
[6] سورة النور، الآية 54.
[7] سورة الأنعام، الآية 48.
[8] سورة العنكبوت، الآية 50.
[9] ميزان الحكمة، حديث 13924.
[10] سورة الحمد، الآيتان 6 و 7.
[11] سورة البقرة، الآية 105.
[12] سورة النساء، الآية 89.
[13] سورة النساء، الآيتان 90 و 91.
[14]سورة النحل، الآية 125.
بارك الله جهودكم، و ان شاء الله ١نقرأ لك مواضيع اكثر و اكثر. ?♥️