by الشيخ لبنان حسين الزين | أكتوبر 29, 2015 8:32 ص
تنطوي الزيارة، بوصفها نمطًا قوليًّا وممارسة عمليّة على أدبيّات تربويّة يتغيّاها الدين الإسلاميّ. ويظهر ذلك من خلال ما تحمله من دلالات معنويّة عالية وسامية في بيان نهج الحقّ ومواجهته للباطل في كلّ زمان ومكان، وما تمدّ به الزائر من قوّة ودافعيّة لمواصلة هذا النهج. ولعلّ التشجيع الوارد في النصوص الحديثيّة على زيارة قبور الأئمّة (ع) والأولياء الصالحين وشدّ الرحال إليهم: “لكلّ إمام عهد في عنق أَوليائه..، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقًا بما رغبوا فيه؛ كان أئمّتُهم شفعاءَهم يوم القيامة” ؛ إنّما مردّه إلى تشرّب الخطّ العمليّ للعقيدة الإسلاميّة وتمثّله؛ كما جسّدته هذه النماذج الصالحة، والاقتداء بسيرتهم العطرة التي قدّمت الإسلام في أبهى صوره ومظاهره، والتزمت بأصوله وقيمه وتشريعاته أتمّ التزام وأكمله؛ فأضحت منارات قدوائيّة تتجاوز أُطُر الزمان والمكان، لتلهم المسترشدين والسالكين في طريق الحقّ. ففي أدبيّات الزيارة نجد استحضارًا مباشرًا للمَزورين، ولسيرتهم الإيمانيّة القويمة التي تستحقّ الثناء؛ لأنّها نالت الاصطفاء الإلهيّ؛ بإخلاصها ورفعها لواء التوحيد، وهداية الناس إلى معالم الصراط المستقيم، والأخذ بيدهم في سلوكه، والتضحية والاستشهاد على هذا النهج. ليعبّر الزائر بذلك عن وفائه لهم، عبر مشاعر السلام والحبّ التي يُعلنها تجاههم، ويعقد العزم على مواصلة نهجهم، والسير على هداهم، واللحوق بهم: السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله! السلام عليك يا وارث نوح نبيّ الله! السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله! السلام عليك يا وارث موسى كليم الله! السلام عليك يا وارث عيسى روح الله! السلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله! السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين (ع) ولي الله! السلام عليك يا ابن محمّد المصطفى! السلام عليك يا ابن عليّ المرتضى! السلام عليك يا ابن فاطمة الزهراء! السلام عليك يا ابن خديجة الكبرى! السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره والوتر الموتور! أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتى أتاك اليقين […] أشهد أنّك كنت نورًا في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليّة بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها، وأشهد أنّك من دعائم الدين وأركان المؤمنين، وأشهد أنّك الإمام البر التقي الرضي الزكي الهادي المهدي، وأشهد أنّ الأئمّة من ولدك كلمة التقوى وأعلام الهدى والعروة الوثقى والحجّة على أهل الدنيا، وأشهد الله وملائكته وأنبياءه ورسله أنّي بكم مؤمن وبإيابكم موقن بشرائع ديني وخواتيم عملي، وقلبي لقلبكم سلم، وأمري لأمركم متّبع صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وعلى أجسادكم وعلى أجسامكم وعلى شاهدكم وعلى غائبكم وعلى ظاهركم وعلى باطنكم . وعليه، تغدو الزيارة خطابًا داعمًا تربويًّا وترشيديًّا، تسهم في تحقيق الاتّصال بين الزائرين وبين الأئمّة (ع)؛ بما يحملون من تجربة تامّة وكاملة للدين، ليستلهموا منهم النهج، ويأخذوا منهم المدد، ويواصلوا طريقهم في خوض اللج؛ في إحقاق الحقّ وإبطال الباطل. إنّ المتأمّل في مضامين زيارات الإمام الحسين (ع)، يجد حضورًا فاعلًا لخطاب التولّي والتبرّي؛ ودورهما في ترشيد مسيرة الإنسان نحو الحقّ؛ بتقديم الولاء لمن ساروا قبله وجسّدوا أروع صور العبوديّة والطاعة لله تعالى، وإعلان البراءة ممّن انحرفوا عن الحقّ وجسّدوا أشنع صور التمرّد والعصيان للحقّ تعالى: يا أبا عبد الله! إنّي أتقرّب إلى الله وإلى رسوله وإلى أمير المؤمنين وإلى فاطمة وإلى الحسن وإليك بموالاتك، وبالبراءة ممّن أسّس أساس ذلك، وبنى عليه بنيانه وجرى في ظلمه وجوره عليكم وعلى أشياعكم، برئت إلى الله وإليكم منهم، وأتقرّب إلى الله ثمّ إليكم بموالاتكم وموالاة وليكم، وبالبراءة من أعدائكم والناصبين لكم الحرب، وبالبراءة من أشياعهم وأتباعهم. إنّي سلم لمن سالمكم، وحرب لمن حاربكم، وولي لمن والاكم، وعدوّ لمن عاداكم. ومن هنا، نجد أنّ خطاب التولّي والتبرّي الوارد في نصوص زيارات الإمام الحسين (ع)، يحمل بعدًا خاصًّا يتمحور حول الولاء والبراء في ما يتعلّق بالإمامة والولاية والحكم بعد رسول الله (ص)، وما جرى على المسلمين من انحراف عن خطّ الإسلام المحمّديّ الأصيل؛ بفعل تولّي مجموعة من الناس حكم المسلمين وتحكّمهم برقابهم وثرواتهم؛ وهم غير مأمونين على الإسلام والمسلمين، مدفوعين بأحقاد الجاهليّة وشهوة الإمرة والتسلّط، فعاثوا في الأرض فسادًا، وسعوا فيها ليهلكوا الحرث والنسل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ، مهدّدين بذلك مسيرة الاستخلاف: {إنّي جاعل في الأرض خليفة} ؛ ومعارضين سنّة التكوين: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ؛ حتى بلغوا مبلغًا من المعارضة سوّغ لهم شيطانهم فيها قتل سبط الرسول الأكرم (ص) الإمام الحسين (ع)، فانقلبت عليهم سنّة التكوين: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ، “{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} “، وجسّدت تضحيات السبط الولي ثورة الحقّ المدوّية على الباطل على امتداد الزمان والمكان: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} . ولذلك، تُقدِّم الزيارة نفسها نمطًا خطابيًّا تثويريًّا ينطوي في حقيقته على التولّي والتبرّي، فلا بدّ للزائر من تحمّل الشهادة بالحقّ والولاء لأهله واتّخاذ الموقف من الباطل والبراءة من أهله. وهذا ما جرى التركيز عليه في أدبيّات زيارات الإمام الحسين (ع)، حيث يعمد الزائر إلى إعلان الموقف والاصطفاف مع طائفة بدل أخرى، بشكل صريح وقاطع من خلال حضوره أمام الشخصيّة المَزورة وما تمثّله من نهج الحقّ والشهادة لهم بالمقام الرفيع والفضيلة والمجاهدة والتضحية والاستشهاد في سبيل إعلاء لواء التوحيد، في قبال أعدائه وما يمثّلونه من نهج الباطل، وما ينبغي اتّخاذه من موقف حاسم وقاطع يتمثّل في لعنهم لعنًا مباشرًا على اختلاف مستويات انحرافهم ووقوفهم بوجه الحقّ الذي مثّله الأئمّة (ع)؛ وهو ما أشارت إليه زيارة وارث، حيث قسّمتهم إلى ثلاث طوائف: “فَلَعَنَ اللهُ اُمّةً قَتَلَتْكَ، وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً ظَلَمَتْكَ، وَلَعَنَ اللهُ اُمّةً سَمِعَتْ بِذَلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ” : - الطائفة الأولى: وهي التي باشرت قتال الإمام الحسين(ع)، بالمشاركة في المعركة ضدّه، وتجهيز العتاد والعدّة عليه، وقتله وأصحابه وأهل بيته الأطهار: “لعن الله أُمّة أسرجت وألجمت وتهيّأت وتنقّبت لقتالك يا مولاي يا أبا عبد الله” . – الطائفة الثانية: وهي التي ظلمت الإمام الحسين (ع)، ومكّنت منه، وشايعت وبايعت وتابعت وظاهرت عليه، وخالفته. وأصحاب هذه الطائفة وإنْ لم يشاركوا فعليًّا ومباشرة في قتل الإمام الحسين (ع)؛ كما هو حال أصحاب الطائفة الأولى، ولكنّهم رضوا بما جرى، وقبلوا بالظلم والقتل الذي لَحِقَ بهذه العترة الطاهرة من أهل بيت النبيّ (ص)، وأعانوا الطغاة على استحلال حرمه: “فَلَعَنَ اللهُ اُمّةً أَسّسَتْ أَساسَ الظّلْم والجَوْر عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ، وَلَعَنَ اللهُ اُمَّةً دَفَعَتْكُمْ عَنْ مَقامِكُمْ، وَأَزَالَتْكُمْ عَنْ مَرَاتِبِكُمْ التِي رَتّبَكُم اللهُ فِيهَا… وَلَعَنَ اللهُ المُمَهِّدينَ لَهُمْ بِالتَّمْكينِ مِنْ قِتالِكُم، بَرِئْتُ إلى اللهِ وَاِلَيْكُمْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ” . – الطائفة الثالثة: وهي التي سمعت بذلك؛ فرضيت به. وأصحاب هذه الطائفة لم يشاركوا في قتل الإمام الحسين (ع) مباشرة؛ كما أصحاب الطائفة الأولى، ولم يبايعوا الطغاة ويرضوا بفعلتهم من قتل الإمام الحسين (ع)؛ كما أصحاب الطائفة الثانية، ولكنّ أصحاب هذه الطائفة سمعوا استنصار الإمام الحسين (ع) ولم ينصروه، وآثروا العافية على الوقوف بجانبه في عاشوراء بأرض كربلاء. ولعلّ فلسفة التبرّي من هذه الطائفة تكمن في أنّ هذا الخذلان والسكوت والقعود عن نصرة الإمام الحسين (ع) الذي مثّل الدين كلّه في معركته مع الطاغوت كلّه، ينطوي على الرضا بفعل الطغاة أو الرضا بالظلم. ومن هنا، تروم الزيارة استنهاض الهمم، وتنبيه الغافلين في كلذ زمان ومكان إلى خطورة مسلك السكوت والخذلان عن نصرة الحقّ في مواجهة الباطل؛ كي يوطِّنوا أنفسهم لأنْ يكونوا دائمًا في جبهة الحقّ المتمثّلة بنهج الإمامة والولاية، حتى لا تسنّ سنّة القتل واستحلال الحرم الطاهرة في كلّ وقت وحين. فالمسؤوليّة خطيرة، والتاريخ يشهد، والسكوت عن الظلم مشاركة له، والحياد أو الانسحاب أو الصمت والتجاهل لا يعفي صاحبه؛ بقدر ما يجعله مدانًا ومعنيًّا ومشمولًا باللعن والبراءة منه؛ لأنّه يكون بمثابة المتخلّف عن استنصار الإمام الحسين (ع)، والمتجاهل لدعوته، والمعرض عنها في كلّ زمان ومكان: “من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح” …تحميل المقال
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/1025/tawaliwatabari/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.