زينب (ع)، ورُشدُ السير والسلوك

by الشيخ شفيق جرادي | ديسمبر 25, 2020 9:53 م

طفلةُ دار الوحي كانت، نمت وترعرعت بين سكينةِ الإيمان، ورحمةِ الرحمن، وضجيج الحياة المثقلة بنار الغدر والحروب. والدروب المزروعة بالموت وقتل الشهادة.
زينب الحوراء، سليلة آل بيت محمد (ص). ورثت خيارًا ما حادوا عنه، ولا هي حادت. خيار “ذات الشوكة”. عرضت عليها الدنيا وعليهم، كل مفاتن الحياة من كل ما اكتنزته الدنيا من سلطة ومال ومُلك، ومغانم سلمٍ وحربٍ، بل ومما طوته الأرض وعَرَضَتْهُ على سطحها. ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾[1][1].
ما بين المـُلك، أو بذل الروح على درب العبودية للحق والمولى الحق.
الخيار كان… بذل الروح، إحقاق الحق، قطع دابر الكافرين.
الخيار كان… محمد النبي (ص)، وفاطمة نور سيدات العالمين (ع)، وأمير المؤمنين علي (ع)، وسيِّدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين (ع). لأنهم إرادة الله سبحانه المتجلّية في الزمن والحياة. “ويريد الله”. هم وجه الله، ومشيئته وإرادته ورضاه.
إذن، من هي الحوراء زينب (ع)؟!
إنها درب ذات الشوكة، خيار الصبر والبصيرة والشهادة، مظهر إرادة الله سبحانه المتجلّية في قلوب الموالين.
عالمةٌ غير مُعلَّمة.
لطالما تحدّث أهل البيت حول موقع السيدة زينب (ع) عند النبي (ص) الذي أنبأ أمَّها الزهراء (ع) حول رفعتها وابتلاءاتها، ولطالما تحدّثوا حول ما كانت تُمثِّلُه عند أمها فاطمة (ع)، وكونها مستودع أسرارها وأماناتها الغيبية. من ذلك، أمانة رحمة الأمومة التي أودعتها للحسين (ع) عند وداعه الأخير في كربلاء. وتحدّثوا حول حب الأمير لها. وأنها مثيرة دَمْعِه عند فراقه الدنيا، وهي كفُّ الحب الذي كان يمسح عن قلبه وجع الناس وأهوال الأيام، بعد الزهراء (ع). تحدّثوا عن وقع حضورها بين إخوتها سيّما الحسن والحسين (ع)؛ وعن تربيتها لكفيلها العباس. وتحدّثوا عن عبادتها وصلاتها وتأمّلاتها وكلامها وحكمتها…
أضف أنهم وصفوها بالعالِمة غير المـُعلَّمة.
فما معنى أن يكون إنسانٌ ما، في وسط عائلة وبيئة هي مصدر كل علم ومعرفة إلهية ووحيانية، غيرُ مُعلَّم؟! علمًا أن هذا الفرد من الناس، هو فريد في اهتمامهم به، وحبهم له. كيف يمكن لمن علّموا الدنيا أن لا يُعلِّموا قُرَّة أعينهم؟!
أكاد أقطع، أن السيدة زينب (ع)، نالت من شرف العلوم أشرفها على يد آل بيت الوحي والنبوة، وقد اكتسبت منهم ما لا يطيقه كثيرون.
لكنني أميل أن هذا الخبر (عالمةٌ غير مُعلَّمة) يشير إلى نحو من العلم الخاص، الذي لا يحصل عليه المتعلّم بالطُرُق التقليدية.
فالعلمُ إمَّا بإلقاء الأستاذ الكلمات والمقولات والمعاني والمقاصد على المـُتلقي؛ وإمّا أن يكون بما يفتحه الأستاذُ من إرشاد لعقل المـُتلقي وقلبه نحو منابع المعرفة ومظاهرها الدالّة عليها أو الموصلة إليها. أو بتوجيهه نحو التأمّل والتفكير والاستنتاج. وهذا كله مما هو سائدٌ لدى كل جماعة وشعب وأمة من صنوف العلم والفهم.
إلا أن هناك نحو من العناية الخاصة بقلب ووجدان وعقل المـُسترشد بحيث تُفتَحُ روح مداركه على أصل العلم ومصدره ومنبع الفهم وسلسبيله. فيتعلّم دون إلقاء أو توجيه. وهو ما يُسمّى بالعلم الإرثي، أو العلم اللدنّي. إنها التزكية، وعلى طريقة أهل البيت (ع).
تزكيةٌ تصبح فيها الصلاة كما الصيام والحج والزكاة وكافة العبادات الفردية والجماعية، لسانًا ينطق بما عند الله سبحانه – مصدر الوجود والعلم – من معارف وحقائق. العبادات علم، لكنه علمٌ يتكفّله الله، ويعلمه العابد الذي أنشأته التربية والولائية لآل بيت الوحي والنبوة. ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾[2][2].
تزكيةٌ، تجعل من الأرض وما انبسط فيها، والسماء وما استنارت به، آياتٌ تقع عند النفس موقع الآيات المحكمات، فتُبَيِّن معايير وحقائق الفرقان بين كل حق وباطل، وحقائق وأوهام. إنها نحو من التربية التي ترتاض النفس فيها على جعل المشهد الظاهر إلى روح لأسرار ما خلفه، فيصدح العقل والقلب ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ﴾[3][3].
تزكيةٌ، تجعل من آيات التنزيل للكتاب العزيز كلامًا إلهيًّا مباشرًا يخاطب فيه المولى سبحانه ذات المـُسترشد، بما لا يطيقه أهل التقليد والجمود، وأصحاب الهوى، وأصحاب العلوم الاكتسابية الاعتبارية.
هنا يصير المرء في سيره وسلوكه الذي ورثه عن الرسل والأنبياء والأوصياء المعصومين ممن يرث العلم حيًّا عن حي؛ إذ حياة أهل العصمة والصلاح لا تنقطع، كما ويصبح صاحب علم لا يُعلَّم، وهو ما يسمّيه أهل الفنون بالعلم اللدنّي.
وأسباب ذلك تعود لما أسلفنا من تأديبات وارتياضات وتزكية نبوية للذات، حتى تنفتح على الفيض الإلهي. كما تعود للمسلك العملي من يوميات المرء في حياته ومواقفه وأخلاقياته، وذلك عَبْرَ مراعاة الشريعة السمحاء في كل أمر وخيار. كما يلتزم أصول التقوى في كل مفاصل العُمر. ولا يخفى ما للتقوى من آثار عجيبة منها أن الله مع المتقين ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[4][4]. وأنها خير الزاد ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[5][5]. ومنها أن التقوى سبيلٌ من سُبُل التعلُّم عن الله سبحانه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[6][6]. وبالتالي فهم أحباب الله ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[7][7]. كما أنه سبيل النجاة من المكائد ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾[8][8]. وهو سبيل مَدَد النصر الإلهي ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾[9][9]. وهكذا فإن سبيل التقوى هو الذي يورث الولاية الإلهية. ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَ الْمُتَّقُونَ﴾[10][10].
كل ما يتصل بالتقوى من علائق ومسالك وصراط حب وهداية هو الذي يؤسِّس للولاية الإلهية المـُرَبِّية للإنسانية على كمال الذات، وبالتالي على حياتها وأخلاقها وعلمها وولايتها. فنفس التقوى هي المورثة للعلم الإلهي والتعلُّم من الله سبحانه. كما أنها تورث البصيرة للخروج من مصائد إبليس ومكائد الفتن ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾[11][11].
والملفت هنا، أنه في كل مرة اقترنت التقوى بالصبر جاءت الآيات لتتحدث حول المدد الإلهي. ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾، ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ﴾. وهكذا، عندما يكون مطلع الآيات ﴿إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا﴾، مما يوحي أن التقوى هي منشأ البصيرة إن لم تكن هي عينها. فالعالِمةُ غير المـُعلَّمة أي صاحبة البصيرة النافذة بفعل روح العبودية وحصن التقوى إنما كانت بذلك وليةً من أولياء الله. حتى إذا ما اقترنت بالصبر حتى اتصفت بجبل الصبر زينب أولاها ربها كل المدد؛ لتصير رمز الحق المحمديّ العلوي الحسيني الذي يفتح للقائم درب التحقيق النهائي للوعد الإلهي.
فالعالِمةُ هي العاملة، المجاهدة، العابدة، والأم المربية، المزكية، وهي التي رسمت لأصحاب السير والسلوك إلى الله صراط الجُهد والجهاد الإيماني الذي أورث كل موال عميق اليقين واستقامة الحياة.
[1][12]  سورة الأنفال، الآية 7.
[2][13] سورة الكهف، الآية 65.
[3][14] سورة آل عمران، الآية 191
[4][15]  سورة البقرة، الآية 194.
[5][16]  سورة البقرة، الآية 197.
[6][17]  سورة البقرة، الآية 282.
[7][18] سورة آل عمران، الآية 76.
[8][19] سورة آل عمران، الآية 120.
[9][20]  سورة آل عمران، الآية 125.
[10][21]  سورة الأنفال، الآية 34.
[11][22]  سورة الطلاق، الآية 2.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn1
  2. [2]: #_ftn2
  3. [3]: #_ftn3
  4. [4]: #_ftn4
  5. [5]: #_ftn5
  6. [6]: #_ftn6
  7. [7]: #_ftn7
  8. [8]: #_ftn8
  9. [9]: #_ftn9
  10. [10]: #_ftn10
  11. [11]: #_ftn11
  12. [1]: #_ftnref1
  13. [2]: #_ftnref2
  14. [3]: #_ftnref3
  15. [4]: #_ftnref4
  16. [5]: #_ftnref5
  17. [6]: #_ftnref6
  18. [7]: #_ftnref7
  19. [8]: #_ftnref8
  20. [9]: #_ftnref9
  21. [10]: #_ftnref10
  22. [11]: #_ftnref11

Source URL: https://maarefhekmiya.org/11382/sayyedazainab7/