حين نطق الصبر كلمات
في عتمة الحزن والألم والخوف من الله تعالى، امرأة ورثت كلّ صلابة الرجال، وجمعت صِرف الصبر في قلبها ونفسها التي لم ترَ من الله إلّا جميلًا.
هي زينب ابنة علي وفاطمة، هي الحوراء الإنسيّة التي لم تقعدها عظيم الرزايا أن تعلو منبرًا في الكوفة، وتصدح بصوت رسول الله محمّد، صلّى الله عليه وآله، وببلاغة علي:
” الحمد الله، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيّبين الأخيار…
أمّا بعد يا أهل الكوفة يا أهل الختل [1]والغدر والخذل. ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثًا تتّخذون أيمانكم دخلًا بينكم. هل فيكم إلّا الصلف[2] والعجب، والشنف[3] والكذب، وملق الإماء[4] وغمز الأعداء[5] أو كمرعى على دمنة[6] أو كفضّة على ملحودة [7]ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون أخي؟! أجل والله فابكوا فإنّكم أحرى بالبكاء فابكوا كثيرًا، واضحكوا قليلًا، فقد أبليتم بعارها، ومنيتم بشنارها ولن ترحضوا أبدًا وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم ومقرّ سلمكم، واسى كلمكم ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ومدرّة حججكم ومنار محجّتكم، ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم. فتعسًا تعسًا! ونكسًا نكسًا! لقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة، أتدرون ويلكم أيّ كبد لمحمّد صلّى الله عليه وآله فرثتم [فريتم]؟! وأيّ عهد نكثتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ حرمة له هتكتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئًا إدًّا تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدًّا! لقد جئتم بها شوهاء صلعاء[8]، عنقاء[9]، سوداء، فقماء[10] خرقاء كطلاع الأرض، أو ملأ السماء [11]أفعجبتم أن تمطر السماء دمًا، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه عزّ وجل لا يحفزه البدار ولا يخشى عليه فوت الثار، كلّا إنّ ربّك لنا ولهم لبالمرصاد”[12].
الحمد هو بداية كلّ كلام في بيت النبوّة، حمدٌ نابعٌ من قناعة راسخة في نفوسهم لا يشوبه نقصٌ. خطاب ليس له نظير في عالم الوجود، خطاب جاء بعد أن شهدت مصارع أهل بيتها، ورحلة سبي مع ما يرافقه من آلام وعويل أطفال وذكريات من العزّ. خطاب يستحقّ أن يقف القارئ عنده مليًّا، متأمّلًا ما يحمل قلبها من إيمان عميق متجذر.
حمدت الله ثمّ تابعت بالصلاة على أبيها رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم. وهي بهذا الافتتاح، أرادت أن تعرّف نفسها لتلك الجماهير بأنّها بنت رسول الله لئلّا يلتبس عليهم نسبها ونسب مَن معها فأعداء أهل بيت النبوّة طالما سعوا للتشكيك بذلك ولفت نظر العامّة عنهم.
وبعد، انتقلت لتذكّر أهل الكوفة بماضيهم حيث صدر منهم الغدر مرّات عديدة:
-
في يوم صفين، غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، في يوم التحكيم.
-
وبعد قتل الإمام أمير المؤمنين، عندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن، عليه السلام، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته.
-
وبعد موت معاوية، أرسل أهل الكوفة اثنتي عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين، عليه السلام أيّام إقامته في مكّة، يطلبون منه التوجّه إلى العراق لينقذهم من الاستعمار الأمويّ، وضمّنوا رسائلهم الأيمان والعهود لنصرة الإمام والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم .فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل، فبايعه الآلاف من أهل الكوفة، ثمّ تفرّقوا عنه وغدروا به.
-
وحينما لبّى الإمام الحسين، عليه السلام، رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق، ووصل إلى أرض كربلاء، ومعه عائلته، خرج أهل الكوفة، وقتلوا جميع من كان مع الإمام.
وبعد، نظرت السيّدة زينب، عليها السلام، إلى دموع أهل الكوفة، وسمعت أصوات بكائهم، وجّهت إليهم خطابها القاسي، واعتبرت بكاءهم – بالمقايسة مع ما قاموا به من الجرائم – نوعًا من النفاق والتلوّن المشين، فإنّ رجالهم الذين باشروا الجريمة، ونساءهم هنّ اللواتي قمن بتربية أولئك الرجال على الغدر. فما هي فائدة هذا البكاء؟ ! فالحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم والتعدّي إلّا مع وجود الأرضيّة المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان. والناس – بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول – هم الذين مهّدوا للظالمين القيام بتلك الفاجعة المروّعة !
ثمّ دعت عليهم، أن تمرّ عليهم ظروفًا وأحوالًا تجعل بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل متواصلًا ودموعهم مستمرّةً في الجريان، لا تهدأ ولا تنقطع، ولا تهدأ رنّتهم، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجراميّة .
وتعمّدت الحوراء، عليها السلام، التكلّم معهم بكلّ صراحة، وبالكلام اللاذع، وبهذه الشدّة وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية، علّ هذا المجتمع يصحو من غفلته. وشبّهتهم بالمرأة التي نقضت غزلها، وهذا التشبيه مستقى من القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثًا تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾[13] إشارة إلى نقضهم العهد الذين وكلوه إلى الإمام الحسين، عليه السلام، فهم كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد، ويضمرون في أنفسهم الخيانة.
وانتقلت بعد ذلك إلى توصيف أهل الكوفة؛ فهم يضمرون الحقد والكذب، وبيّنت حقيقتهم وكشفت عن واقعهم، وأنّ ظاهرهم يختلف تمامًا عن باطنهم، وعمّا يقولونه بألسنتهم.
وتوعّدتهم بالعذاب الأليم، وأنّ هذا البكاء الذي يبكونه هو قليل بالمقايسة مع دموع يوم القيامة، وأنّه مهما فعلوا فلن يغسلوا العار الذي اقترفوه وأفردت بعض العبارات للإشارة بالشهيد ومن يكون. فالإمام الحسين، عليه السلام، هو الخليفة الشرعيّ الثالث لرسول الله، صلّى الله عليه وآله، ولم يكن رجلًا مجهولًا، غير معروف عند الناس، بل كان مشهورًا عند جميع المسلمين بكلّ ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان. فلقد خسرت صفقتهم وبارت تجارتهم، وباؤوا بغضب من الله، وقدّر لهم المسكنة، بسبب كفرانهم بنعمة وجود الإمام الحسين، عليه السلام، والغدر به.
ثمّ عرّجت بوصف فاجعة كربلاء، وأنّه بقتل الإمام الحسين، عليه السلام، فقد أحرار الأمّة الأمان. فقد فتحت هذه الجريمة، بحجمها الواسع، الطريق أمام كلّ من يحمل نفسًا خبيثة في أن يقوم بكلّ ما تسوّل له نفسه وتمليه عليه نفسيّته في مجال الظلم والاعتداء على الآخرين، وعدم التوقّف عند أيّ حدّ من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين[14].
وأشارت إلى الحقيقة الكونيّة التي حدثت، وهي مطر السماء دمًا استنكارًا لهذه الجريمة. وتشير الروايات أنّ آثار تلك الدماء من ذلك المطر بقيت على جدران مدينة الكوفة وحيطانها فترة من الزمن.
وأخيرًا، ختمت ابنة أمير المؤمنين خطابها بتوعّد أهل الكوفة بعذاب الآخرة وبانتقام الله من الظالمين في يوم القيامة فلا يستخفّوا بإمهال الله لهم بل ليزدادوا كفرًا كما تشير الآية القرآنيّة ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [15]، وهي سنّة إلهيّة تجري على كلّ الأمم الظالمة.
لقد أرادت زينب أن تستثير في نفوسهم التوبة التي أرادها الله للعباد برغم كل التقريع والتوبيخ الذي وجّهته لهم، أن تنشلهم من الجور والظلم الذي ألحقوا أنفسهم به، فهي سليلة بيت الرحمة، وهو الذي أراده الحسين، عليه السلام، حين قال: “إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي فيا سيوف خذيني”. وها هي زينب قد بعثت بالإسلام روحًا جديدة أكملت درب أخيها الحسين ومن سبقه من العترة الطاهرة، وأشعلت نورًا منيرًا آخر في شعلة الوجود “ما رأيت إلّا جميلًا”.
[1] الختل: الغدر، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة. والختر: وهو شبه الغدر، لكنّه أقبح أنواعه.
[2] الصلف: صلف الرجل: تمدح بما ليس عنده، إعجابًا بنفسه وتكبّرًا.
[3] الشنف: شدة البغض. والشنف: المبغض.
[4] الملق: بفتح اللام، الود واللُطف، وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفع.
[5] الغمز: الإشارة بالجفن والحاجب
[6] المرعى: محل العشب الذي يسرح فيه القطيع. دمنة: المحل الذي تتراكم فيه أرواث الحيوانات وأبوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم، فتتلبد وتتماسك الأوساخ المتكوّنة من الروث والبول والتراب.
[7] اللحد: القبر. الملحودة: الجثة الموضوعة في القبر. وفي نسخة أخرى”كقصّة على ملحودة” ومعناه والقصّة: هي: الجصّ: وهي البودرة والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طينًا أبيض اللون، ويوضع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سببًا لتماسك أجزاء البناء .
[8] صلعاء: وهي الداهية الشديدة.
[9] عنقاء: الداهية.
[10] سوداء: العظيمة أو الشديدة هذا بعض ما ذكره اللغويون، وفقماء أي معقّدة بشكل لا يمكن معرفة طريق إلى حلّها أو التخلّص من مضاعفاته.
[11] خرقاء كطلاع الأرض أي ملؤها. وملء السماء أي أنّ حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معيّن، بل هي بحجم الأرض كلّها، والسماء والفضاء كليهما.
[12] الطبرسي، الاحتجاج، تعليقات وملاحظات السيّد محمد باقر الخرسان، الجزء 2، الصفحتان 30 و31.
[13] سورة النحل، الآية 92.
[14] انظر: زينب الكبرى من المهد إلى اللحد، شرح خطبة السيّة زينب عليها السلام في الكوفة.
[15] سورة آل عمران، الآية 178.
المقالات المرتبطة
دور الدعاء في تكامل الإنسان
الدعاء في الضراء والسراء كلنا بحاجة إلى الدعاء، كل فرد، كل جماعة، إنه حاجة كل إنسان التي تنبع من فقره
مباني فهم النّص عند الشهيد الصدر: الحلقة 2
سنعرض في هذه المقالة التساؤلات المهمة المرتبطة بإشكالية فهم النص الديني، حتى نرى في المقالات اللاحقة: هل تعرّض السيد محمد باقر الصدر لها وقدّم إجاباته، أم لا.
الهوية المصرية بين الفرعونية والإسلامية/العربية
تقديم يثار الجدل حول الهوية المصرية، (والهوية بضم الهاء وليس بفتحها، فكلمة الهوية جاءت من فعل هو)، هل هي دولة