التاريخ المنسي في أعماق الإنسان

التاريخ المنسي في أعماق الإنسان
 الإشكالية الفكرية التي يقع فيها الإنسانُ أثناء مساره الحياتي، تتجلَّى في بَحثه عن تاريخ الأمم والشعوب، ونِسيان تاريخه الشخصي الذي يعيش في أعماقه الداخلية. وهذه العملية ناتجة عن عدم تقدير الإنسان لنَفْسه، فهو يعتقد أنَّه مُجرَّد عُنصر هامشي في المجتمع الإنساني، ورَقْم عابر في الحضارة الكَونية، وهذه القناعة الوهمية التي تجذَّرت في أفكار الإنسان ومشاعره ناتجة عن ضغط النظام الاستهلاكي المادي، الذي جَعل الإنسانَ مَحصورًا في دائرة الوعي السلبي، ومُحَاصَرًا بالسلوكيات الاجتماعية التي تكرَّست كمُسلَّمات بفِعل العادات والتقاليد، ولَيس بفِعل الحُجَّة والمنطق. وهذا أدَّى إلى دَوَرَان الإنسان حول نَفْسه دُون أن يُفكِّر في اكتشافِ نَفْسه، وإخضاعِ أفكاره لقواعد المنهج العِلمي الذي يقوم على قُوَّة الأدلة وشرعية البراهين. والدَّوَرَان في هذه الحَلْقة المُفرَغة يُفَرِّغ الإنسانَ من طاقته الروحية، ويُفقِده الثقةَ بالنَّفْس، ويُجرِّده من امتداده المصيري في الوجود والمجتمع واللغة.
     إذا أرادَ الإنسانُ فَهْمَ العَالَم، ينبغي أن ينطلق مِن نَفْسه (نقطة البداية)، وذلك بالتَّنقيب في أعماقه الداخلية عن تاريخه المنسيِّ المدفون تَحت حُطامِ الذكريات، وأنقاضِ المشاعر، وأحلامِ الطفولة المَقتولة في مهدها. والعَودةُ إلى الذات هي الانطلاقة الحقيقية نَحْوَ العَالَم. وإذا اقتنعَ الإنسانُ أنَّه عَامِل في مَنجم ذِكرياته، سيعثر على الكُنوز التي لا تُقدَّر بثمن، لأنها تتعلَّق بحياته التي لن تتكرَّر، وتاريخه المُشتمل على أفراحه وأحزانه، وهذه الكُنوزُ هي شرعيةُ السَّلام الداخلي في كِيان الإنسان، ومشروعيةُ المُصالحة بين الأشواق الروحية والنزعات المادية. وكما أن الذهب يُسْتَخْرَج مِن التراب، كذلك الحُلْم الإنساني يُسْتَخْرَج مِن الألم. وكما أن البحر هو مقبرة حُطام السُّفُن الغارقة، كذلك الذاكرة هي مقبرة أحلام الإنسان الضائعة. وعلى الإنسان أن يتشبَّه بالمطر الذي يُحْيي الأرضَ المَيتة، ويَقوم بإحياء الأشياء التي ماتت فيه، واكتشاف الأحلام التي ضاعت في أعماقه.
   تاريخُ الإنسان لا يقلُّ تعقيدًا عن تاريخ الحضارة. وهذه الحقيقةُ تفرض على الإنسان _ في رحلة بَحثه عن تاريخه الشخصي _ أن يتحرَّك وفق مُستويات معرفية متعددة، ويُسيطر على روافد فكرية مُتنوِّعة، وهذا يستلزم بالضرورة مُحاولة التَّوفيق بين الأضداد الناشئة عن الأهواء والمصالح، وصَهر التناقضات الفردية والجماعية في بَوتقة إنسانية مُتجانسة. وطريقُ الإنسان إلى نَفْسه لَيس مفروشًا بالوُرود، بسبب التقلبات في مِزاجه وأفكاره ومشاعره، والتغيراتِ في بيئته ومُجتمعه. وهذا التَّحَدِّي الحاسم يَدفع الإنسانَ إلى رُكوب المَوجة المُوصلة إلى الشاطئ، بَدَلًا مِن الاصطدام بها والغَرَق. وبذلك تتحوَّل المِحْنة إلى مِنْحة، والنِّقمة إلى نِعمة. ورُبَّانُ السفينة يَعلَم أن تَحَدِّي البحر معركة خاسرة، لذلك لا يَصطدم به، وإنَّما يَستغل قُوَّةَ البحر من أجل إيصال سفينته إلى بَر الأمان.
 إذا استطاعَ الإنسانُ اكتشافَ إنسانيته في الوجود والمجتمع واللغة، فَسَوْفَ يُسيطر على المشاعر الداخلية التي تتأجَّج في أعماقه، ويتحكَّم بالعناصر الخارجية التي تُحيط به وتضغط عليه، لأن الوجود يُحدِّد دَورَ الأفكار في حركة التاريخ داخل كِيان الإنسان وداخل كِيان الحضارة، والمجتمع يُكرِّس العلاقة العقلانية بين قوانين التاريخ والأشكال الثقافية، واللغة تربط بين وسائل التواصل والدلالات الرمزية. واكتشافُ القِيَم المعنوية والمادية في هذه المفاهيم المتشابكة، والإمساك بكل الخُيُوط المعرفية وغَزْلها على شكل منظومة اجتماعية واعية، يُمثِّل المِحَكَّ الحقيقي لعلاقة الإنسان مع إنسانيته.
 
* باحث من الأردن.



المقالات المرتبطة

هل يمكن أن تحصل قراءة واحدة للنصّ الدينيّ؟

إن الأرض تتسع لمليارات البشر، وعند هذه المليارات تتنوع المعتقدات والشرائع وتتعدد، ولا تستقر علاقات الأفراد داخل الأمة الواحدة، أو علاقات الأمم والشعوب على أسس عادلة ما لم يحصل عند الجميع إقرار بالتنوع الثقافي، وبالتعدد في مواقع الإنتاج الحضاري.

التصالح المجتمعي بين الدين وعلمانية الدولة

يعالج هذا البحث التصالح المجتمعي بين الدين والعلمانية، وهو يبدأ بتعريف العلمانية، لينتقل بعد ذلك إلى معالجة التاريخ والنشأة،

الصوم والإصلاح

نحن اليوم على أعتاب شهر رمضان المبارك، والمسلمون مجمعون على اعتباره شهر الله، وربيع القرآن، والأهم أنه شهر التقوى. ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾1.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<