في ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع)
قال الإمام الحسين (ع) في وصية لأحد أصحابه: “من حاول أمرًا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجيء ما يحذر”.
حين التأمّل في هذه الرواية الشريفة نرى أن المقصود من هذه الرواية هو التالي:
أن الوصول إلى الأهداف سواء كانت خاصة أم عامة، لا يتمّ بمعصية الله بل بطاعته، وإذا حاولت أمرًا بمعصية الله فإن الله يعاقبك على ذلك بأن يفوت عليك ما ترجوه. لأنه وببساطة شديدة، الباري عز وجل أودع في الكون مجموعة من القوانين والنواميس، وجعل عملها متّسقًا وطاعة الله عز وجل. وفي ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع) تتجدّد عزيمتنا للالتزام بقيم السماء في المقاصد والوسائل، انطلاقًا من وصية الإمام الحسين لأحد أصحابه الآنفة الذكر. فأئمة أهل البيت (ع) لم يطلبوا النصر بالجور، وإنما بالالتزام بكل قيم السماء وهدي الرسالات، وتتجلّى هذه الحقيقة في فاجعة الطف وسلوك سيد الشهداء (ع).
لذلك، فإن إحياء هذه المناسبة الدامية، هو إحياء للقيم والمبادىء التي ضحّى من أجلها الإمام، والخط الذي رسمه، والجهاد الذي حرّكه، والأفق الذي فتحه. نحن نحيي ذكرى صانع مجد الأمة في لحظة تاريخية، كادت تخضع الأمة بأسرها إلى الجبروت اليزيدي والزيف الأموي.
وفي هذا السياق نود الحديث عن محورين أساسيين وهما:
المحور الأول: كيف قرأت مسيرة وسيرة الإمام الحسين (ع)؟
المحور الثاني: ماذا يريد منا الإمام الحسين (ع)؟
-
قراءة السيرة والمسيرة.
ثمة مقاربتان ومنهجيتان أساسيتان تحكّمتا في تدوين السيرة الحسينية في كل مراحلها، وهما:
-
مقاربة تبرز واقع المأساة الإنسانية التي عاشها الإمام في كربلاء، وهي مأساة استثنائية بكل المقاييس والاعتبارات.
ولعل أبرز خصائص هذه المقاربة هو التالي:
-
تغييب البعد التحليلي في قراءة الأحداث والتحولات التي واجهت الإمام الحسين.
– اختزال سيرة ومسيرة الإمام الحسين في كربلاء، دون الإطلالة المعمّقة على مراحل حياته الشريفة قبل كربلاء. ونحن نعتقد أن عاشوراء بكل لحظاتها ويومياتها مدرسة إسلامية متكاملة، لا يمكن معرفة حقائقها ودروسها وعِبَرِها إلا بإمعان النظر في كل محطاتها، حتى نتمكّن من سبر بعض آفاق هذه المدرسة الرسالية، التي ستستمر في تعليم الإنسانية جمعاء كل دروس الفداء والتضحية والالتزام بالقيم في أحلك الظروف وأصعبها. ولا شك أن الدراسة التحليلية لمحطات هذه المدرسة الرسالية الخالدة، هو الذي يمكّننا من استيعاب بعض دروس وعِبَر فاجعة كربلاء. ولا شك أن الرؤية المتكاملة على هذا الصعيد، هي الرؤية التي تجمع بين الرؤية التحليلية والرؤية العاطفية التي تغذّي الوجدان وتشبع الأحاسيس بقيم النهضة الحسينية. فالأمة اليوم بحاجة إلى رؤى تحليلية تفصيلية حول ما جرى في كربلاء، كما هي بحاجة إلى الموعظة والتربية الروحية والاهتمام بالجوانب الأخلاقية والوعظية. فالدمعة في كربلاء ضرورية ومطلوبة، كما أن العبرة والدروس المعرفية والاجتماعية تمثل حاجة مجتمعية.
-
مقاربة المشروع والقضية.
وهي مقاربة تستهدف إبراز القضية والمشروع الذي عمل من أجله الإمام في كل أطوار حياته، وضحى من أجله في ختام حياته الشريفة.
ومن الضروري في هذا السياق القول: إن الأنبياء والأوصياء خلّدوا في وجدان الإنسانية من خلال هذا التزاوج بين المشروع والألم، بين المأساة والقضية. فالذي يحمل هدفًا كبيرًا، ينبغي أن يمتلك كامل الاستعداد لدفع أثمان هذا الهدف، والحياة تعلّمنا أنه لا شيء يصل إليه الإنسان بدون ثمن معنوي ومادي. وفق هذا المنظور نحن ننظر إلى صعوبات الحياة ومشاكل وتحديات طريق ذات الشوكة.
ويخطئ من يختزل الإمام المعصوم في جانب دون الإطلالة والتعريف بالجوانب الأخرى. فالإمام الحسين عاش المأساة من أجل الرسالة، وضحّى من أجل إحياء المشروع الرسالي في الأمة. فالمأساة في حياة الإمام ليست منفصلة عن المشروع والقضية والرسالة. لذلك لا يمكن أن نفهم الإمام إلا بفهم رسالته وقضيته في الأمة. ولذلك اعتبر الإمام الموت في خط الجهاد سعادة، لأنه بموته واستشهاده سيحيي الأمة ويحرّك فيها كوامن الخير والصلاح. وفي تقديرنا، إن كربلاء وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، هي التي حفظت قيم الإسلام، وهي التي وفّرت المناخ الأخلاقي والاجتماعي والسياسي للوقوف ضد الظلم والانحراف والاستبداد. فكربلاء بقيمها وآفاقها الروحية والتربوية هي التي صنعت مجد الأمة، ولولاها لضاعت الأمة في دهاليز الزيف والتضليل والبعد عن مقتضيات الطريق المستقيم.
أما خصائص هذه القراءة الشاملة فهي:
-
إبراز وطرح المأساة والأحداث الدامية في سياق تحليلي وبعيدًا عن لغة كان يا ما كان، وذلك حتى نتمكّن من تظهير كل قيم كربلاء وبركاتها التربوية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والسياسية.
-
الاهتمام بإبراز القيم والمبادئ الأساسية المحرّكة للحدث التاريخي؛ لأنه لا يمكن أن تكتمل قراءة الحدث بدون فهم الجذور الفكرية والمعرفية، التي صاغت ذهنية صنّاع الحدث، ووفّرت لديهم كل الاستعدادات للتضحية والفداء.
-
التعامل مع الظواهر الإنسانية على قاعدة السنن الربانية في الحياة الاجتماعية وبعيدًا عن نزعة الأسطرة؛ لأننا نعتقد أنه لا يمكن فهم كربلاء بعمق، بدون الاستناد إلى النواميس والسنن الربانية في الوجود الإنساني.
-
الربط في سياق تحليلي بين المقدّمات والنتائج، فالحدث ليس نبتًا شيطانيًّا، وإنما هو نتاج أحداث وتطورات أخرى. وعبر هذا الربط يمكن استجلاء الدروس والعبر المعاصرة من فاجعة الطف.
-
ماذا يريد منا الإمام الحسين (ع)؟
أوّلًا: كونوا أحرارًا في دنياكم.
من الطبيعي القول: لا حرية بدون أحرار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وأن كل حرية بلا أحرار، هي حرية شكلية، وأن حجر الزاوية في مشروع الحرية، هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها. لذلك يقول الإمام الصادق (ع): “إن الحر حر في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره…”.
– الطريق إلى الحرية في الواقع الخارجي، هو التحرّر المعنوي من الشهوات والغرائز والأهواء، بحيث لا تكون هناك حاجة تذل الإنسان وتقوده إلى التضحية بحريته.
– لذلك نجد الإمام الحسين (ع) يعلن “والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد”. “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة”.
– يريدنا الإمام أن نلتزم بقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ…﴾. فعاشوراء هي مدرسة الحرية بكل شروطها وآفاقها، ومن الأهمية في ذكرى شهادة السبط المظلوم أن نعمّق في نفوسنا وفضائنا الاجتماعي كل مقتضيات ومتطلبات الحرية. لأن كربلاء تعلّمنا الإباء ورفض كل أشكال الإذلال، وتحفزّنا بشكل دائم لكي تكون الحرية هي هدفنا ومطلبنا، ولأنه بدونها لا ننجز إنسانيتنا على أكمل وجه.
ثانيًا: لقد خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي.
– من يحب الحسين فليعمل من أجل الإصلاح في أمة جده، كل بحسب طاقته وإمكاناته.
– يريدنا الإمام أن لا نفسد في الأرض، وأن لا نثير الفتن بين الناس، يريدنا أن نسير في طريق الخير ونعمل في صناعته في كل دوائر الحياة.
– يريدنا الإمام أن ننصر المصلحين في الأمة، ولا نتفرج عليهم، بل نساندهم وندعمهم.
– يريدنا أن نقف ضد كل ظلم يحدث في حياة الإنسان.
– الإمام الحسين لا يريدنا متفرّجين تجاه واقع مجتمعنا وأمتنا، وإنما شركاء في صناعة الخير والمعروف والإصلاح. وفق هذه الخطوط نتمكّن كآحاد ومجتمعات، أن نواصل مسيرة الإصلاح في الأمة؛ لأن النواة الأولى لأي مشروع إصلاحي هو وجود الانسان المؤمن بالإصلاح، والقادر على تحمّل كلفته النفسية والعملية. وعاشوراء هي المعين الذي لا ينضب، الذي تمد المصلح في كل الأزمنة والأمكنة بدوافع الاستمرار والاستقامة، وتحفّزه على مضاعفة الجهد والعمل، وتفتح له كل آفاق التضحية والاستعداد التام للمزيد من البذل والعطاء.
ثالثًا: أن نعيش للأمة ونكسر قيد الأنانية.
فهو يعلن لنا “ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقًّا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما”.
– لا يريدنا الإمام أن نعيش الأنانية في تفكيرنا وسلوكنا، ويريدنا أن نحمل هم الرسالة، ونمتلك الاستعداد للتضحية من أجلها.
– الإمام الحسين (ع) لا يبحث عن متفرجين على معركته وقضيته، وإنما يبحث عمن يستجيب إلى واعيته واستغاثاته.
– في نهج ومدرسة الإمام الحسين (ع) ليس هناك في الأمة شخص أو فئة خارج نطاق المسؤولية. فالجميع مسؤول بقدر طاقته وموقعه.
وإذا كانت طاقة الفرد، لا تتمكّن من تغيير الواقع، فلتلتقي بطاقة الآخرين، وتتعاون معهم من أجل بناء كتلة في المجتمع والأمة تعمل من أجل التغيير والإصلاح.
– يدعونا الإمام الحسين إلى دراسة مشاكل المجتمع، لنعرف كيف نشارك مع المصلحين في إصلاح المجتمع.
– فلا إصلاح بلا معرفة، لذلك نحن بحاجة بشكل دائم للعمل والكفاح للقضاء على كل أشكال الأمية الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالأمم الحية هي الأمم التي تنتج وتعمل وتكافح وتراقب وتحاسب.
– يريدنا الإمام أن نحتج ونقاوم كل من يصنع الظلم والمأساة في حياة الإنسان، ونتحرر من ربقة أولئك النفر الذين خذلوا الحق ونصروا الباطل.
فتعالوا جميعًا لا نعيد تجربة التاريخ ونتمسك بالحق وننصره.
في ذكرى شهادة الإمام الحسين (ع) تعالوا نعقد العزم على رفع رايته وحماية القيم والمبادئ التي عاش من أجلها وضحى في سبيلها.
في ذكرى تضحيات وبطولات سيد الشهداء حري بنا أن نقرر نبذ خيار الفرجة، وممارسة شهودنا وحضورنا على واقعنا. فكما مارس الإمام الحضور والشهود بكل صوره وتجلياته، فنحن ينبغي لنا إذا أردنا الالتزام بنهج الإمام أن نمارس الشهود والحضور. وأن الإمام الحسين يعلمنا، على حد تعبير السيد هاني فحص، من خلال بكائه على أعدائه، لأنهم يدخلون النار بسببه، أن نكره المعصية لا العاصي، والمرض لا المريض والفقر لا الفقير. فالعاصي هو مشروع وفضاء للهداية والدعوة، وليس مشروعًا لقتله أو التعدي على كرامته. وإننا وفق النهج الحسيني مهما تطاول علينا الخصوم ملتزمون بقيمنا ومبادئنا، وفجور الآخر في الخصومة ينبغي أن لا يدفعنا إلى تجاوز ضوابطنا القيمية والأخلاقية.
في ذكرى فاجعة الطف فلنقرّر الالتحاق بركب الصالحين والمصلحين والعاملين في سبل عزة مجتمعنا وأمتنا. فقضية الإمام خالدة، وتتطلب باستمرار أصحاب وأنصار للذود عنها ورفع شأنها.
فلنكن جميعًا من هؤلاء، الذي يخرج من سجن أناه، وينعتق من ربقة الخوف، وينطلق في مشروع القبض على الحرية والعزة له ولأبناء مجتمعه. ولعل من أهم دروس عاشوراء هي أن إنجاز طموحاتنا رهن إرادتنا وعزمنا مهما كانت الصعوبات والعقبات؛ لان إرادة الإنسان فوق التحدّيات، وبها يستطيع الإنسان أن يتجاوز كل الصعوبات والعراقيل.
أما الوصية الأخيرة للإمام الحسين (ع)، فهي:
عن الإمام الباقر (ع) “لما حضرت أبي علي بن الحسين الوفاة ضمّني إلى صدره وقال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، يا بني اصبر على الحق وإن كان مرًّا”. وفي رواية أخرى “يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرًا إلا الله”.
المقالات المرتبطة
الأدبيات الدينية
اهتمت الأدبيات الدينية التي تلت عهد التنوير بنزع الموضوعات المفصلية، في ركائز المبحث الديني؛ من مثل الإيمان؛ عن علاقتها بالمضمون الديني المحوري “لله”، أو “العقائديات المقرَّرة”
الليبرالية أم الواقعية، أي النظريتين أقرب إلى السياسة الخارجية العراقية؟
يستلزم العمل المؤسسي أن يكون ضمن سياقات معينة مسبقة، ووفق خطط منهجية مدروسة بعناية من ذوي الاختصاص، معروفة المسارات المتبعة أو تلك التي ستتبع
ضعف الترويج للعرفان الشيعيّ: عامل هامّ في انتشار العرفان الكاذب
يبسط الدكتور محمّد فنائي الأشكوري، وهو أستاذ في الفلسفة في مؤسّسة الإمام الخميني، قدّس سرّه، الحديث في هذا الحوار عن العرفان ببعده السُّرّانيّ الداخليّ