عرفان الثورة والإمام (ع)
هناك حيث رحمة الله تتجلّى وفطرته البديعة، حين أدركت دورة الكمال أولّها وآخرها، هناك عند الربانيين الذين ارتقوا وأكملوا سفرهم بمُدرِكات القلوب، هناك في رحاب أهل العشق، هناك حيث الرحمة الواسعة، الحسين بن علي (ع).
السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
إنّ ثورة الإمام الحسين (ع) ليست فقط حدثًا تاريخيًّا، ولا هي بعض المجريات التي ننقلها ونتلوها، لا تنحصر بكونها مراسم عزاء وبعض البروتوكولات المختصّة بكل بيئة من بلاد محبّي محمد وآل محمد؛ هنا ما نريد تبيانه أنّ هذه الحادثة عبارةٌ عن مدماك أوّلي يبني قيم متعدّدة ومتكاملة، منها الإنسانية، والمعرفية، والأخلاقية، والعرفانية؛ التي يرنو إليها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكمال. فجميع هذه القيم قد تحقّقت على نحو كامل في هذه المدة القصيرة، والتي نعني بها “معركة الطف”.
إنّ الله سبحانه جعل للنبيّ (ص) مكانة عظيمة، وجعل جميع أفعاله امتدادًا من التعاليم الإلهية؛ أي من الكمال المطلق: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾[1]. وعن رسول الله (ص): “حسينٌ مني وأنا من حسين”[2]، ولهذا الحديث تكملة في الترمذي: “حسين سبط من الأسباط”[3]. خلاصة القول: إنّ هذا الامتداد من الله الكمال المطلق إلى رسوله (ص)، ومن ثمّ إلى سيّد الشهداء. وقد تبيّن ذلك من خلال الأحاديث الواردة من أنّ الإمام (ع) من نفسه وذاته (ص)، وذلك واضح وجليّ عند الجمع الأكبر من العلماء الإمامية والعامة ولا خلاف عليه.
بعدما أوضحنا هذه العلاقة، إذًا مشروع الإمام (ع) هو مشروعٌ إلهيٌّ يهدف إلى إيقاظ الأمة والإسلام من البغاة والجائرين. هذا على صعيد الإسلام عامّة، لكن ما نصيب بناء الفرد من ذلك؟
بناء الفرد الحسيني الرسالي.
الفرد هو نواة الجماعة، والتركيز على بنائه بطريقة سليمة ينتج لنا جماعة سليمة ذات قيم وقوانين ومبادئ مميزة ومستقيمة، لذلك فهو يُعدّ العنصر الأساس، وهنا يتشكّل بصورة المؤمن الولائي.
اجتمعت المبادئ والقيم الإنسانية على نحو لافت في هذه الثورة، وأيّ قيم هي المستمدّة من الإسلام غير المشوّه. إنّ أهداف هذه الثورة تميّزت بصناعتها للفرد الرسالي الذي وضع الحسين (ع) ميزانًا له: “مثلي لا يبايع مثله”. ومن هنا شعر هذا الفرد بوجوب تحقيق العدل والعدالة، ومجابهة الظالم بغية الإصلاح، وبسط هذه القيم وتأصيلها بشكل منتظم لا يتنافى مع ما تطلبه “فكرة الإنسان الكامل”.
إنّ بناء الشخصية الحسينية تحتاج إلى أن تستقيَ الكثير من المفاهيم التي وردت من الإمام الحسين (ع)؛ إن كانت تصرفات أو كلام صدر منه على نحو الخطابة أو الدعاء. وهنا يمكن لنا أن نبيّن أبعادًا كثيرة، كالبعد الحركي والقيادي، والسلوك الأخلاقي، والآداب العامة، والبعد العرفاني. عناوين كثيرة جميعها تعتبر مداميك أساسية لبناء الشخصية الحسينية، وتعتبر متكاملة، فلا يوجد فيها نقصان، ولو أنّنا اتبعناها حقًّا لوصلنا إلى أقرب الدرجات من “فكرة الإنسان الكامل”.
أما هنا، فسوف نسلط الضوء على البعد العرفاني، لما له أهمية عالية على صعيد بناء الفرد، وتجعل له منطلقًا سليمًا للخطوات كافة لو أنّه أتقن معرفته حقّ المعرفة.
عرفان الشهادة.
أحيت شهادة الإمام الحسين (ع) العرفانية القلوب، فهو قد واجه الظالم الجائر، وعرّض جسده الشريف لجيش الطاغية، إلى أن وصل إلى مقام الشهادة، ليرتقيَ إلى الكرامات الأبدية، وتفيض هذه الكرامات على أتباعه وشيعته وأحبابه لتحيي قلوبهم، وتطهّرها من كل رجس ودنس. فقد رُوِيَ عن الإمام الصادق (ع) في زيارة الإمام الحسين (ع): “بل برجاء حياتك حييت قلوب شيعتك، وبضياء نورك اهتدى الطالبون إليك، وأشهد أنّك نور الله الذي لم يطفأ ولا يطفأ أبداً”[4]. من هنا، نعرف أنّ الإمام نور الله الذي لا يُطفأ، وهذا النور يهتدي إليه الطالبون. فالمسلك السليم واضحٌ، فلا يبقى علينا إلا التطبيق والعمل.
تعتبر هذه الشهادة هي استنقاذ العباد من الضلال ورفع الجهالة عنهم “وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلال”[5]. والشهادة هنا لا تعني فقط مفارقة الحياة، بل الحق الذي جاهد وقاتل الإمام الحسين من أجله، وكانت الشهادة في النهاية مصداق البذل والعطاء اللامتناهي في الساحة الإلهية.
لو أردنا أن نعرّج على المفاهيم العرفانية لدى الإمام الحسين (ع)، لوجدنا ملاذنا في دعائه (ع) يوم عرفة، فهذا الدعاء يعكس الحالة الوجدانية والعرفانية للإمام الحسين (ع).
معرفة الله.
إنّ معرفة الخالق، أي أوصافه وأسمائه، وما لها من تأثير وانعكاس علينا من صفاته الجمالية والجلالية، وما وصف به نفسه، نجد أنّ الإمام (ع) أورد صفاته (عزّ وجل) وهو يخاطبه ويقول: “يا مولاي، أنتَ الذي أنعمتَ، أنتَ الذي أحسنتَ، أنتَ الذي أجملتَ، أنتَ الذي أفضلتَ، أنت الذي مننتَ، أنتَ الذي أكملتَ، أنتَ الذي رزقتَ، أنتَ الذي أعطيتَ، أنتَ الذي أغنيتَ، أنتَ الذي أقنيتَ، أنتَ الذي آويتَ، أنتَ الذي كفيتَ، أنتَ الذي هديتَ، أنتَ الذي عصمتَ، أنتَ الذي سترتَ، أنتَ الذي غفرتَ، أنتَ الذي أقلتَ، أنتَ الذي مكّنتَ، أنتَ الذي أعززتَ…”[6]. هنا علينا أن نتمعن بأوصافه وصفاته على أنّه المنعم والمحسن والمفضل إلخ. إنّ التدقيق والتفكّر بهذه الصفات هي المعرفة الحقة لله سبحانه وتعالى.
معرفة النفس.
﴿بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾[7]. يجب على الإنسان أن يكون على دراية بنفسه، وأن يعرف نفسه على نحو أدقّ، فهؤلاء هم المؤمنون أصحاب البصائر واليقين، بما يعني أنفسهم يتلون آياته ويهتدون بها. هنا يخاطب الإمام الحسين ربه ويقول له: “إلهي من كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساوئه مساوي، ومن كانت حقائقه دعاوى، فكيف لا تكون دعاويه دعاوي”[8]؛ وهذا المقطع ما هو إلا تساؤلات لنا بخصوص معرفة النفس.
الإقرار بالذنوب.
هو من الفضائل وبداية طريق التوبة لأنّه أقرّ بالذنب واعتذر لله جلّ وعلا، ولأنّنا لا يمكن لنا أن نعبد الله حق طاعته، لذلك الإقرار بالذنب يُعتبر مرحمة لنا، فأنت تقرّ بالذنب وتطلب العفو والتوبة وترجو الرحمة من الله. هنا الإمام الحسين يخاطب ربه قائلًا: “أنا يا إلهي المعترِفُ بِذُنوبي فاغفرها لي، أنا الذي أخطأتُ، أنا الذي هممتُ، أنا الذي جَهِلتُ، أنا الذي غفلتُ، أنا الذي سَهوتُ، أنا الذي اعْتمدتُ، أنا الذي تعمَّدتُ، أنا الذي وَعَدتُ، أنا الذي أخلفتُ، أنا الذي نَكثتُ، أنا الذي أقررتُ، أنا الذي أعترفُ بنعمتك عندي وأبوء بذنوبي فاغفْر لي، يا مَنْ لا تضرُّهُ ذُنوبُ عباده وهوَ الغنيُّ عَنْ طاعَتِهمْ، والموفِّقُ مَنْ عمَل منهم صالحًا بمعونَتهِ ورحمتهِ، فلك الحمد إلهي وسيدي”[9].
الاعتراف بالضعف.
أن تعلم أنّه لا سلطان ولا ملك لك، إنّك محدّد القوة، ضعيف. وهذا هو إمامنا يردد في دعائه (ع): “إلهي، أنا الفقيرُ في غناي، فكيف لا أكونُ فقيرًا في فقري. إلهي، أنا الجاهلُ في علمي، فكيف لا أكونُ جهولًا في جهلي”[10].
إذًا، لنعلم أنّ الإقرار بالذنب والاعتراف بالضعف ينجح فيهما المؤمن من خلال معرفته بنفسه حقّ المعرفة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، أما من عرف الإمام الحسين (ع) عرف الله سبحانه وتعالى.
إنّ ما كُتِب هنا جزءٌ يسيرٌ وسردٌ مختصر بلغة مبسطة، تناولنا فيها مكانة الإمام الحسين (ع) وثورته، وتأثيرها على بناء الفرد الحسيني، وعدّدنا الأبعاد وتحدثنا قليلًا عن البعد العرفاني لسيد الشهداء (ع) في دعائه يوم عرفة.
[1] سورة النجم، الآيتان 3و4
[2] بحار الأنوار، الجزء43، الصفحة271. وورد في الكثير من المصادر.
[3] الترمذي، 3775
[4] البلد الأمين، الصفحة 284. بحار الأنوار الجزء 98، الصفحة 342.
[5] كامل الزيارات، زيارة الأربعين، الصفحة 401.
[6] مقطع من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة.
[7] سورة القيامة، الآية 14.
[8] مقطع من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة.
[9] مقطع من دعاء الإمام الحسين (ع) يوم عرفة.
[10] المصدر نفسه.
المقالات المرتبطة
الإنسان في ثوب كماله
فصّل الصوفيّون الكلام القرآنيّ المجمل حول منزلة الإنسان في العالم (العوالم)، ورأوا إلى ملكاته المتعدّدة رؤيةً تنسجم والتراتبيّة في نظام الكون،
منهم قادة ودول | الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا في كل العصور
هذا مقال ديني لكنه أيضًا اجتماعي/سياسي، وحديثنا عن النفاق البدوي بصفة خاصة، تلك الآفة البشرية، التي تعشش في عقول كثيرين،
الركائز الفلسفيّة للتوحيد في” نهج البلاغة”
يمثّل الإمام علي(ع) في الثقافة الإسلاميّة قامة عالية جدًّا. ولقد علت هذه القامة ليس عند المسلمين وحدهم، ولكن عند الكثيرين من مثقّفي الديانات الأخرى