قراءة في كتاب “الموعظة الخالدة”

by سكينة أبوحمدان | ديسمبر 8, 2020 9:23 ص

أوّلًا- الكتاب في سطور
عنوان الكتاب: الموعظة الخالدة
اسم المؤلّف: الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي
اسم المترجم: عبّاس نور الدين
تحقيق وتدوين: علي زينتي
دار النشر: دار المعارف الحكميّة
الطبعة: الثالثة
تاريخ النشر: 2020م- 1441هـ
(عدد الصفحات: 603 صفحة)
مكان النشر: بيروت
ثانيًا- قراءة في الكتاب
الموعظة الخالدة هي دروسٌ لسماحة الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي في شرح وصيّة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) لابنه الإمام الحسن المجتبى (ع). يبلغ عدد تلك الدروس ثلاثة وأربعين درسًا، عرض فيها الشيخ مطوّلًا ومفصّلًا لمعاني وعِبر تلك الوصيّة الخالدة.
هذه الوصية ذكرها العلامة المجلسي في كتابه بحار الأنوار، والمرحوم الحرّاني في تحف العقول، كما أدرجها الشريف الرضي في نهج البلاغة، وقد كان علي (ع) قد بلغ من العمر الستين سنة، ورجع لتوّه من معركة صفّين. ولا يقصد منها الوصية بالاصطلاح الفقهي التي تستعمل لما بعد الموت، بل تحتوي على مواعظ لا تقتصر على أبنائه فحسب، بل تشمل جميع الناس في مختلف العصور على ما ذكره الشيخ في شرحه[1][1].
اعتمد اليزدي في ترتيب شرحه على أصل نصّ الوصيّة، وبيّن المراد منها، ثمّ فصّل في الدروس والعبر التي أرادها أمير المؤمنين (ع).
لم تكن الوصية صكًّا من معصوم لمعصوم يرثه في الخلافة وأمور المسلمين، بل كانت كتاب حياة يُخَطّ بماء من ذهب. أقرّ الأمير (ع) بوجوب انتهاء العمر والاستسلام للموت، لا استسلام المنهزم المنكسر، بل تسليمًا لإرادته تعالى وحكمه، وهو أوّل درسٍ أراده للبشرية أن تعرف أنّ الموت حقّ كلٌّ وارده لا محالة. وفي ذلك، دعوة لكلّ فرد لمراجعة أعماله ومحاسبة نفسه في كلّ يوم، أو في العمر مرة.
بدأ علي (ع) وصيّته بعبارة “من الوالد […] إلى الولد”، فهو (ع) أبو البشر جميعًا لا أب الحسن (ع) وحسب، هو الذي يخاف على نزوغ البشرية كما يخاف على أولاده وبنيه. ينقل إلينا حصيلة عمره، ويدعو الشباب الذين تتّقد فيهم شعلة الآمال والأماني أن يستفيدوا من خلاصة التجارب التي مرّ فيها (ع) على امتداد حياته. ويشدّد الشيخ المصباح أنّ الدليل على أنّ هذه الوصية لم تكن خاصة بالحسن (ع) أنّ علي (ع) اعتبر أنّ الشاب يلازم الهموم ويصاحب الأحزان، ويكون أسيرًا للأهواء النفسيّة ومغلوبًا لها، وهذا لا يكون مقام معصوم كالحسن (ع)[2].
وأهمّ تلك الوصايا التي أرادها الأمير (ع): “أوصيك بتقوى الله يا بنيّ ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأيّ سبب أوثق من سبب بينك وبين الله جلّ جلاله إن أخذت به”. التقوى هي خلاصة تلك المواعظ والوصايا وأساسها ومحور القيم فيها. وهي تعني أداء التكاليف وترك المحرّمات، ثمّ أداء الوظائف والواجبات، وذكر الله الذي يعمر القلب بالطمأنينة والحبّ الذي يجعل الإنسان يفكر ألف مرة في فعل الحرام أو أذية الآخر. وربط اليزدي كلّ عبارة بآية قرآنيّة، أي أنّه ربط بين تفسير كلام علي (ع) بآيات الكتاب العزيز لأنّه القرآن الناطق، لا ينطق عن هوى.
أمّا القلب ففيه الكثير من العناية، نسب الشيخ المصباح له الإدراك والمعرفة والمحبة[3][2] وأشياء أخرى. لم يكن القلب بالنسبة إليه مجرد عضلة وأعصاب، بل هو الروح التي تحرّك جميع الجوارح والجوانح. والقلب السليم هو موضع عرش الرحمان، يطلب الأمير (ع) إحياءه بالموعظة الحسنة، وإماتته بالزهد، أي العزوف عن الشهوات والميول الشيطانية.
فكان لتدبّر عاقبة الغابرين من الأمم والأقوام والشعوب أثر بالغ في اعتبار القلب من تقلّبات الحياة الدنيا وأخذ الدروس والعبر لاجتناب سيّئاتها من أجل عبور جادّة الحياة إلى الآخرة. ويوضح اليزدي أنّ أوّل شرط للسعادة هي سكوت الإنسان في الموارد التي يكون جاهلًا فيها، وترك ما لا يعنيه[4][3]، فـ”لا تبِع دنياك بآخرتك” كما يعبر أمير الكلام (ع).
وإن كان جوهر مواعظ الإمام علي (ع) رعاية الإنسان جانب الاحتياط في الحياة؛ فيجب على الإنسان أن يتكلّم حيث ينبغي، ويصمت حيث ينبغي، ولا يتدخّل في شؤون الآخرين من دون سبب، ويكون حذرًا من الضلالة والانحراف، ولا يتكلّم سوى بدافع الخير، ولا يبدي رأيه بما يشكّ فيه، حتّى يتضح له على ما ذكر الشيخ المصباح[5][4]. وهذا الأمر ليس إلّا باعثًا على التفات المرء إلى نفسه وعدم متابعة إلى الآخرين، لكنّ جلّ ما أراده أمير المؤمنين (ع) أن يكون المرء صالحًا في مجتمعه، وإنّ التكاليف الاجتماعية أعظم مكانة من التكاليف الفرديّة. وإنّ الله تعالى لم يبعث الأنبياء والرسل إلّا لأنّه أراد للمجتمع ككلّ أن يكون صالحًا، وصلاح الفرد هو مقدّمة لصلاح الجماعة، وإنّ أعظم الأفراد أكثرهم خدمة لغيرهم على قاعدة العلم والمعرفة والقدرة والعمل، وأوثق من ذلك حين يرتبط العلم بالعمل ويكونان توأمان في الساحة الاجتماعية.
وفي كلّ مناسبة، يشير الأمير (ع) إلى حقيقة الدنيا، وخداع مظاهرها من الطعام والمنام والملبس وسعة الدار وغير ذلك؛ لئلّا يرتبط بها المرء ارتباط المخلَّد فيها الكاره فراقها. فهي ليست سوى أيام قليلة تنحصر بسنيّ العمر المحدودة التي تنتهي بالموت فيفنى عندها كلّ شيء[6][5]، وهي ليست بشيء إذا ما قورنت بالحياة الأبديّة في الآخرة.
وإذا ما تأمّلنا وصية الإمام علي (ع)، فهي دستور حياة، يكفي المرء أن يفهمها ويعيها، ويطبّق ما فيها لكي ينجو بنفسه فردًا وجماعة إلى عزّ العبوديّة لله العظيم.
“يا بنيّ اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، لا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك! واستقبح لنفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس ما ترضى لهم منك! ولا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يُقال لك! واعلم أنّ الإعجاب ضدّ الصواب وآفة الألباب، وإذا هُديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك!”[7][6].
يختصر هذا المقطع من وصية الإمام (ع) ببلاغته كل أنواع الحب من معصوم إلى معصوم وإلى كلّ بني البشر. هذا المقطع الذي يعدّ دستورًا كاملًا لا شبهة فيه، واختصارًا لجملة من القوانين الفرديّة والاجتماعية التي لا يحتاج بعدها المرء إن طبّقها إلّا أن يصل إلى أعلى علّيين. وأيّ كلام فوق ذلك الكلام، وأي عبارة يمكن أن تُضاف!
ثمّ يكمل الشيخ اليزدي في شرح الوصيّة أنّ الارتباط بالله تعالى نعمة عظيمة جدًّا أُفيضت على الإنسان ليكون قادرًا في أيّ زمان شاء ودون الحاجة إلى وسيط أن يتحدّث إلى خالقه ويتّصل معه[8][7]. وهو ما يشير إلى سعة الرحمة الإلهيّة المطلقة التي على الإنسان أن يستفيد منها ويلتفت إليها، ويطلب منه تعالى الرحمة والفيض، والتي لا يمكن له سبحانه أن يبخل بها على عبده.
وهنا، يبرِز الشيخ أهمية الدعاء، وشروط استجابته ومعيار تقبّلها من الله، والسبب الذي يؤدّي أحيانًا إلى تأخر الإجابة. وأنّ الدعاء ما لم يكن اعترافًا عمليًّا صريحًا بعبوديّة الله، فهو ليس إلا لقلقة لسان لا تعود على صاحبه إلا بالتعب. وأنّ دعاء العبد الصادق المريد لله، المحقِّق لشروط الدعاء لا يمكن إلّا أن يُستجاب وفق ما تقضيه الحكمة الإلهية ومصلحة العبد التي يراها له ربّه تعالى، وقد تكون استجابة الدعاء على شكل عدم الإجابة.
وعلى الإنسان أن يكثر من ذكر الموت والتحضير له والارتباط بملك الموت لئلّا يأتي عليه فجأة فيرهبه. وعلى الزهد أن يكون منهجًا للحياة، والزهد ليس بأن لا يملك المرء شيئًا بل أن لا يملكه شيء. وأن يتخذ المرء مبدأ الاعتدال في إشباع ميوله في حدود الشريعة السمحاء.
“ولا تخُن مَن ائتمنك وإن خانك، ولا تذع سرّه وإن أذاع سرّك، ولا تخاطر بشيء رجاءَ أكثر منه، واطلب فإنّه يأتيك ما قسم لك، والتاجر مخاطر”[9][8]. هذه القيم الأخلاقية التي يذكرها الإمام علي (ع) يجب على المرء أن يتحلّى بها في كلّ أحواله. وللمفارقة، فإنّ الأمانة حسنة دومًا، في حين أنّ الصدق قد يكون في مورد الفتنة قبيحًا. والأمانة أوسع دائرة من أمانة المال، فهي تشمل السرّ الذي نسمعه، والوفاء بالعهد وغير ذلك.
ويذكر الشيخ المصباح في شرحه للوصية أنّ الأخلاق الاجتماعيّة وعلاقات الناس فيما بينهم له دور في تكامل البشر. فكما أنّ في الكون نظامًا مترابطًا متقنًا، وأنّ كل موجود من موجودات عالم الوجود يقع تحت مظلّة هذا النظام المحكم؛ ليكمل بعضه بعضًا، كذلك هي العلاقات الاجتماعية، إلّا أن الإنسان يختلف عن غيره بأمر أساسي، وهو أنّ تأثير البشر وتأثّرهم ونفعهم وضررهم تجاه بعضهم البعض يتبع إلى حدّ كبير إرادتهم واختيارهم، أمّا نفع وضرر سائر الكائنات الأخرى تجاه بعضها البعض هو أمر تكويني طبيعي[10][9]. لذا، كانت هذه العلاقات الاجتماعية نتيجة لإرادة الأفراد، فإن أرادوا ذلك كان له تأثير في تكاملهم المعنوي وعلوّ درجاتهم.
“ولا تكوننّ ممن لا ينتفع من العظة إلا بما يلزمه، فإنّ العاقل يتّعظ بالأدب، والبهايم لا تتّعظ إلا بالضرب”[11][10].
إنّ الحدّ الفاصل بين الإنسانيّة والحيوانيّة كون الإنسان قادرًا بما يمتلك من أدوات المعرفة أن يميّز بين الحقّ والباطل، وقادرًا أيضًا بما يمتلك من قدرة واختيار أن يعدّل أو يقوّي أو يضعف من ميوله ورغباته، في حين أنّ الحيوانات محرومة من جميع هذه المواهب، محكومة بالميول الغريزيّة. فلا نعجب حين يصف القرآن الكفّار بأنّهم كالأنعام بل هم أضلّ؛ لأنّ تمتّع الكفّار بالدنيا يكون على نحوٍ يدوسون بسببه على الميول الإلهيّة ويصرّون على تحقيق لذائذهم الدنيونيّة ضاربين بعرض الحائط ما يريده الله. في حين يمكن بكل بساطة أن يتمتّع المؤمن بلذائذ الدنيا دون أن يضرّ بأساسه الإنساني الذي أراده الله من خلاله أن يكون خليفته على أرضه.
الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه كتاب حياة وموعظة، وما أجمل أن تجلي الموعظة نقاء القلب والروح، وتزرع الإنسانيّة السمحاء المستقاة من رَوح الله صدر الإنسان فتُعليه عند الله وعند نفسه وفي مجتمعه؛ ليحقّق بذلك الهدف من خلقته.
 
 
[1][11]  الموعظة الخالدة، الصفحة 12.
[2][12]  المصدر نفسه، الصفحة 21.
[3][13]  الموعظة الخالدة، الصفحة 42.
[4][14]  المصدر نفسه، الصفحة 82.
[5][15]  المصدر نفسه، الصفحة 95.
[6][16]  المصدر نفسه، الصفحة 186.
[7][17]  الموعظة الخالدة، الصفحة 205.
[8][18]  المصدر نفسه، الصفحة 241.
[9][19]  المصدر نفسه، الصفحة 437.
[10][20]  الموعظة الخالدة، الصفحة 451.
[11][21]  المصدر نفسه، الصفحة571.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [3]: #_ftn3
  3. [4]: #_ftn4
  4. [5]: #_ftn5
  5. [6]: #_ftn6
  6. [7]: #_ftn7
  7. [8]: #_ftn8
  8. [9]: #_ftn9
  9. [10]: #_ftn10
  10. [11]: #_ftn11
  11. [1]: #_ftnref1
  12. [2]: #_ftnref2
  13. [3]: #_ftnref3
  14. [4]: #_ftnref4
  15. [5]: #_ftnref5
  16. [6]: #_ftnref6
  17. [7]: #_ftnref7
  18. [8]: #_ftnref8
  19. [9]: #_ftnref9
  20. [10]: #_ftnref10
  21. [11]: #_ftnref11

اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11138/maw3ezakhaleda/