المفهوم السياسي للحياد
المفهوم السياسي للحياد
إذا كانت العلاقات الدولية في مقاربتها الكلاسيكية، هي دراسة العلاقات بين الدول بطابعها القانوني، إلا أن الدراسات الحديثة طورت من هذا المفهوم إلى دراسة العلاقات بطابعها السوسيولوجي، لأنه لا يمكننا الاكتفاء بدراسة القواعد القانونية في المنتظم السياسي الدولي.
فأشخاص المجتمع الدولي، أشخاص متعدّدة متفاعلة فيما بينها، وتلعب دورًا بارزًا في تشكّل العلاقات الدولية، بصورة غير منسجمة حكمًا مع البعد الميتافيزيقي.
فالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، لها جذورها في المجتمعات الإنسانية، وخاصة الحدودية، حيث تخرج في إطار علاقاتها من البعد السياسي لهذه الدول إلى البعد الاجتماعي المتفاعل.
والعلاقات الدولية في جوهرها، هي نتيجة لتوازنات سياسية تعكس واقع المجتمع الدولي في مراحل تطوره.
ويأتي المفهوم السياسي للحياد من ضمن هذا المفهوم السوسيولوجي، كونه نمط تفاعل بين المجتمعات الإنسانية الحضارية، وليس بنتيجة واقع نظري ميتافيزيقي.
فالحياد السياسي من حيث التعريف، يقوم على تبنّي الدولة موقفًا يبعدها عن التكتّلات السياسية الدولية، وعدم الانحياز إلى كتلة من الكتل المتصارعة دوليًّا.
وتعتقد هذه الدول أن هذا المبدأ يأتي خدمة لمصالحها الوطنية، ويعزّز التعايش السلمي في داخل الدولة ومع جيرانها.
وبناء عليه، فإنّ هذه الدول التي اتبعت خيار الحياد، لا تشارك في مواجهات مسلّحة أو في حروب، انسجامًا مع قناعاتها بمبدأ الحياد الإيجابي.
تاريخيًّا، ظهر الحياد كمصطلح لأول مرة في القرن الرابع عشر، ثم ظهر في القرن السادس عشر، مع الفقيه “غروشيوس”، الذي أشار إلى إمكانية أن تلتزم دولة الحياد في حال قيام نزاع مسلّح.
ثم تمّ توقيع اتفاق “أوترخت” عام 1713 بين فرنسا وبريطانيا، يتناول الحياد في المنازعات المسلّحة البحرية.
وفي عام 1919، وقعت اتفاقية “فرنسا”، والتي أكّدت حياد دولة سويسرا.
ويوجد حاليًّا العديد من الدول المحايدة، مثل: إيرلندا، السويد، فنلندا، النمسا، سويسرا، مولدوفا، تركمانستان.
لكن الحياد في الواقع السوسيولوجي، يتطلّب شروطًا موضوعية تمكّن الدولة من أن تنحي الحيادية وأهمها:
- استقرار الدولة الداخلي، وأهمّها الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
- استقرار الدولة الخارجي، وخاصة عدم وجود منازعات حدودية، أو أيديولوجية مع أي دولة أخرى مجاورة.
فهل تتوفّر هذه الاستقرارات في الوضع اللبناني، كي نطلق عليه مقولة دولة حيادية؟
أ . في الاستقرار الداخلي:
1 . العنصر الثقافي.
يقوم المجتمع اللبناني على ثقافات متعدّدة غير متجانسة، لم تتمكن من وضع استقرار اجتماعي وطني صلب، بل كان دائمًا عبر تاريخه عرضة للتصدّع والانهيار.
فمنذ دولة الإمارة مع الأمير فخر الدين المعني، كانت ثقافة المحور مع إمارة توسكانة في وجه السلطنة العثمانية، وفي وجه معارضة الداخل.
ومع الأمير بشير الشهابي، كانت ثقافة المحور مع والي مصر “محمد علي” في وجه السلطنة العثمانية، وفي وجه معارضة الداخل.
ومع ضعف السلطنة العثمانية، نشأت ثقافة المحاور بين بعض الطوائف اللبنانية، وبين الدول الراعية لها، وهذا نموذج أسود في تاريخنا، ما زال بعضًا منه قائمًا حتى اللحظة.
ومع قيام الجمهورية اللبنانية، كانت ثقافة الأحلاف قائمة مع الغرب وفرنسا خصوصًا، مرورًا بحلف بغداد، وصولًا إلى حلف “بشير – شارون”، والتي لم تؤمّن استقرار للبنان، بل أدخلت ويلات إلى تاريخ وطن.
وفي إشكالية وطنية، لم يستطع المجتمع السياسي اللبناني بثقافاته المتعارضة، من وضع أسس استقرار الدولة، مما أعطى صفة نظام الدولة ما قبل الحديثة.
- العنصر الاقتصادي.
اعتمد لبنان في سياساته الاقتصادية، ومنذ تاريخ الجمهورية، على الاقتصاد الريعي؛ وهو اقتصاد مكمّل للاقتصاديات الحديثة، وليس اقتصاد أساسي لصنع استقرار للدول.
وبدخول منطقة الشرق الأوسط في حروب ونزاعات مسلّحة، محلية وإقليمية، تراجع الدور الاقتصادي الريعي، ومعه سقط الاستقرار الاقتصادي العامل الأساسي في وجود دولة حيادية.
فالاقتصاد القوي، يعطي الدولة القدرة على الاستقلالية وعدم التبعية التي تحتاجها الدول ذات الاقتصاد المتواضع، ويعطيها الموقعية في العلاقات الدولية انطلاقًا من مصالحها الوطنية والقومية.
وفي المثال اللبناني، حيث الاقتصاد الريعي قد فشل في خلق استقرار اقتصادي، أصبحت نظرية الحيادية السياسية، هي أبعد من أي وقت مضى عن التحقّق، في بلد مرتهن لمساعدات الدول الأخرى.
وحيث لا قدرات اقتصادية، لا استقلال فعلي، ولا حيادية محققة.
ب . في الاستقرار الخارجي.
1 . الصراع العربي الإسرائيلي.
إن القضية الفلسطينية، وما يدور معها من صراع على مستوي الشرق الأوسط، يحتّم على لبنان اتباع سياسة تنبع من مصالحه الوطنية والقومية، وهي تموضعه في المحور العربي في الصراع القائم.
لقد تعرّض لبنان ومنذ قيام كيان العدو الصهيوني، للعديد من الاعتداءات المتكررة، والتي تسبّبت في خسائر بشرية ومادية كبيرة، ولا يزال هذا التهديد بالعدوان قائم وفعلي.
ولم يمنع تموضع لبنان مع المحور الغربي، في منع أو لجم هذا العدوان، بل كان الغرب دائمًا يقف مع عدوان العدو.
إن وجود كيان مغتصب على الحدود اللبنانية الفلسطينية، هو عنصر قابل دائمًا لخلق نزاع مسلّح، ولا يمكن لدولة أن تكون محايدة، في ظل وجود صراع وجودي.
2 . الصراع الدولي في الشرق الأوسط.
إن صراع الإمبرياليات في الشرق الأوسط، والتي تتمحور حول استيلاب ثرواته الطبيعية، يحتّم وجود محاور في الصراع، متنوعة بين السلبي والإيجابي:
- السلبي هو ما يخدم مصلحة هذه الإمبرياليات.
- والإيجابي هو ما يخدم الدولة القومية الشرق أوسطية.
وفي الحالتين، لا بدّ من التموضع في محور يعطي الدولة طابع الدفاع عن ثرواتها وحقوقها ومصالحها.
ويأتي كذلك في الصراع الشرق أوسطي، مصلحة الأمن الإسرائيلي في المنظور الغربي، وهو من المسلّمات التي تأتي بعد مصالحها الاستراتيجية الاقتصادية، وهي غير قابلة للنقاش.
فكيف نوافق بين مصلحتنا الوطنية والقومية، ومع مصلحة الغرب في الأمن الإسرائيلي؟
وهل الحياد يعني عدم التصدّي للمحور الاستعماري؟
كيف نوافق على ما طرحه الاستعمار الأمريكي من رؤيته لحل القضية الفلسطينية، بما يعرف بصفقة القرن؟
وكيف نوافق على ما أعلنه من اعترافه بالقدس عاصمة الدولة الإسرائيلية؟
وكيف نكون دولة حيادية من مشاريع لا تمّت بصلة إلى أمننا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، في ظل أحادية قطبية متفلّتة من آلية المحاسبة القانونية الدولية؟
الدولة المحايدة كما تقدّم، تحتاج إلى استقرارات داخلية وخارجية، وهي غير متوفّرة في المثال اللبناني، مما يبعد مثال الحيادية السياسية عن واقعنا كونها نظرية مثالية غير منطقية.
وهنا نسأل التالي:
ما هي الطريقة المـُثلى في مواجهة المشاريع الاستعمارية، التي تهدّد استقلال أوطاننا ومستقبل شعوبنا؟
هل نواجه هذه المشاريع بمقوّمات دول منفردة، أم عبر محور موحّد متكامل يجمع طاقات وقدرات الدول المتضررة؟
الحقيقة، إن طرح مقولة الحياد السياسي، هو طرح غير واقعي، أو هو هروب من واجب التصدّي الوطني والقومي لما يواجه شعوبنا من هجمة استعمارية في ظل شرق أوسط متفجّر في الصراعات.
وعليه، هل يأتي طرح الحياد السياسي، لمصلحة شعوبنا، أم لمصلحة الأعداء؟