مباني فهم النص عند الشهيد الصدر: الحلقة 6
المبنى الثالث: ملاحظة المعصومين (ع) على أنهم واحد
ذكرنا فيما تقدّم من مقالات، مبنيين للشهيد الصدر، ووصل الدور إلى الكلام في المبنى الثالث، وهو: ملاحظة المعصومين (ع) على أنهم واحد. وهذا المبنى مهم جدًّا في قراءة النص الديني الروائي عند الشهيد الصدر، وله بُعدان:
-
عصمة النبي (ص) والأئمة (ع).
-
اشتراك الأئمة (ع) في الهدف.
البُعد الأول: عصمة النبي (ص) والأئمة (ع).
يعتقد الشهيد الصدر بعصمة النبي (ص) والأئمة (ع)، فلا يصدر منهم الخطأ أبدًا[1]. وهذا ما يترتب عليه أثر مهم في فهم الروايات، وهو استحالة وقوع التعارض بين كلماتهم. ففي هذه الحالة، لا بدّ أن يُحمل التعارض على أنه تعارض بدوي، ثم يُصار إلى حلّه بإحدى الطرق.
البُعد الثاني: اشتراك الأئمة (ع) في الهدف.
يعتقد الشهيد الصدر بأنه يجب أن ندرس حياة الأئمة (ع) بنحو مجزّأ ومستقل، وهذا مهم لإنجاز دراسة كاملة، وقراءة كلية عنهم (ع). فلا بدّ من دراسة حياة كل إمام على حدة، وبنحو مجتزأ وإلى أوسع حدّ ممكن، ونلاحظ أهدافه ونشاطاته، حتى نتمكن بعد ذلك من دراستهم (ع) ككل، فنستخلص الدور المشترك للأئمة (ع)[2].
ولا يخفى ضرورة هذا الاتجاه – بنظر السيد الشهيد- لفهم النصوص الدينية وما تحكي عنه؛ بل لولاه قد نقع باشتباهات وأخطاء في الفهم. فعلى سبيل المثال، لو لم نلتفت إلى هذا الاتجاه، واعتمدنا الاتجاه الجزئي، فإننا سوف نلاحظ تباينًا في أقوال الأئمة (ع) وأفعالهم، وتناقضًا من الناحية الشخصية بين الأدوار التي مارسوها (ع).
فالإمام الحسن (ع) صالح معاوية بن أبي سفيان، أما الإمام الحسين (ع) فقد حارب يزيد بن معاوية حتى استُشهد، بينما قضى الإمام علي بن الحسين (ع) حياته بالدعاء، وأما الإمام محمد بن علي الباقر (ع) فقد كانت حياته قائمة على الحديث والفقه، وهكذا.
وصدر عن كلّ واحد منهم (ع) أقوالًا وأفعالًا، قد تبدو متناقضة إن لاحظنا حياتهم بنحو جزئي غير مترابط. أما لو لاحظنا حياتهم ككل، وحاولنا اكتشاف الخصائص العامة وأدوارهم المشتركة، فسوف تزول كل هذه التناقضات؛ لأنه سيتغيّر فهمنا لها، وسيتبين أنها انعكاسات مختلفة لحقيقة واحدة وهدف واحد[3].
ولمزيد من توضيح هذه الفكرة، نلاحظ المثال التالي الذي ذكره السيد الشهيد. يقول بأنه:
لو طالعنا سيرة الإمام علي (ع)، لوجدنا أنه جمع صحابة رسول الله (ص) في خلافته، وعرض عليهم نصوص الإمامة، واستشهدهم عليها، وشهد له بذلك عدد كبير من التابعين، ثم طلب منهم أن يحدّثوا بنصوص النبي (ص) في علي وأهل بيته (ع).
وهذا ما فعله أيضًا الإمام محمد الباقر (ع) حيث استشهد التابعين وتابعي التابعين على ذلك. فحين ندرس الأئمة (ع) ككل، نربط بين أفعالهم وأقوالهم، نلاحظ أنهم وضعوا خطة واحدة على مدى ثلاثة أجيال. فلديهم تخطيط مترابط يكمّل بعضه بعضًا، وأحد أهدافه –كما في المثال- الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتى تصبح واضحة ومشهورة عند كل الناس، فلا تستطيع المؤامرات التي يحيكها الأعداء أن يخفوها أو يحدّوا منها.
لكن كيف اكتشف الشهيد الصدر هذا الهدف الواحد عند الأئمة (ع)؟ الجواب أنه اكتشفه عبر طريقين:
الطريق الأول: من خلال ملاحظة سيرة كل إمام على حدة، ثم من خلال ملاحظة مجموع سيَرهم وتاريخهم والظروف المحيطة بهم، فأمكنه الوصول إلى أن هدفهم واحد وإن كانت أدوارهم التاريخية متنوعة.
الطريق الثاني: لا من خلال التاريخ، بل من خلال البحث العقائدي المرتبط بالإمامة وشروطها. فهو يعتقد أن فكرة الإمامة تقتضي شروطًا ومسؤوليات، وهذه الإمامة بمقتضياتها موجودة عند كل الائمة (ع)، فلا بد أن يكون لها ظهور واحد، وإن اختلفت الظروف والأزمنة والأدوار[4].
والمراد من هذا الدور المشترك عند الأئمة (ع) هو الموقف العام الذي وقفوه في خضمّ الأحداث والمشاكل التي اكتنفت الرسالة بعد انحراف التجربة وإقصائهم عن مناصبهم[5]. وهذا الدور الإيجابي –كما يعبّر الشهيد الصدر- يظهر على مستويين:
المستوى الأول: على مستوى المعارضة العميقة التي كان الأئمة (ع) يواجهون بها الزعامات المنحرفة، بإرادة صلبة لا تتزعزع[6]، ويقفون بوجه التيارات الفكرية التي تشكل خطرًا على الرسالة[7].
المستوى الثاني: على مستوى تحويل الأمة عقائديًّا وفكريًّا، وبثّ الوعي فيها. فكانوا يهتمّون بالفئة المؤمنة بهم، ويشرفون عليها، ويخططون لسلوكها وحمايتها، وتنمية وعيها، وبنائها عقائديًّا وفكريًّا[8].
وعلى أساس هذين المستويين، بإمكاننا أن نفهم عددًا من النصوص الصادرة عن الأئمة (ع)، وحلّ التعارض الذي قد يبدو بينها للوهلة الأولى. ولا يخفى أهمية معرفة المتكلّم في مقام فهم كلامه ونصّه، وإن شئت قلت: هذا مرتبط بالأفق المعنائي عند المتكلم.
وإلى هنا، تمّ الكلام في المبنى الثالث، وسيوافيك الكلام في المبنى الرابع في المقال اللاحق إن شاء الله تعالى.
[1] محمد باقر الصدر، تنوع أدوار ووحدة هدف، (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، 1426 ق)، الصفحة 143.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 141.
[3] تنوع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق، الصفحتان 141 و142.
[4] المصدر نفسه، الصفحة 142.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 143.
[6] وهذا له شواهد كثيرة في التاريخ، منها: عندما صعد عمر بن الخطاب المنبر وتساءل عن موقف الناس لو صرفهم عمّا يعرفون إلى ما ينكرون، فوقف الإمام علي (ع) بوجهه قائلًا بصراحة ووضوح: إذن لقوّمناك بسيوفنا. ومنها: ما فعل الإمام الحسين (ع) مع يزيد الطاغية. ومنها: موقف الإمام موسى الكاظم (ع) عندما كان في السجن، وقد ذاب جسمه حتى أصبح حين يسجد لربه كالثوب المطروح على وجه الأرض، فدخل عليه رسول الخليفة الغاصب يقول له: إن الخليفة يأمر بإطلاق سراحه ويعتذر منك بشرط أن تزوره وتطلب رضاه؛ فرفض الإمام الكاظم (ع) ذلك بكل عزّ وشموخ، وقرّر تحمّل مرارة السجن على أن يحقّق للزعامة المنحرفة هدفها الذي هو مباركة خطها. (انظر: تنوع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق، الصفحتان 144و145)
[7] كما فعل الإمام الحسن العسكري (ع) عندما كان في المدينة، حيث سمع بمشروع كتاب للكندي في العراق حول متناقضات القرآن، فأحبط الإمام العسكري (ع) محاولته وأقنع الكندي بخطئه. (انظر: تنوع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق الصفحة 145)
[8] تنوع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق، الصفحة 145.
الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
المباني الهرمنيوطيقيةفهم النصالاصوليينالمعصومينالشهيد الصدرالهرمنيوطيقية المقالات المرتبطة
التوازن الفقهي العرفاني عند الإمام الخميني قدس سره
ثمة ركنين أساسيين في المعارف الإسلامية هما الفقه والعرفان، الفقه بما هو حكم الظاهر السلوكي الفعلي، والعرفان بما هو ناموس الباطن وكشف الماورائي.
في إشكاليات التعددية الدينية
يُنظر الى التعددية الدينية كمفصل أساسيًّ من مفاصل الدراسات الكلامية الحديثة.
الحضور المعرفي في النظرية الإسلامية المعاصرة (2)
إن ما انتهى إليه النظر العرفاني هو أنه ليس لنا من معرفة الشيء إلا بمقدار ما فينا منه. أي ما يدخل منه في حوزة النفس وإدراكها.