تجلّيات الشهيد أبو مهدي المهندس في مفهوم لذة الموت وكراهة الحياة في نصوص أمير المؤمنين (ع)

تجلّيات الشهيد أبو مهدي المهندس في مفهوم لذة الموت وكراهة الحياة في نصوص أمير المؤمنين (ع)
 
ثنائية الموت والحياة من الثنائيات التي يدخلها الإنسان بكلا طرفيها، فهو في مسيرته الوجودية يتقلّب على الموت والحياة، كما قال خالق هذا الموجود والمطّلع على مسيرته الوجودية بتمامها وهو الله تعالى: ﴿وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[1]؛ فهذه الآية المباركة تشير إلى أن الإنسان في حركته الوجودية لا يخلو عن الاتصال بطرف من أطراف هذه الثنائية، فهي حاكمة على هذا الموجود، ولا تنفك عنه بحالٍ من الأحوالِ، وهي كغيرها من الأمور والأحكام الوجودية الحاكمة على الإنسان سواء عَلِمَ أم لم يعلم، وسواء تعاطى معها بشكل إيجابي أم سلبي فهو محكوم لها، وغير منفك عنـها فـي مسيرته الوجودية، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ﴾[2]. فهذا الكدح، وهو الذي يمثّل الحركة الوجودية للإنسان نحو مركز وحقيقة الوجود وهو الله تعالى، أيضًا حاكم على هذا الإنسان كحاكمية الموت والحياة، ومن هنا جاءت الأديان بتعاليمها النظرية والعملية المعرفية والسلوكية لتحقيق غاية مهمة وهي جعل الإنسان منسجمًا مع هذه المسيرة بنحو كامل، بحيث لا يصطدم ولا يُفاجأ بما سيلاقيه، وقد ذكر لنا القرآن الكريم أن كثيرًا من الناس يُفاجأ وينصدم بما سيلاقي في هذه المسيرة بسبب عدم المعرفة من جهة، وعدم الاستعداد من جهة أخرى، والانشغال بأمور وقضايا تبعده عن النتائج الوجودية الحتمية التي سيلاقيها ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّـىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئـًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَـهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[3]، فمثل هذا الإنسان جاهل بما سيلاقيه، ولكن جهله لم يمنعه من أن يلاقي ما هو مقدّر له في هذه المسيرة، ومن هنا نعرف أهمية الأخبار التي وردت لتنبّه الإنسان وتحثّه على الاستعداد لما بعد هذه الحياة، والذي يبدأ بموته، فقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): “رحم الله امرأ عدّ لنفسه واستعدّ لرمسه، وعلم من أين، وفي أين، وإلى أين”؛ فالرمس هو الموت وما بعده بما سيلاقيه الإنسان ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فبصرك اليوم حَديد﴾[4]. والاستعداد لما بعد الموت يكون بالعمل والسلوك، وعلم من أين وإلى أين هو معرفة هذه المسيرة الوجودية الحاكمة على هذا الإنسان، وهنا انقسم الناس إلى قسمين: مؤمن آمنَ بهذه المسيرة، وعمل لها، وكافرٌ كفر بها ولم يستعد للقاءِ يومه هذا، ولكن كفره لن يكون مانعًا عن تحقيق هذا اللقاء.
ما هــو الموت؟
في تقلّب الإنسان بين الموت والحياة نجد أكثر الناس يخافون الموت ويفرّون منه، وبالمقابل نجد من يعشق الموت ويصل به هذا العشق إلى أن يهيم في ساحات الوغى وميادين الجهاد بحثًا عن الموت، كما شهدناه مع شهدائنا أخص منهم الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس “رضوان الله عليهما”؛ لأنهما كانا ممن يأنس بالموت استئناس الرضيع بمحالب أمه.
فما سرّ الخوف من الموت والعشق له؟ هل هو بمعرفة الحياة وخسّتها ودناءتها في نفوس عشاق الموت أو عظمتها ومحبتها في قلوب الخائفين من الموت؟ أم السر في معرفة الموت نفسه الذي يراه عشاقه بابًا للقاء المحبوب الأكبر وهو الله تعالى وسائر الأحبة من النبيين والصديقين والشهداء، بينما يراه الخائفون منه عدمًا ومفارقة لكل ما هو جميل ومحبوب؟ أم أن السر يكمن فيما يعتقد الإنسان أنه سيلاقيه بعد الموت، فعشاقه يعتقدون أنهم سيلاقون نعيمًا مقيمًا فتتوق أنفسهم إليه، والخائفون منه يرون ما بعده ظلمة وعذابًا أليمًا؟ وهنا لا بدّ أن نتوقف مع الموت وما بعد الموت لنرى ماهي فلسفة الموت.
تشير الآيات والروايات التي تتحدّث عن الموت أن الموت هو عملية انتقال من دارٍ إلى دارٍ، كما قال أمير المؤمنين (ع)، ولكن هذا الانتقال يصاحبه انفصال الروح عن البدن، فتذهب الروح في عوالمها ويبقى البدن في عالمه، وهنا تكمن فلسفة الموت، فلا بدّ للإنسان أن يكمل مسيرته الوجودية بالخروج من هذه النشأة، ففي الموت وانفصال الروح عن البدن هناك من يراه، أي الموت، من خلال الروح ومسيرتها في عوالم الملكوت فيشاهده أمرًا جميلًا، فهو انفتاح على عوالم أوسع ونشأة نورانية أعظم، وهنا يتحقّق عشق الموت، وهناك من يرى الموت من خلال مسيرة البدن فيراه قبر مظلم يسكنه الدود والضيق والضنك، ولا يرى من خلاله أي بصيص نور، وهنا يتحقّق الخوف من الموت، يراه الأول لقاء، ويراه الثاني فراق، يراه الأول نور، ويراه الثاني ظلمة، يراه الأول سعة، ويراه الثاني ضيق. من هنا نعرف أن الموت نفسه هو حالة طبيعية، كما عبّر عنه النبي (ص) بقوله: “كما تنامون تموتون وكما تستيقظون تبعثون”، فهذا التعبير يعبّر عن الموت بهدوء تام، ولكننا نرى في الموت صخب، فهل هذا الهدوء هو حقيقة الموت والصخب ما نراه نحن، أم أن الأمر بالعكس؟ فللأشياء فلسفة وقيمة في نفسها لكن الإنسان في كثير من الأحيان لا يدرك هذه الفلسفة والقيمة الواقعية لها، بل هو يتعايش ويتعامل معها من خلال رؤيته وتقييمه لها، وهذه الرؤية وهذا التقييم يخضع لمعادلة الذات البشرية بمكوّناتها الذاتية الإيجابية والسلبية، وهذه المعادلة عادة ما تشكّل حجابًا يحتجب به الإنسان ويرى الأمور والأشياء من خلاله، ويختلط هذا الحجاب بالغفلة مما يجعل الإنسان بعيدًا عن الواقع كل البعد، ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[5]، ومن اللطائف أن يخضع الإنسان لهذا الحجاب وهذه الغفلة خضوعًا تامًّا ويحوّلهما إلى فلسفة حياة، فيقول: إن للأشياء مقامين: مقام الشيء في ذاته، ومقامه الشيء لنا. فيجب علينا أن نتعامل مع الأشياء بحسب مقامه لنا، أما مقام الشيء في ذاته فهو خارج عن قدرة إدراكنا ولا يدخل ضمن مسؤوليتنا، بينما نجد الشرائع السماوية تطلب من الإنسان أن يخرج من هذا الحجاب وهذه الغفلة ليتعرّف على الأشياء من خلال واقعها هي، لا ما يراه هو بواسطة احتجابه وغفلته، فقد كان دعاء رسول الله (ص): “اللهمّ أرنا الأشياء على حقيقتها”. وكذلك ذكر القرآن النبي إبراهيم (ع) بأنه ممن عرف الأشياء على حقيقتها ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾[6].
 كذلك تطالبنا الشريعة في الآيات والروايات أن نرفع الحُجب ونخرج من الغفلة لننظر في ملكوت السموات والأرض قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾[7]. وكذا ورد في الروايات “أكثروا طرق باب الملكوت فمن أكثر طرق باب الملكوت كاد أن يفتح له”، وعن النبي (ص) قال: “لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا في ملكوت السموات”، وفي الأدعية السجادية المباركة “اللهم أخرجنا من نوم الغفلة واسلك بنا لمحبتك سبيلاً سهلة”، فالكثير من الآيات والروايات تطلب من الإنسان أن يخرج من الغفلة، ويرى الأشياء على ما هي عليه في نفسها، ويتعامل معها على هذا الأساس، فلو علم الناس حقيقة الموت والحياة كما عرفها الأولياء والعلماء والشهداء لتعاملوا معها تعاملًا ينسجم مع طبيعة كل واحد منهما، فلا يتعلقون بالحياة لأنها زائلة، ولا يخافون من الموت لأنه بوّابة استكمال المسيرة الوجودية للإنسان.
ما هي الدنيا؟
الحديث عن الموت والحياة يقابله الحديث عن الدنيا، فما لم نعرف الدنيا وحقيقتها فلا يمكن لنا معرفة الموت والآخرة من جهة، والتعامل معهما بطريقة صحيحة من جهة أخرى، ومن هنا نجد البيانات القرآنية تؤكّد على ضرورة معرفة الدنيا وعدم تبديلها بالآخرة من خلال الانشغال بها والغفلة عن ما سواها فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ﴾[8]، وهذا هو الخسران المبين لأن الحياة الدنيا في حقيقتها لعب ولهو وكما قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[9]، فبيع الآخرة بالدنيا دليل على نقصان العقل عند الإنسان البائع، كما قال القرآن: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[10]، وكذلك يشير القرآن إلى نكتة لطيفة من خلال ربط الجهاد والقتال في سبيل الله بهذه المعاملة فقال: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾[11]. فمن اشترى الدنيا بالآخرة فلا يمكنه الجهاد في سبيل الله تعالى، أما من اشترى الآخرة بالدنيا فهو من يقاتل ويجاهد في سبيل الله، فمعرفة الدنيا والزهد بها هو بوابة الجهاد في سبيل الله تعالى.
من هنا نجد الاهتمام الخاص من قبل النبي والأئمة (ع) بتبصرة الناس بأمر الدنيا، فإن الأمر لا يستقيم إلا بالبصيرة والمعرفة بحقيقة الدنيا والآخرة، فقد ورد الكثير من الكلمات الصادرة عنهم وبالخصوص أمير المؤمنين علي (ع) في نهج البلاغة كان كثيرًا ما يذكّر الناس بأن الدنيا دار فناء وغرور، فقد ورد في نهج البلاغة أنه قال: “ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغِير وعِبر فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه، لا تخطي سهامه، ولا توسي جراحه، يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب، آكل لا يشبع وشارب لا يقنع”[12].
وكان يبين للناس أن الدنيا ليست غاية في نفسها وإنما هي قنطرة يعبر الإنسان من خلالها إلى الآخرة، ومزرعة يزرع فيها الإنسان العمل ليحصده في الآخرة، ومضمار يتسابق به الناس لنيل الدرجات في الآخرة، فقد قال (ع) في إحدى خطبهِ: “أما بعد، فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بالوداع، وأن الآخرة قد أقبلت وأشرفت بأضلاع، ألا وإن اليوم المضمار، وغدًا السباق، والسبقة الجنة، والغاية النار… ألا إنكم في أيام أمل من ورائه أجل فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله، ولم يضره أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله”[13]. وكذلك يربط عليه السلام في خطبة أخرى تبعًا للقرآن بين حب الدنيا وترك الجهاد في سبيل الله تعالى، فيقول مخاطبًا الناس: “أف لكم فقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضًا؟ وبالذل من العز خلفًا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يُرْتَجُ عليكم حواري فتعمهون، وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون”.
فهذه الآيات والأخبار تشير إلى أن حب الدنيا ناتج عن الجهل بحقيقتها والاغترار بها، وهو سبب رئيس لكراهة الموت وترك الجهاد ولا يمكن للإنسان أن يكون من أهل الجهاد في سبيل الله تعالى، إلا إذا تبصر بأمر الدنيا وعرف حقيقتها وأعطاها وزانها وهذا ما بيّنه الإمام (ع) في إحدى خطبه، إذ قال للناس: “فلتكن الدنيا في أعينكم من حثالة القرض، وقراضة الجلم، واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم، وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم”. ومن هنا نعرف لماذا ربط أمير المؤمنين (ع) بين الجهاد والولاية؛ فجعل الجهاد خاصًّا بالأولياء كما ورد عنه في خطبة أنه قال: “أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقه، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءه، وضرب على قلبه بالاسهاب، وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف”. فهذه النصوص تكشف عن مقام الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، وتكشف عن طبيعة نظراتهم للدنيا ومعرفتهم بها، وأنهم ما سلكوا هذا السبيل إلا لزهدهم فيها وحرصهم على لقاء الله في الآخرة.
كيف كان الشهداء ينظرون إلى الدنيا؟  
من خلال ما تقدّم من النصوص يمكن لنا أن نعرف نظرة المجاهدين إلى الدنيا لا سيّما الشهداء، وهم من توّجوا الجهاد بالشهادة، وكانت هي الدليل على صدق جهادهم وتوفيقهم في هذا الطريق. وكذلك من خلال الاطلاع على سيرة شخص ما ومعرفة سلوكياته يمكن لنا أن نعرف ما هي رؤيته للحياة وللموت؛ لأن الإنسان وكما قال القرآن كل يعمل على شاكلته؛ فالشاكلة تظهر في سلوكيات الشخص، وهذا ما يفعله العلماء اليوم وخصوصًا علماء النفس فهم يحلّلون سلوك الإنسان ليغوصوا من خلاله إلى أعماق نفسه، ويسعون لكشف مكوناتها.
فنحن في هذا البحث يمكن لنا أن نعرف نظرة القائدين الشهيدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس “قدس الله نفسهما” إلى الدنيا من خلال رؤية زهدهما فيها، وإقبالهما على الآخرة بكل وجودهما، فكلاهما فتحت له الدنيا ذراعيها ودعته إلى نفسها، لكنهما رفضا هذه الدعوة، واستجابا لداعي الله تعالى، فاشتروا الآخرة بالدنيا وكانت شهادتهما دليل على صدق جهادهما.
زهد الحاج أبو مهدي المهندس بالدنيا.
سيرة الحاج جمال أبو مهدي المهندس تشهد على زهده بالدنيا منذ بداية حياته، فقد سلك سبيل الجهاد في بداية شبابه، وهو الشاب الجامعي الذي تلوح أمام ناظره فرصة الحياة لا سيّما في ذلك الزمان، فكانت شهادته في الهندسة تفتح آفاق المستقبل سواء داخل العراق أو خارجه، ولكنه رفض هذه الفرصة التي كانت تمثّل في عينيه الدنيا وهي فاتحة له ذراعيها وتناديه لينشغل بها ويُعرِض عن الآخرة بأعلى درجاتها، وهي درجات المجاهدين، فبصّره الله تعالى بها وما ذلك إلا دليل على توفيقه الناتج عن إخلاصه لله تعالى، فاختار سبيل الجهاد مُعرضًا عن الدنيا، مخاطبًا إياها غرّي غيري، فقد بصّرني الله تعالى دائكِ ودوائكِ، فعيشك قصير وخطرك يسير، وما نقص منكِ زاد في الآخرة، وما زاد منك نقص في الآخرة فكم من منقوص رابح ومزيد خاسر.
فتوجّه بكل كيانه نحو الله تعالى والجهاد في سبيله حتى حاصره النظام البعثي واستطاع الخلاص منه بفضل الله تعالى، وتوجه نحو الكويت يحمل معه شهادته مما جعل الدنيا تناديه مره أخرى طالبة منه الالتفات إليها والانشغال بها، فعمل فترة في الكويت مهندسًا ولاحت أمامه فرصةُ الحياة والعيش الذي يسمّى بالعيش الكريم، وهو الذي عبّر عنه القرآن بقوله: ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ﴾[14]، لكنه كان من أهل البصيرة مقبلًا بقلبه على الله تعالى، فلمّا علم الله تعالى منه الوفاء ورأى منه الجهاد في سبيله هيّأ له السبل، وجمعه بالمجاهدين مرة أخرى، ودوى في سمعه قول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[15]. فتوجّه إلى معقل العشق وقبلة المجاهدين دولة التمهيد للمشروع الإلهي العظيم، دولة الإمام الخميني “قده” ليكتمل هناك ما بداه في العراق من الجهاد ضد النظام البعثي الذي عاث في الأرض فسادًا، وأهلك الحرث والنسل، والذي جعل من نفسه رمحًا بيد الشيطان، ليطعن به خاصرة دولة التمهيد المهدوي، فوقف شهيدنا يدافع مع باقي إخوانه من المجاهدين عن هذه الجمهورية المباركة، وكان هذا من أبرز معالم التوفيق أن يقف الإنسان مدافعًا عن هذه الجمهورية التي سخّر الله تعالى لها جده في الأرض للدفاع عنها، فمن يتابع مسيرة هذه الثورة المباركة يجدها محمية بجند الله تعالى في أرضه، فدافعت عنها الريح عندما أسقطت الطائرات الأمريكية في طبس بعد أن خطط أعداؤها لهذه العملية لتكون عملية صامته وناجحة، فأفشلها الله تعالى وكانت هذه كرامة واضحة من كرامات هذه الثورة، كما دافعت عنها المياه التي كانت تعيد الشهداء إلى أماكنهم بكل هدوء ودفء، كما ذكر الحاج قاسم سليماني في لقائه الأخير، ودافعت عنها حتى الخلايا السرطانية التي ذكر الأطباء في طهران أنها أوقفت نشاطها في جسم الإمام الخميني “قده” عشر سنوات بعد انتصار الثورة منذ العام 1979 لأسباب مجهولة، كما قالوا، وهذه الأسباب مجهولة عند الأطباء لكنها معلومة عند الأولياء، وقالوا لو أن هذه الخلايا لم توقف نشاطها لتسببت بوفاة الإمام الخميني أثناء الحرب المفروضة، ولمّا عاودت هذه الخلايا نشاطها بعد انتهاء الحرب توفي الإمام الخميني، وهذه أيضًا من الكرامات الواضحة لهذه الثورة المباركة والتي تكشف أن أعداء هذه الثورة والمحاربين لها الساعين للقضاء عليها هم أسوأ من كل الخلايا السرطانية.
فوقف شهيدنا مدافعًا عن هذه الثورة بروحه وبكل ما يملك، وبقي وفيًّا لها مخلصًا لنهجها ما بقي من حياته. وبعد سقوط النظام البعثي في بغداد بدأت مرحلة جديدة من الاختبار للمؤمنين المجاهدين كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾[16]. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾[17]. وقال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا…﴾[18]. ولكن المؤسف في هذا الاختبار أنه سقطت الكثير من الأقنعة والشخصيات بينما الشهيد المهندس بقي شامخًا، ونجح في هذا الاختبار نجاحًا باهرًا، فبعد أن أصبح عضوًا في البرلمان العراقي كانت أمامه الكثير من الفرص التي يتمكن من خلالها أن يصبح كغيره ممن ملكوا الملايين، بل المليارات من الدولارات ليقنعوا أنفسهم أنها تعويض عما ضاع من أعمارهم في طريق الجهاد والمعارضة، لكنه كعادته رفض الدنيا، بل ترقّى عنها إلى درجة أنه لم يستلم حتى الراتب الذي خُصِّص له بعد أن اضطر للخروج من العراق، وذلك عند ملاحقة الاحتلال الأمريكي له، ولا زالت الدنيا تطرق بابه مرةً بعد مرة فاتحةً له ذراعيها راجيةً منه أن يلتفت لها، لكنه أبى إلّا الزهد بها، وعدم الإصغاء إليها، ففي آخر حياته عُيّن بمنصب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي التي تشكّلت بعد احتلال داعش لأجزاء واسعة من الأراضي العراقية، وكان منصبه والوضع الذي دخلت به البلاد يفرض عليه أن يكون له حمايات كغيرة من المسؤولين، لكنه كان من طلاب الشهادة الذين تخرجوا من مدرسة أمير المؤمنين الذي كان يطلب منه الناس أن يكون له ما يحميه في المعارك وغيرها، فكان يكرّر على مسامعهم (كفى بالأجل حارسًا).
 نعم فقد كان الحاج المهندس ممن يبحث عن الشهادة في ساحات الجهاد ولم يكن ممن يفر من الموت، ومنذ تسلّمه هذا المنصب لم يرَ منه المجاهدون والناس إلا الزهد في الدنيا والتواضع لله تعالى وللناس، والسعي في قضاء حوائج المؤمنين فكان صادقًا بإيمانه بالله تعالى، مخلصًا له، مجاهدًا في سبيله، فكان بحق من الرجال المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه حتى كتب الله له الشهادة في هذا الطريق على يد شر خلقه، فقضى نحبه شهيدًا كما كان يرجو، وكانت شهادته نِعم الأجر على إخلاصه وجهاده في سبيل الله كل هذه السنين هو ورفيقه الحاج قاسم سليماني رحمهم الله تعالى ومن استشهد معهما وجميع الشهداء. اللهم ارزقنا شفاعتهم يوم الورود.
 
 
 
[1]  سورة البقرة، الآية 28.
[2]  سورة الانشقاق، الآية 6.
[3]  سورة النور، الآية 39.
[4] سورة ق، الآية 22.
[5]  سورة الروم، الآية 7.
[6]  سورة الأنعام، الآية 75.
[7] سورة الأعراف، الآية 185.
[8]  سورة البقرة، الآية 86.
[9] سورة الأنعام، الآية 32.
[10]  سورة الملك، الآية 10.
[11]  سورة النساء، الآية 74.
[12]  نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الصفحة 224.
[13]  نهج البلاغة، الخطبة رقم 28.
[14]  سورة محمد، الآية 12.
[15]  سورة التوبة، الآية 24.
[16]  سورة العنكبوت، الآيتان 2 و 3.
[17]  سورة آل عمران، الآية 142.
[18] سورة البقرة، الآية 214.



المقالات المرتبطة

الحركـة الجوهريـة والدِّيـن

تتَقَاطعُ الفلسفة عمومًا مع الدّين في المسائل العامة التي تكون موضع بحث مشترك فيما بين الاثنين، ويتمايزان من بعضهما بأن لكلٍ طريقته في الوصول والإيصال

كربلاء قراءة جديدة

استشهد الرمز الديني الأعظم في الأمة الإسلامية عام 61 للهجرة، في ظروف خاصة تجعل من الحادثة حالة استثنائية،

البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)

لقد حمل بين ثنايا روحه العميقة بعضًا من محمّد (ص) وعلي (ع)، ذاب بهما حتّى بانت صرافة روحه وسماحتها، وتشبّهت بهما؛ فالشيء لا ينسجم إلّا بما يسانخه في الجوهر والتركيب.
فما هو معنى البساطة في منهج الإمام الخميني (قده)؟ وكيف جسّدها في حياته العمليّة؟

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<